حسين كركوش
&
&
في الوقت نفسه الذي كان فيه وزير الخارجية الاميركي، كولن باول، يستنهض الهمم، في مدريد، لجمع مليارات الدولارات لإعادة أعمار العراق، فإن الرجل الثاني في وزارة الدفاع الاميركية وأحد ابرز مهندسي الحرب الأخيرة التي قادتها واشنطن وأدت الى الإطاحة بنظام صدام حسين، بول وولفتيز، كان يمهد، في بغداد، الأرضية "الأمنية" الملائمة، من أجل استثمار تلك المليارات. ففي كل بلد أنهكته الحروب، لا يمكن لأي عملية إعادة أعمار ان تتم إلا بتوفر ثلاثة عوامل هي: المال، الاستقرار الأمني والاستقرار السياسي. وكانت الولايات المتحدة قد بدأت العمل، أولا، باتجاه تحقيق العامل الأخير، أي الاستقرار السياسي. فقد كان القرار رقم 1511 الذي أصدره مجلس الأمن الدولي بالإجماع، بشأن العراق، في 16 تشرين الأول (اكتوبر)&الجاري، انتصار ساحقا، بعد القرار رقم 1483، تحققه الولايات المتحدة،وتنتزع بموجبه انتزاعا، ودون وجود اعتراض لأي دولة، شرعية دولية لاحتلالها للعراق. وقد حصل ذلك دون ان ترضخ واشنطن وتقدم، بالمقابل، أي التزام بشأن تقديم جدول زمني ينص على موعد "إعادة السيادة للعراقيين"، كما كانت تطالب بعض الدول.
ولم يمض اسبوع واحد على تاريخ صدور القرار 1511، حتى خطت الولايات المتحدة خطوة ثانية "تكميلية هذه المرة"، في طريق تثبيت استراتيجيتها التي رسمتها لنفسها بخصوص العراق، والتي تمثلت، هذه المرة،& في عقد مؤتمر الدول المانحة لإعادة أعمار العراق، في مدريد في 23 و 24 أكتوبر الجاري، وحضرته 73 دولة، و 2. منظمة دولية، و 13 منظمة غير حكومية.
ومثلما تغلبت الولايات المتحدة على جميع العقبات التي وضعت امامها، ونجحت في استصدار القرار 1511، بالصيغة التي ظهر فيها، فإنها نجحت، هذه المرة، ايضا، في إفشال جميع المراهنات بشأن عدم عقد مؤتمر مدريد، أو إفشاله، على الاقل.
فقد ذكر وزير الخارجية، كولن باول، بسعادة لم يستطع إخفائها "وهي سعادة لها ما يبررها"، وهو يعلق على نتائج مؤتمر مدريد، بأنه& " قبل أسبوعين فقط، كان البعض، من هنا ومن هناك، يتصلون بي ليتأكدوا فيما إذا كان مؤتمر مدريد سيعقد، أو لا، أو إننا صرفنا النظر عنه نهائيا.& والان، فان هذا المؤتمر سجل نجاحا عظيما، واستطعنا ان نجمع فيه 33 مليار دولار"لإعادة أعمار العراق".&
ورغم ان تلك المليارات ما تزال، حتى ألان، وعودا، ورغم ان جزءا كبيرا منها جاء على شكل قروض، وليست هبات، وبعض منها قدم تحت شروط، ورغم ان تلك المبالغ لم ترق بعد الى ما حدده البنك الدولي والأمم المتحدة من أموال لإعادة الأعمار، إلا ان ما تم جمعه من أموال أثار " إعجاب " حتى اولاءك الذين لم يظهروا حماسة لعقد المؤتمر.
ولإظهار مدى النجاح الذي حققه مؤتمر مدريد، فان معلقين فرنسيين قالوا،وهم يعلقون على كمية& المبالغ التي تم جمعها: "لقد تهاطلت الدولارات من مدريد على رأس العراق، كما تتهاطل زخات المطر".
ولكن الجميع، وخاصة المانحين، وممثلي القطاع الخاص منهم، على وجه التحديد، يدركون ان هذه المليارات التي جمعت في مؤتمر مدريد، لا يمكن استثمارها على الأرض العراقية، دون توفير الاستقرار الامني. وسيظل المستثمرون الأجانب مترددين عن العمل، إذا ظلت الأوضاع الأمنية داخل العراق على ما هي عليه الان، أو شهدت تدهورا اكثر.& وهذا "التحذير" ورد على لسان احد مسئولي بنك "بي ان بي باريبا"، وهو احد أقوى واشهر المصارف الفرنسية، عندما قال، مشككا في إمكانية الاستفادة من هذه المبالغ الضخمة& التي جمعت في مؤتمر مدريد: "لا توجد، في الوقت الحاضر، سوق عراقية، إنما توجد مشاكل، فقط، ولا يمكننا القيام بتوقيع عقود طويلة الأجل، لعدم وجود ضمانات بذلك".
