كم كانت رائعة تمثيلية ( تحت موسى الحلاق) التي عرضها التلفزيون العراقي في بداية السبعينات بأداء رائع من قمم التمثيل الكوميدي العراقي سليم البصري وحمودي الحارثي وراسم الجميلي وسهام السبتي وعبدالجبار عباس وغيرهم من رواد التمثيل الذين ما زال أداؤهم الرائع في كل عمل فني قدموه محفورا في ذاكرتنا الجمعية، فكانوا جبالا شامخة في مجال الفن العراقي..


ومازلت أذكر نص تلك الرسالة التي قرأها الحاج راضي الحلاق لإمرأة في الحي،وهي رسالة تلقتها من إبنها المهاجر الى الهند، وفيها تلك العبارات الجميلة ( نحباني للو) و( إتتي فرمان) و( سازو..دكم.. بسوزة جمبلة) يقصد بها ( سأزودكم بصورة جميلة)!. حيث كان الحاج راضي يدرس في مركز لمحو الأمية، وكان ضعيف القراءة يخلط بين كلمات الرسالة فتبعث قراءته لتلك الرسالة الى الوقوع على القفا من الضحك.
أريد بهذا الإستهلال الكوميدي أن أمهد لقرائي الأعزاء ( بسوزة جمبلة) للحديث عن الأوضاع المأساوية التي نعيشها في ظل بعض ممن لم يتخرجوا حتى من مراكز محو الأمية في الدول العربية، ولكنهم أصبحوا قادرين على تغيير خارطة المنطقة برمتها. وهؤلاء يشكلون مجموعة من حركات وتنظيمات يقودها شرذمة من الحفاة والجهلاء والمنبوذين في مجتمعاتهم الذين يعانون من عقد نفسية ومرضية، وتتنازعهم نوازع شيطانية فيعيثون في الأرض فسادا ويشغلون العالم بعملياتهم الإرهابية ويشوهون صورة الإسلام الجميلة خالقين له الكثير من الإعداء في شتى أرجاء العالم..


صراع طائفي بغيض وقتال دام أبغض يلقيان بظلالهما على الوشائج بين الطوائف المسلمة ( السنة والشيعة) نموذجا. شلالات من الدماء العزيزة تنزف من جسد العراقيين بسبب عدم توافق التوافق مع الإئتلاف، وعدم إئتلاف الإئتلاف مع التوافق؟!..والمفارقة أن الشيعة والسنة كانوا متوافقين متآلفين في ظل الدكتاتور الذي كان يقمعهم ويبيدهم؟!. وهذه هي المصيبة.والمصيبة الأعظم هي ما يجري اليوم في كل المنطقة. تقاتل سني شيعي، تقاتل فلسطيني فلسطيني، تقاتل سوداني سوداني، لبناني لبناني، يمني يمني؟1 لقد جبنا عن مواجهة أعدائنا التقليديين،ولكننا نستأسد بعضنا على بعض؟!.. بدل أن نقاتل أعدائنا،اصبحنا نشرب من دم أبناءنا..
صراعات سياسية وطائفية وإجتماعية وإقتصادية، كل أنواع الصراعات العبثية التي دفنها الغربيون فيما بينهم منذ عقود طويلة،أصبحت بلداننا مرتعا لها، فنقلنا كل صراعات الآخرين الى داخل أوطاننا التي تحترق بمرأى العالم بسبب أحقادنا الدفينة؟!.


بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية دفنت دول أوروبا جميع أحقادها وصراعاتها ومطامعها، لتتوحد مجددا في تشكيلات وكيانات سياسية وإقتصادية لتنقذ القارة العجوز من التداعي والإنهيار، فأفرغت جميع شعوب القارة مخازن بنادقها من الرصاصات،وحورت دباباتها ومدرعاتها الى جرارات ومكائن، لتبدأ بثورة شاملة لإعادة البناء والإعمار،وفرض ثقافة جديدة قوامها التنافس الإقتصادي والعمراني بديلا عن الحرب والتنازع الدموي التي أزهقت أرواح ستين مليون إنسان في حربين عالميتين مدمرتين.. أقامت السوق الأوروبية المشتركة، ثم الإتحاد الأوروبي ثم توحيد العملة للذوبان في كيانات إقتصادية وسياسية موحدة.


