تتكون الدولة من أرض وشعب وحكومة وعليه لاتوجد دولة دون أرض وهي أساس الخلاف بين إسرائيل وفلسطين فماهي مساحة الأرض التي يجب أن تعترف بها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ويقبل بها الطرف الفلسطيني والعربي لتقام عليها الدولة الفلسطينية المستقلة أما الشعب الفلسطيني الذي يناضل من أجل نيل حقوقه المشروعة وتقرير المصير فهو الأهم في معادلة الدولة وهو المستفيد من قيامها، وهنا نستخلص أن لا قيمة للأرض إذا لم تحظى بإعتراف دولي وهذا مايجب أن تفهمه القوى التي تتمسك بكامل الأرض على حساب قيام الدولة.
وإذا إستعرضنا مسيرة النضال الفلسطيني في عجالة قصيرة إبتداء من قرار التقسيم رقم 181 في 29 نوفمبر 1947، عندما قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالموافقة على قرار تقسيم فلسطين لإنهاء النزاع العربي/اليهودي على أرض فلسطين الرازحة تحت الإنتداب البريطاني، وقضى القرار إلى تأسيس دولة عربية وأخرى يهودية على تراب فلسطين، وأن تقع مدينة القدس تحت الوصاية الدولية.
وثارت ثائرة العرب وأصروا على تحرير فلسطين بالكامل من النهر الى البحر في الوقت الذي إغتنم فيه اليهود الفرصة وأنشأوا دولتهم ورقصوا فرحاً في مستوطناتهم لأن هذا القرار أسس لهم دولة وأعطاها غطاء الشرعية الدولية بعد الصراع الذي خاضوه ضد الشعب الفلسطيني بتأييد من سلطات الانتداب البريطاني التي كانت تقوم بمهمة تنفيذ وعد بلفور بمنح اليهود وطنا قوميا في فلسطين.
وحدثت تطورات هائلة وجرت الرياح بعكس ما تمناه الفلسطينيون وما تعهد الاشقاء العرب القيام به من أجل تحرير فلسطين وإحباط المشاريع اليهودية المعلنة ولم يتصفوا بالواقعية السياسية وإنما كانت تأخذهم العاطفة دون وعي بمستقبل فلسطين والغريب في الأمر أنه وبعد مرور تسع وخمسون عاماً نجد أن هناك من يتصف بالجمود العقلي نفسه وعلى نفس النمط من الأخطاء السابقة القاتلة سواء كانت عربية أم فلسطينية.
وبعد صدور القرار الأممي إنسحبت بريطانيا من فلسطين وسلمت معسكراتها وقواعدها العسكرية لليهود الذين اعلنوا على الفور يوم 15 ايار 1948 قيام اسرائيل ولم يكتف زعماء اسرائيل بالحدود التي نص عليها قرار التقسيم بل توسعوا حتى إحتلوا معظم أراضي فلسطين وذلك خلال الحرب العربية - الاسرائيلية الاولى التي إنتهت بنكبة فلسطين وتشريد ثلاثة أرباع مليون فلسطيني بعيداً عن بيوتهم ومدنهم وقراهم.
وفي العام 1967 إستكملت إسرائيل إحتلالها لأراضي فلسطين التاريخية وبعض الأراضي العربية الأخرى وخيم الاحتلال العسكري الاستيطاني على الضفة والقطاع وبدأت مصادرات الاراضي واقامة المستوطنات وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية والانسانية وما تزال الممارسات الاسرائيلية التعسفية مستمرة على مقدرات الشعب الفلسطيني وموارده بالرغم من النداءات الصادرة عن الاسرة الدولية التي تطالب اسرائيل بوضع حد لهذه السياسة المتناقضة مع مرجعيات الشرعية الدولية ومواثيق حقوق الانسان والقيم الحضارية والاخلاقية السائدة في هذا العصر.
وفي العام 1973م بدأت إسرائيل تنحسر بعد إنكسارها في الحرب وعبور القوات المصرية قناة السويس وبعدها إستطاع الرئيس محمد أنور السادات أن يحقق طموحات شعب مصر في إستعادة أراضيها المحتلة بالسلام والمفاوضات ولكن الإصرار العربي مايزال يضيع على الفلسطينيين الفرص، وعادت مصر إلى الصف العربي ولم ينال الفلسطينيين من توافقهم مع إخوانهم العرب غير المزيد من الذل والهوان وبقاء المخيمات على حالها واللاجئين مازالوا ممنوعين من أبسط حقوقهم المدنية والإنسانية.
وفي العام 1991م عقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط من أجل إنجاح الجهود الرامية إلى إحلال السلام في المنطقة، ووضع مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد برعاية واشنطن وموسكو إطار عملية السلام وإعتماد مبدأ quot;الأرض مقابل السلامquot; ومهدت الطريق لمفاوضات أوسلو حول الحكم الذاتي الفلسطيني لتقوم في نهاية المطاف دولة فلسطينية مستقلة.