&الواقع، ان ما قاله المصرفي الفرنسي لا يعتبر، كليا، من باب تثبيط العزائم. فالتجربة الجزئية الجارية الان لإعادة الأعمار داخل العراق، تشجعه على القول بذلك. فبالإضافة الى المشاكل الأمنية، هناك مشاكل تتعلق بألية وطبيعة عمل المؤسسات المالية العراقية نفسها، التي تنعكس على نشاط المستثمرين الأجانب، وحتى العراقيين. فعلى رغم الإجراءات التشجيعية السياسية / الاقتصادية& التي جرى تبنيها حتى الان داخل العراق، والمتمثلة في التوجه نحو خصخصة بعض المشاريع العراقية، وإحلال نظام السوق الليبرالي محل سيطرة الدولة، كما كان الأمر في عهد نظام صدام، وما ترتب على ذلك من تحفيز للرساميل الأجنبية للعمل بحرية داخل العراق، فان النظام المصرفي العراقي ما يزال غير قادر على مواكبة واستيعاب تلك الاجراءات. إذ، ما تزال المصارف العراقية تعاني من مشاكل كبيرة.فالتسهيلات المصرفية ما تزال، عمليا، غير موجودة. أما المصارف الأجنبية فانها ترفض إعطاء تسهيلات مصرفية لزبائنها من رجال الأعمال، كلما تعلق الأمر بالاستثمار داخل العراق. ومن ناحية شركات التأمين العالمية، فانها ما تزال بعيدة عن تحديد أجور معقولة لكل النشاطات التي تتم داخل العراق. وفي هذه الحال، فانه يتعين على المستثمرين الأجانب ان يأخذوا على مسؤوليتهم الخاصة، كل شيء، بدءا من نقل المعدات، وما قد تتعرض له من& سلب& ونهب داخل العراق، وتعرض العاملين أنفسهم الى الاختطاف، أو القتل. وتواجه& الشركات الصغيرة الأجنبية التي استطاعت، حتى الان، التوقيع على عقود ثانوية مع شركة "بكتيل" الاميركية، ومثيلاتها من الشركات الاميركية الأخرى، كشركة "هليبرتون" أو وكالة التنمية الاميركية "ايسيد"، اللواتي يحتكرن العمل داخل العراق، الأمرين وهي تؤدي عملها. فهذه الشركات الثانوية تعاني، من جهة، من عدم توفر السيولة النقدية لتسديد أجور العاملين فيها، ومن جهة ثانية، فانها تجد نفسها عرضة لدفع غرامات مالية كبيرة لتلك الشركات الاميركية الكبرى المتعاقدة معها، في حال لم تف هذه الشركات الثانوية بمواعيدها التي تقطعها لإنجاز الأشغال المكلفة بها. ناهيك، عن استمرار انعدام الأمن في الطرق الخارجية داخل العراق.
بالطبع، ان الإدارة الاميركية، مثلما الجهات العاملة على إفشال عملية إعادة الأعمار، سواء من فلول العراقي المخلوع، صدام حسين، أو الجماعات الإسلامية الأرهابية الأجنبية، على علم بهذه التحديات التي&تحول دون استئناف عملية& إعادة أعمار العراق. وعندما أعلن مساعد وزير الدفاع الاميركي، بول وولفيتز، لحظة وصوله الى بغداد، بأنه "سينقل المعركة الى ارض العدو"، فان كلامه كان موجها الى المستثمرين الأجانب، أكثر من كونه موجها الى تلك الجماعات المعادية للجهود الاميركية. فحوى كلام المسئول الاميركي هي، ان تعالوا يا مستثمرين، ولا يهمكم ما يقال عن تدهور الأوضاع الأمنية داخل العراق، فنحن سنتكفل بتوفير الامن. ولهذا، فان الرد على كلامه، جاء سريعا جدا من قبل الجماعات المعادية لإعادة أعمار العراق. إذ، لم تمر دقائق على تصريحات وولفيتز، حتى أمطرت مقر أقامته في فندق الرشيد الصواريخ. الصواريخ هذه هي، رسالة مضادة لتلك التي بعث بها ووليفتز، حول "نقل المعركة الى ارض العدو"، مفادها: أيها المستثمرون الأجانب، ها انتم تشاهدون بأعينكم، مدى انعدام الأمن في العراق، بدليل إننا قادرون على ضرب الإدارة الاميركية نفسها داخل العراق، بشخص الرجل الأقوى فيها، بول ووليفتز.
