د. شاكر النابلسي
&
&
-1-
كان في بغداد صنم من الوهم.
وهم القوة، ووهم التسلط، ووهم الجبروت، ووهم آلهة الرافدين التي كانت تمنح وتأخذ، تُحيي وتميت، ترفع وتخفض، تخلق وتُسخِط، وتجفف النهرين، ثم تعيد مجراهما ثانيةً.
كان "صنم الوهم" في بغداد أشبه بآلهات التمر والعجّوة التي كانت تصنعها الأعراب في الجاهلية، حتى إذا جاعت الأعراب أكلت أربابها.
كان سقوط "صنم الوهم" الأكبر المتمثل بسقوط النظام العراقي السابق الذي أحدثه زلزال التاسع من نيسان 2003 بمثابة رسالة إلى الأنظمة العربية، تقول بلهجة عربية فصيحة، وبلغة قريش، وبلسان عربي مُبين:
إما أن تعدِلوا، وإما أن تُعزَلوا.
ولقد فهمت بعض الأنظمة العربية الذكية فحوى هذه الرسالة، ومبناها، ومعناها، ومرماها، ومن أرسلها، ولمن، ولماذا. في حين لم تفهم أنظمة عربية أخرى كعادتها في التطنيش، والاستعلاء، والمكابرة، ودسِّ الرؤوس في الرمال، والمداورة، والمحاورة، وأخذ العزة بالإثم، وكأن هذه الرسالة قد صدرت من دولة كالصومال أو جيبوتي أو جزر القمر أو موريتانيا، ولم تصدر من القوة العظمى الوحيدة على ظهر هذا الكوكب، والتي أصبحت مسؤولة مسؤولية مباشرة وقانونية وأخلاقية عن سلامة هذا الكوكب، وضمان الحياة فيه على أفضل وجه.
&
-2-
&
الأنظمة العربية الذكية التي فهمت فحوى رسالة زلزال التاسع من نيسان، وأدركت معناها وعواقب اهمالها، والاستخفاف بها، غيّرت سياستها نحو الغرب "المستعمر" و "الكافر" و "الظالم" 180 درجة. فقامت على الفور بالتخلص من أسلحة الدمار الشامل. ولم تكتفِ بذلك بل هي ارسلتها بقضها وقضيضها إلى أمريكا ولي الأمر والنعمة - حتى تبرأ من تهمة تصنيع أسلحة الدمار الشامل براءة الذئب من دم ابن يعقوب. ولم تكتفِ بذلك أيضاً، بل هي سلّمت معلومات لبريطانيا وأمريكا& - ولاة الأمور - أصحاب الزلزال، عن سوق أسلحة الدمار الشامل، ومالكي أسراره، ومهربيه، وصانعيه، وتجّاره، ودكاكينه، وبنوكه، وفتحت أبوابها للقادة من أولياء الأمور الذين اسقطوا وهمَ بغداد وصنمها الأكبر، واستقبلتهم بالأحضان، ودعت الشركات البريطانية والأمريكية التي سبق وطردتها واتهمتها بالسرقة والجاسوسية إلى العودة لبلادها، واستئناف استثماراتها في ظل البركات الوارفة لزلزال التاسع من نيسان الذي غيّر في بعض الأنظمة العربية ما لم تستطع تغييره زلازل عربيـة أخرى، لم تكن إلا بمثابة الرعد الكاذب والبرق الخاطف، دون مطر أو ثمر.
&
-3-
&
الأنظمة العربية الذكية التي فهمت فحوى رسالة زلزال التاسع من نيسان، قامت على الفور بتسريع موعد الانتخابات التي كانت مؤجلة منذ سنوات، رغم المطالبات الكثيرة السابقة الملحة بضرورة اجرائها، ولكن هذه الأنظمة كانت تضع في أُذن طيناً وفي الأخرى عجيناً، وتطنّش، وتستخف بالمعارضة. وبعد زلزال التاسع من نيسان فطنت هذه الأنظمة إلى ضرورة تليبة بعض الاستحقاقات الديمقراطية، فأجرت انتخابات نظيفة غير مسبوقة، من حيث افساح المجال للمرأة العربية إما بـ "الكوتا" وإما خارج "الكوتا" بالتمثيل النيابي، وكانت تلك الخطوات من بركات زلزال التاسع من نيسان.