توحدت أوروبا بدولها المتعددة وثقافاتها المختلفة في كيانات سياسية وإقتصادية موحدة، وعرب فلسطين من ثقافة واحدة ودين واحد ومصير واحد يعجزون عن توحيد ( غزة والضفة) وهما فتات المائدة الصهيونية التي تلقفوها من المعاهدات والإتفاقات الدولية بعد صراع مرير دام لأكثر من خمسين سنة؟!.
تزول الدكتاتورية في العراق، فتطل الفتنة الكبرى برأسها مجددا بين السنة والشيعة لتطلق العنان لصراع موروث منذ أربعة عشر قرنا، فأصبح لأحفاد أمير المؤمنين علي ( عليه السلام) جيش مسلح بالرشاشات يقتل على الهوية في شوارع بغداد، وأصبح لأمير المؤمنين عمر ( رضي الله عنه ) جيش من المفخخين بالأحزمة الناسفة الذي يقتل العشرات في أحياء بغداد؟!.


جعلوا عمرا رئيسا لتحالف سني، وعليا قائدا لإئتلاف شيعي يخوضان صراعا سياسيا مريرا على مقعد رئاسة الوزراء في العراق،لتبدأ بإسميهما دورة أخرى من التناحر الشيعي السني وكأن إجتماع السقيفة قد إنتهى للتو، وحان الوقت لكل يرتب كل فريق أوراقه لخوض الصراع من أجل تنفيذ إرادة الله على الأرض.و( كنتم خير أمة أخرجت للناس)و( إعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)؟.


لم يحض دين مثل الإسلام على الوحدة والتوحد، وهناك عشرات الآيات القرآنية الكريمة ومئات الأحاديث النبوية الشريفة وهي تحث المسلمين على التوحد ونبذ الصراع والخلاف، ولكن ضعف الإيمان والإنتصار للشيطان ومخالفة أوامر الله قد أوصلنا الى ما نحن عليه اليوم من تفجير المزارات والمساجد في عمليات إنتقامية تضحك العالم علينا وتفقدنا إحترام الشعوب والأمم، فمن يجرؤ على هدم المنائر وقبب المساجد لا يستحق الإحترام، والهدم ليس كالإعمار ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ).


تمتليء كتبنا بالحديث عن فضائل الإسلام ودعوته الى التوادد والمحبة والخير ونشر السلام والمجادلة بالحسنى والتحلي بالحكمة، ولكن عندما يصفعنا أحدهم على خدنا الأيسر لن ندر له الخد الإيمن، بل نمتشق الحسام لنفصل رأسه عن جسده، أو نقتله هو وجمعه بسيارة مفخخة أو عبوة ناسفة ونريق أنهارا من الدماء في شوارع مدننا إنتقاما من صفعة ليس دفاعا عن العرض أو المال أو الأرض، بل إنتقاما للهوية المذهبية، فنضيع الإسلام الأصل بين جيش علي وجيش عمر؟!.


كان المسلم في العهد الذي يلتصق الدين بكيانه ينطلق من مدينته حاملا صرة صغيرة لا تحتوي سوى على بعض كسرات الخبز وجرابا من الماء، يركب حمارا أو بغلة، أو يخوض البحر للوصول الى أقاصي الأرض لنشر دين الإسلام، فوصلت بشائر هذا الدين الى أندونيسيا وماليزيا والصين وأفريقيا وأوروبا وغيرها من بلدان العالم، ومسلم اليوم يركب طائرة محلقة في السماء ليفجرها بعد حين هاتفا باسم الله الأكبر زاهقا أرواح العشرات قد يكون بينهم المسلم المتدين أو الطفل البريء أو الشيخ العجوز أو المرأة الحامل، وقد أوصانا الرسول الكريم أن( لا نقتل إمرأة أو شيخا أو طفلا ولا نقتلع شجرا)؟!. أو يأتي مسلم من أقاصي دول المغرب الإسلامية ليفخخ نفسه بحزام مربوط بسيارة مفخخة يفجرها في أقاصي الشرق بين حشد من عمال المساطر أو طابور للشيوخ المتقاعدين أو بين أطفال يلعبون أمام ساحة الدار؟!.