انها معركة حقيقية، بين الولايات المتحدة، وهي تصر على إنجاح "تجربتها العراقية "، من جهة، وبين القوى المناهضة لها، من داخل العراق وخارجه، التي تصر على إفشال تلك التجربة، من جهة اخرى. وهي معركة ستزداد حدة& وضراوة،&حتى لو استلزم استخدام السلاح الأبيض، كلما تقدمت جهود أعمار العراق، خطوة واحدة الى الامام. وكلما كانت الهجمات القادمة& ضد قوات التحالف داخل العراق،& ذات طابع استعراضي، كلما كان مفعولها أشد لدى وسائل الأعلام العالمية، وفي تخويف المستثمرين الاجانب.& فقد ظهرت بعض كبريات الصحف الفرنسية، وهي تحمل على صدر صفحاتها الأولى، يوم الاثنين 27 أكتوبر، وفي معرض تعليقها على هجمات فندق الرشيد : " الولايات المتحدة يتم تحديها في بغداد". واعتبرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية الواسعة الانتشار ان الهجوم على فندق الرشيد "يظهر الجرأة الهائلة لمعارضي الاحتلال" الاميركي للعراق، موضحة ان فندق الرشيد الذي تعرض للهجوم، يعتبر من ألاماكن "المحمية جيدا " في العاصمة العراقية، ومع ذلك نجح المهاجمون في استهدافه.&
&
لكن، هل تتراجع الولايات المتحدة عن استراتيجيتها بشأن إعادة أعمار العراق، لأن احد مسئوليها الكبار، بول ووليفتز، تعرض الى محاولة قتل في بغداد؟
الجواب على هذا السؤال هو، بطبيعة الحال، كلا، حتى لو أخذنا بنظر الاعتبار الحسابات الداخلية الاميركية، والمتمثلة في قرب موعد الانتخابات الرئاسية، والاستحقاقات المترتبة عليها. فقد أصبح بامكان الرئيس الاميركي، جورج بوش، ان يقول لدافع الضرائب الاميركي، بعد نجاح مؤتمر مدريد، بان بلاده ليست وحدها، بعد ألان، التي يقع عليها عبأ الكلفة المالية لإعادة أعمار العراق، بدليل ان دول كثيرة، منها جيران للعراق، ستساهم في دفع بعض تلك النفقات.
والواقع، ان مساهمات المملكة العربية السعودية وايران التي وافقتا على دفعها في مؤتمر مدريد، لها أهمية خاصة، وهي تمثل انتصارا، يحق لمساعد وزير الدفاع الاميركي، بول وولفيتز، شخصيا، ان يجيره لصالحه. ففد دأب معارضو الحرب الأخيرة على العراق، على القول بان تلك الحرب ستساهم، في حال حدوثها، على زعزعة استقرار بلدان المنطقة، بينما كان بول ووليفتز، ومن معه من الذين يطلق عليهم "الصقور" أو "المحافظين الجدد" يعتقدون، على العكس، بان التخلص من صدام حسين ونظامه هما اللذان سيساهمان في استقرار المنطقة. والخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، في مؤتمر مدريد، وهو يعلن عن مساهمة بلاده، ويشرح التبعات السيئة التي كانت تتحملها المملكة جراء وجود نظام صدام، جاء ليؤكد، في الواقع، أطروحات بول ووليفتز وزملاءه الذين كانوا يدفعون باتجاه شن الحرب.
وحتى الكلمة التي ألقاها السكرتير العام للأمم المتحدة، كوفي عنان، حول ضرورة المساهمة في إعادة أعمار العراق، دون انتظار نقل السيادة الى العراقيين، إنما هي انتصارا لسياسة الولايات المتحدة، وغمزا من قناة بعض الدول الأوربية، كفرنسا وألمانيا، اللتان رفضتا تقديم مساهمات مالية، أكثر من حصصهما المقدمة ضمن صيغة الاتحاد الاوربي.
&
السؤال ألان هو، هل سيتحول نجاح مدريد الى إنجازات ملموسة
على الأرض العراقية، ومتى ؟
والجواب هو بيد الولايات المتحدة نفسها، وليس بأيدي اخرى. انه لأمر يبعث على الدهشة ان يقول وزير الخارجية الاميركي، كولن باول، بعد حدوث الهجمات ضد فندق الرشيد، بان بلاده "لم تكن تتوقع أن تكون الهجمات بهذا الحجم، ولا أن تدوم كل هذا الوقت". فالولايات المتحدة تعرف، دون شك، مدى الإمكانيات العسكرية التي يتمتع بها أنصار الرئيس المخلوع صدام حسين، وهي لا تني تعلن، على لسان كبار المسئولين فيها، بان جماعات إرهابية متطرفة بدأت بنقل نشاطها داخل العراق، وعليه كان على قوات التحالف داخل العراق، ان تتعامل مع هذه الحقائق بما يتلاءم مع حجمها الحقيقي. إن هذه الهجمات ستزداد كثافة خلال الأيام والأسابيع القادمة، وستأخذ، في رأينا، أكثر وأكثر، الطابع الأستعراضي، الذي يظهر أن زمام المبادرة ليست بيد قوات التحالف، أو بأيدي مجلس الحكم العراقي المؤقت، إنما بأيدي جماعة صدام حسين والمنظمات الأرهابية الأخرى. وعليه، فأنه في حال استمرت السياسة الاميركية داخل العراق، على حالها، وعدم إعطاء المزيد من مهمات حفظ الأمن الى العراقيين، فأنها ستحول، شاءت أم أبت، مؤتمر مدريد الى مجرد مزاد علني، تبارى فيه المشاركون لاستعراض إمكانياتهم المادية.
التعليقات