&
-4-
&
الأنظمة العربية الذكية التي فهمت فحوى رسالة زلزال التاسع من نيسان، قامت باعطاء مناصب مرموقة للمرأة في السلك الديبلوماسي والسلك التعليمي والتربوي والعمل العام، لم تحلم بها المرأة منذ ظهور الإسلام حتى اليوم، مما أدهش الجمهور والرأي العام في مجتمعات ما زالت محافظة وتنظر إلى المرأة نظرة دونية، وتعتبرها مخلوقة للعلَف والخلَف فقط. وتُوّجت حقوق المرأة العربية الجديدة بفضل زلزال التاسع من نيسان باقرار الدستور العراقي المؤقت لحق المرأة في تمثيل لا تقل نسبته في العمل العام عن 25 بالمائة كحد أدنى، مما أعطى دفعة قوية للحركة النسائية العربية في باقي الدول العربية لكي تتطالب بالمثل، وبما حصل في العراق الجديد.
&
-5-
&
الأنظمة العربية الذكية التي فهمت فحوى رسالة زلزال التاسع من نيسان، قامت ببحث الطرق الكفيلة لتعديل مناهج التعليم لديها بما يتكافأ مع متطلبات سوق العمل المحلية، وبما يتماشى مع اخلاقيات المجتمعات المدنية المتحضرة، من حيث نفي وإلغاء كراهية الآخر، والتفكير فيما يقوم به، وليس تكفير ما يُقدم عليه. ورغم معارضة المؤسسات الدينية والأحزاب الدينية التي ترى في بقاء المناهج القديمة التدميرية سرّ بقائها ومكمن قوتها، إلا أن بعض الأنظمة العربية الذكية حفاظاً على الرؤوس ومنعاً لضربات الفؤوس، أصرت على اجراء تغيير في مناهج التعليم، وتعديلها بما يضمن استمرار العهد، وعدم انفجار السد.
&
-6-
&
الأنظمة العربية الذكية التي فهمت فحوى رسالة زلزال التاسع من نيسان، قامت بتشكيل لجان ومنتديات ومنظمات لحقوق الانسان. وكانت مثل هذه الاجراءات هي الأولى في تاريخ هذه الانظمة منذ ظهور الإسلام وحتى اليوم. ودعت منظمات حقوق الانسان إلى زيارة بلدانها والاطلاع على كيفية معاملة المساجين السياسيين، وكيف أنها تطعمهم السمن والعسل، وليس العدس المسوّس وتبن الحيوانات، وأنها تحتفظ بهم في زنزانات معقولة، وليس في الجُب الذي أُلقي فيه يوسف أو في آبار مهجورة، وأنها لا تعذبهم، ولا تسلط عليهم كلاب (الجيرمان شيبرد) ليفعلوا بهم ما يفعل الرجال بالنساء، ولا تقتلهم بنقعهم في الأسيد كما قُتل شهدي عطيه وفرج الله الحلو في مصر وسوريا في عهد المد الثوري والقومي والوحدة العربية، ولا تُعلّق لمفكريهم المشانق كما تمَّ مع سيد قطب في مصر، ومحمود محمد طه في عهد النميري، الذي نصّبه الحاوي حسن الترابي "أميراً للمؤمنين"!
&
-7-
&
الأنظمة العربية التي لم تفهم فحوى رسالة زلزال التاسع من نيسان، تعالت، واستكبرت، وحامت، وحاورت، ودارت حول الرسالة، وطلبت ترجمة قومية ودينية واضحة لها، وطلبت ردها إلى الأصول والتراث، كما طلبت تفسيراُ لبعض فقراتها بلغة قريش، وهي المُعلّمة والعالمة، والبلبل الصدّاح في مؤتمرات القمة واجتماعات الجامعة العربية (مقهى الأنس العربي، واتفرج يا سلام) ولكنها كسابق عهدها، أرادت أن تكون العاصية المُستعصية، العالية المُتعالية، والكبيرة المُستكبرة، فحلَّ عليها الحساب والعقاب، وباءت بغضب من أرباب الأرض، وباتت تقف عارية على سطح صفيح ساخن، تتلظى، وتتشوى، وتنتظر ماذا يمكن أن يأتيها من عقاب الأرباب، وفزعة الأصحاب، ووساطة الأحباب، الذين أصبحوا لا يملكون من أمرهم شيئاً، وأن الأمر أصبح لأولياء الأمر، الذين أحدثوا زلزال التاسع من نيسان.
ولم يعد& في الأمر محاجة.
فرسالة زلزال التاسع من نيسان 2003 ، كانت تقول للأنظمة العربية بكل بساطة، وبلسان عربي مُبين، وبلغة قريش:
إما أن تعدِلوا، وإما أن تُعزَلوا.
وبذا كفى الله العرب شرَّ زلازل أخرى!
&
(يُنشر بالتزامن مع جريدة "السياسة" الكويتية، و"الأحداث المغربية"، و "المدى" العراقية)
&