وفي العام 1993م بدأت محادثات أوسلو وتم التوقيع على سبع إتفاقيات ولكن بعض الأطراف تحاول جاهدة لإفشال تلك الإتفاقيات والتلويح بشعارات ومشاريع للتسوية المرفوضة على غرار رفض قرار التقسيم الذي إستفادت منه إسرائيل وخسر العرب والفلسطينيين جراء تعنتهم حالمين بتحرير فلسطين من النهر الى البحر ولم يستوعبوا المتغيرات المختلفة التي تتحكم بتحقيق الأهداف بصورة واقعية وعملية.
وفي العام 2002 عقدت القمة العربية في بيروت وأقرت المبادرة العربية وبدأت تبرز مشكلات أمام تحقيق السلام بين العرب وإسرائيل وإنطلقت مبادرة خارطة الطريق بمراحلها المختلفة، وهناك مبادرات أخرى تسعى العديد من الدول والشخصيات العالمية لإطلاقها من أجل إيجاد حلول للصراع العربي الإسرائيلي ومن هنا إنطلق الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بإعلان رؤيته لقيام دولة فلسطينية تعيش جنباً الى جنب بجوار الدولة اليهودية.
وكان الرفض الدائم والمستمر عقبة في وجه مفاوضات السلام وقيام الدولة المستقلة وبعد تجارب المفاوضات مع إسرائيل إقتنعت السلطة الوطنية الفلسطينية التي كانت إحدى نتائج أوسلو بأن الإتفاقيات مع إسرائيل يجب أن تكون دائمة وبحدود معترف بها وإن تم الإنسحاب على مراحل.
وتتذرع إسرائيل بين الحين والآخر بموضوع الإعتراف بها ولكن هذا الإعتراف يواجه عقبات فهل الإعتراف بإسرائيل طبقاً لقرار التقسيم الأممي رقم 181 لعام 1947م وبالمساحة التي أقرها القرار؟، أم تريد إسرائيل إعترافاً جديداً لحدود عام 1967م وقرار مجلس الأمن رقم 242 الشهير بالإختلاف على تفسيره.
وقضية الإعتراف بإسرئيل قضية معقدة للغاية بسبب التوسع المستمر لهذه الدولة التي تحاول أن تخلق تحديات جديدة على الأرض ببناء المزيد من المستعمرات وجلب المستوطنيين للسكن فيها وهي عملية لن تنتهي إلا بإتفاق ملزم ينهي كل مظاهر البناء والتشييد والتوسع ويبدوا أن بناء الجدار العازل الذي يحاربه الفلسطينيين والعرب هو الحدود الفاصلة التي ترغب إسرائيل بالتوقف عندها على الأقل في هذه المرحلة الحاسمة.
ومما تقدم نجد أن إسرائيل كدولة لاتوجد لها حدود ثابتة ودائمة وهي من الأخطاء التي إرتكبتها الأمم المتحدة عندما إعترفت بإسرائيل كدولة ضمن منظومة الأمم المتحدة ولكن دون حدود ثابتة وهي بذلك تعطي الحق لإسرائيل أن تتوسع الى أن يتم رسم الحدود الثابتة التي لم تحددها إسرائيل ولا الأمم المتحدة ولا الأطراف العربية.
أما الشعب الفلسطيني الذي يسعى ويناضل من أجل قيام دولة فلسطينية تعترف بها الأمم المتحدة والعالم أجمع يجد نفسه في وضع صعب، فهل الإعتراف بفلسطين الدولة قبل معرفة حدودها الجغرافية ومساحتها ودستورها وطريقة الحكم فيها، إن إسرائيل حتى الآن لم تعترف بفلسطين كدولة وإنما إعترفت بها كسلطة وطنية وحكم ذاتي وإعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطين والتي تحاول بعض الأطراف الفلسطينية والعربية والغربية شطبها.
وبين الحين والآخر تسحب إسرائيل إعترافها بالمنظمة وتطالب الحكومة المنتخبة برئاسة حركة حماس أن تعترف بإسرائيل وهنا نتساءل كيف تعترف بها إذا لم تحدد مساحتها الجغرافية أو يتم الإتفاق عليها؟، ونتساءل أيضاً هل إعترفت إسرائيل بالشعب الفلسطيني وإعترفت بمسؤوليتها التاريخية عن تشريد هذا الشعب؟ وهو مالا ترغب إسرائيل في القيام به، ولكن ماهو موقف المجتمع الدولي من قضية الإعتراف والضغط على إسرائيل؟، وماهو موقف الرباعية الدولية من مسألة الإعتراف؟، وهل هناك إعتراف متبادل ومتزامن وفق إتفاقية أو مبادرة؟.