القروي في كردستان العراق قد لا يعلم بدولة إسمها تونس، ولكنه يعرف أن الإنتحاري الذي فجر نفسه داخل حافلة في حي الكرادة ببغداد هو شخص تونسي، من دون أن يعرف الدوافع وراء ذلك السفر المرهق من مغرب الأرض الى مشرقها ليس لتلقي العلم في معاهد بغداد ومدارسها الدينية بل للإنتحار وقتل الناس؟!.
بل أن أربعة ملايين كردي قد لا يعرفون أين تقع دولة جزر القمر على الخارطة، وهل هي تقع في قارة أفريقيا أو أمريكا الوسطى الى جنب جزر سليمان، ولكني إلتقيت شخصا معتقلا في سجن السليمانية بكردستان، وحاورته لساعتين في مهمة صحفية وكل همي منصب على أن أعرف منه أسباب تركه بلده ومجيئه للعراق لتنفيذ عملية إنتحارية بين أناس لا يعرفهم ولا يعرفونه وهم مسلمون مثله بل قد يكونوا أشد منه تمسكا بالإسلام؟!.


تلك هي الصور المفزعة التي نريها للعالم بإسم الإسلام، وهي بالتأكيد ليست صور جميلة، بل حتى بسوزة جمبلة؟!.
كان الموالي يتقاطرون على حواضر الإسلام من شتى إقطار الإسلام لينهلوا العلم والمعرفة من مصادرها الأساسية عندما كانت بغداد منارا للعلم والأدب والتأليف في عصر الإبداع، فيتخرج منهم عشرات العباقرة العظام وفطاحل العلماء الأفذاذ الذين قدموا للعالم نتاجات فكرية وعلمية خالدة إقتبستها الأمم الأخرى منا في عصرنا الذهبي،وأصبحنا اليوم نشتريها من تلك الأمم في مرحلتنا الحاضرة من الإنحطاط والجدب الفكري؟!. فعندما كانت أوروبا غارقة في الظلام والتخلف تتصارع شعوبها وممالكها في حروب دامية، كان علماء الإسلام وفلاسفته يصدرون الكتب والمؤلفات للعالم لينيروا الطريق للإجيال بنتاجاتهم الفكرية والإنسانية،فتتوالى كتب الفلاسفة والحكماء مثل إبن رشد وإبن سيناء والكندي والفارابي والخوارزمي والبيروني وإبن الهيثم وغيرهم من عشرات عباقرة العالم ليعطوا للإنسانية عصارة فكرهم الإبداعي، واليوم يأتي أبو دجانة المصري، أو أبو قتادة السوري، أو أبو حفص اليمني وغيرهم المئات والآلاف من الجهلة الأميين وحثالات المجتمع ليصدروا الموت والدمار في أرجاء بلداننا الإسلامية بما فيها مهبط الوحي ومنشأ الرسول الأمين خاتم الأنبياء والمرسلين؟!..


يقول الله عز شأنه في كتابه العزيز (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).


ويقول رب إسرائيل في سفر التثنية ( فحللنا في كل مدينة قتل جميع الرجال والنساء والأطفال كما فعلنا في مدن سيحون ملك حشبون، وأما البهائم والمدن فغنمناها لأنفسنا.(

فأين نحن الآن؟؟!!

شيرزاد شيخاني

[email protected]

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف