ملبورن -عبدالله الحكيم:أول مرة رأيت فيها الناس وسط ملبورن كانت منتصف يوليو أو ما بعد بشيئ قليل. وصلنا الى هناك في وقت متأخر. افترقت عن اصدقائي لاسباب اكاديمية فقد سافروا في الليلة نفسها الى برسبين وبقيت أقرأ الشوارع وحدي منتصف الليل. لم أكن أعرف الى أين أذهب بعد ان اطلقوا صراحي من المطار بضمان أنهم وجدوا في جواز سفري تأشيرة. سألوني من أين حصلت عليها فقلت لهم حصلت عليها بما يعادل 120 دولارا استراليا من أحد وكالات السفر، واما بقية المحتويات فلا علم لي بشيئ منها.
صدقوني طبعا بعد قليل من التردد، وقال لي واحد عسكري هل يوجد لديك عنوان أكيد هنا في ملبورن.. كيف اذن تسير هكذا نصف الليل وحدك.. بقيت صامتا لبضعة دقائق وكانت عيناي تنظر الى الكلاب وهم تشم الحقائب أمام المسافرين هكذا علنا، وقلت لنفسي لا توجد لدي ممنوعات فلماذا اتحاشى الكلب، وهكذا تجاوزني الكلب وسمحوا لي بتجاوز اخر فتاة سمراء تعمل مع البوليس ووجدت قدماي تقفان خارج المطار بشكل عادي فوق الاسفلت.
وبالصدفة جاء واحد صيني ولا ادري كيف نبت من احد الجدران الخلفية للمطار وقال لي اذا دفعت لي أجرا مجزيا فسوف اخذك الى فندق تبيت فيه هذه الليلة.. سرنا في طرقات طويلة جدا، ورأيت كثيرا من الصينين يقودون السيارات ويذرعون سكك الأسفلت الفاخر بسرعة مدهشة، ولم أشاهد بعد الحادية عشر مساءا استراليا واحدا في الشارع، ولولا احساسي بتقاليد الهندسة الأوربية للشوارع والمباني لقلت يا الهي الصينيون سرقوا قطعة من بلادهم وهربوا بها الى الخارج.
قابلت سيدة في الاربعين من عمرها. اخذت حقائبي ودفعت بي الى غرفة صغيرة تشبه زنزانة انجليزية من القرون الوسطى فارتميت على السرير مثل قتيل لا ادري من سوف يأتي ولا من سوف يذهب وفي الصباح خرجت الى الشارع ورأيت الصينيين ينتشرون مثل ياجوج وماجوج في كل نواح ملبورن.
انهم يديرون التجارة ويقودون التكاسي وينجبون الأطفال ويندسون وراء الترامات وأحيانا يقرأون الأنجيل ويسجلون المخالفات العامة وقطعا فهم عما قريب سوف يسيطرون من خلال اقتراعات نزيهة على الحكومة. وحتى عندما انتقلت بعد ثلاثة أيام الى ضاحية مالفيرن اقصى الجنوب، وسكنت مع فيليب التعيس وزوجته السمينة أنتابني قلق الوحدة، ولأنني أعاني من ديموفوبيا مستديمة فقد قلت لمرلين السمينة لا اجل الله لا اريد احدا يدخل هذه الغرفة.. وفجأة جاءا الزوجان وقالا لي لا تقلق ففي الطريق ضيف جديد.. ولم اكن اتوقع أكثر من ضيف عادي يساند العائلة الكئيبة في دفع مصاريف الافطار، ومع ذلك ظهر الضيف مؤخرا وأكتشفت أنه لم يكن بأكثر من فتاة صينية لا يزيد طولها عن خمسة أشبار.
يتحدث الصينيون الانجليزية بطريقة صرفة ويفهمون جيدا نقاط ضعف الاستراليين وفي الليل يديرون صالات القمار والبعض يهرب الارزاق والسجائر باسعار زهيدة لكي يفوت على الحكومة جني الضرائب، وهناك من يبيع المخدرات واما الاستراليون فهم اتعس عرق انجليزي دفعتهم ظروف الحياة لكي يسرقوا بعضا من تقاليد الانجليز فيعيشوا على حساب حقوق شعب الابورجينز بمنتهى الاكتئاب والبخل في نهاية العالم.
انهم يحبون الاجازات ونهارات الشمس ويتعاطون في الشوارع قليلا من تماس اللذة .. فيما يبرع الصينيون في جني اموال طائلة من تهريب مهاجرين من اندونيسيا والهند وفي كل مكان تصل اليه المعارف الصينية عبر المحيط، وفي النهاية ايضا فكثير من الصينين رجالات أمن مسؤولون أمام القانون عن تطهير البلاد من الهجرة الغير شرعية. ذات مرة قال لي سائق تاكسي من الجنسية المصرية دول عاملين يا باشا زي المنشار وبيكلوها ولعة فبقيت اضحك لاحساسي ان السائق المصري لديه عقدة مستديمة من العرق الصيني، فهم يأخذون الزبائن ويعرفون الطرقات.. وحتى أنت اذا تهت في الشوارع بعد منتصف الليل.. فقطعا سوف ينبت انسان صيني من تحت الأرض ويأخذك بأجر معين الى المكان الذي تعرفه بالاسم ولكنك فقط لا تستطيع اليه العودة.
انهم يعرفون حركة الترامات بالدقيقة الواحدة ويستثمرون بيع المعلومات ويسيطرون على مبيعات المقاهي ونادرا فهم لا يخرجون عن القانون فكل شيئ عندهم يمكن ادارته بالصبر والحكمة. لقد طال عليهم الأمد في المنفى فصاروا استراليين ولكنهم يختلفون عن الاستراليين في كونهم يحبون الصين من الداخل أكثر من حبهم لاستراليا ولذلك فقد قرروا أن يسرقوا قطعة من بلادهم ويهربوا بها الى نهاية العالم..