وعودة لشروط الرباعية الدولية ماهي حدود إسرائيل المراد الإعتراف بها؟ وكيف يمكن الإعتراف بإسرائيل كدولة دون حدود نهائية لهذه الدولة؟.
ونأتي على الشرط الثاني وهو نبذ العنف والإرهاب وهنا نتساءل هل هناك إتفاق دولي على معنى العنف والإرهاب؟ ولماذا لا يتم الإعتراف بشرعية المقاومة ضد الإحتلال؟ ولماذا لاينبذ العالم أجمع العنف وإرهاب الدولة المنظم التي تقوم به إسرائيل ضد قيادات الشعب الفلسطيني والأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء؟.
أما الشرط الثالث من شروط الرباعية الدولية وهو إحترام الإتفاقيات الموقعة وهنا نتساءل من هم الأطراف الموقعة على هذه الإتفاقيات؟ وهل حماس طرف في هذه الإتفاقيات حتى تعترف بها؟، وهل أعترف بحماس أصلاً كمنظمة تناضل من أجل نيل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؟، بل وضعت على القائمة السوداء للمنظمات الإرهابية، ونتساءل أيضاً هل تحترم إسرائيل تلك الإتفاقيات؟، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تمتنع إسرائيل من دفع الأموال المحتجزة لديها لصالح السلطة الوطنية الفلسطينية؟.
وتحاول إسرائيل وغيرها من الدول فرض الحصار على الشعب الفلسطيني وتمتنع أيضاً عن الإلتزام بتعهداتها وفقاً لإتفاقيات أوسلو التي تحاول إفراغها من محتواها وكل يوم نرى التدخلات العسكرية في كل المناطق التي إنسحبت منها بحجج واهية وتقوم بالإغلاق للمعابر التي تعتبر المتنفس الوحيد للشعب الفلسطيني الذي يعيش الحصار والإحتلال ولامجال هنا لتعداد مايجب على إسرائيل القيام به وفقاً للإتفاقيات المبرمة مع الجانب الفلسطيني وحتى الدولي سواء كانت في إتفاقيات أوسلو أو في غيرها.
والدرس الذي لا بد الإستفادة منه بعد كل ماتقدم هو أن التشبث بالأرض دون التمسك بالدولة ومحاولة إنجاز ما يتعارض مع الإمكانات ويتخطى خطوط الواقع يمثل نهجا كارثياً في المنطق السياسي العقلاني، ذلك المنطق الذي يتحرك انطلاقا مما هو ممكن وفقاً للمتغيرات الدولية ويستثمر معطيات الواقع للوصول الى مراحل متقدمة من الثوابت الإستراتيجية، والآن لا بد من الإعتراف بالأخطاء السابقة حتى لاتتكرر في المستقبل لأن التمسك بقيام الدولة أهم من التشبث بالأرض وتحريرها دون إعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة.
فقرار التقسيم كان خطأ تاريخياً فادحا يتحمل العرب بمن فيهم الفلسطينيون جزءاً كبيراً من المسؤولية عنه لأن ما هو معروض عليهم حاليا أقل بكثير مما أعطاهم إياه قرار التقسيم: فما هو برسم التفاوض حالياً يتعلق بنسبة معينة من اصل 22% من أرض فلسطين التاريخية في الوقت الذي عرض قرار التقسيم عليهم 47% من أرض فلسطين عدا عن مشاركتهم في إدارة القدس ضمن سلطتها الدولية.
وإذا كانت الثوابت مقدسة فان السؤال الذي يطرح نفسه هو ماهي هذه الثوابت في ظل الانحياز الدولي لاسرائيل؟، ولكن المهم الآن أن يستمر التحرك الفلسطيني والعربي نحو انجاز هذه الثوابت دون توقف لأن العراقيل والرفض المتواصل للطروحات الدولية لا تعمل لصالح القضية الفلسطينية التي يكاد العالم ينساها أو يشعر بالملل إزاءها والفلسطينيون بحاجة الى دفع عملية السلام الى الأمام بعد التراجعات المتلاحقة لقضيتهم منذ قرار التقسيم وحتى الآن.
ولايزال حق العودة لايفارق الفلسطينيين وأبناءهم وأحفادهم حتى يومنا هذا ولكن الأمر يحتاج الى عمل جاد حتى يتم تخفيض سقف المطالب الإسرائيلية التي لا تنتهي وكان آخرها طلب وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني من القمة العربية المقرر عقدها في الرياض في الفترة من 27-29 آذار مارس 2007م، إعادة النظر في المبادرة العربية لكي تصير أكثر ملاءمة لاسرائيل ومواقفها من أجل حل قضية اللاجئين الفلسطينيين وقيام الدولة الفلسطينية مستقبلاً.
مصطفى الغريب
كاتب فلسطيني
التعليقات