أذكر أنني كنت في الحرم المكي قبل أحداث 11 سبتمبر بفترة، كانت المساحة التي وقفت لأصلي فيها مليئة بصغار السنّ الذين يحملون quot;مذكرات مصورةquot; الملفت أنها لم تكن من المؤلفات المطبوعة، كنا في الصيف، بعد آداء الصلاة نودي لصلاة الغائب على ملك المغرب الذي توفي حينها، كان الحرم مليئاً عن آخره، وفجأة وبعد أن كبّرنا سمعت أصواتاً عالية تنادي فتيةً-من زملائهم- تحثهم على أن يقطعوا الصلاة على quot;ملك المغربquot; الذي وصفوه بالكافر! حتى أن أحدهم فقد صوابه يحسبني من رفقته دفعني بيده طالباً مني قطع الصلاة على ملك المغرب! أسراب من الصبية المتدينين الصغار قطعوا صلاتهم وركضوا إلى الدور الثاني لاستكمال حلقاتهم وهي حلقات في الغالب غير مصرّحة.هؤلاء تتراوح أعمارهم بين الـ17 والـ23 سنة فقط!
لم يكن المشهد صادماً، بقدر ما كان دالاًّ على نموّ وتحضيرٍ لأمرٍ ما، كانت توسعة الملك فهد مزدحمة بالصغار، وحينما سألت عن سرّ هذا التجمع علمت أنها تجمعات جاءت من أنحاء quot;نجدquot;! لحفظ بعض الكتيبات وتداول بعض المنشورات والمذكرات المصوّرة في ساحة الحرم المكي، اتضح أن الجو في ذلك التجمع كان مشحوناً بالتكفير، يدل على ذلك الصفوف التي هربت من التوسعة إلى الدور الثاني متحاشيةً الصلاة على quot;ملك المغربquot; الذي نادى عليه أحدهم باسم quot;الكافر المرتدquot;. بعدها بساعات كنت في quot;جدةquot; لقيت بعض الصحافيين وسألته عن هذه الظاهرة الجديرة بالرصد والتدوين، فهمس لنا بهدوء quot;دعوهم هؤلاء في حالهم إن الكتابة عنهم من اللعب بالنارquot;! طوي الموضوع من وقتها حتى 11 سبتمبر. بعدها رأينا الإرهابيين الذين تحصنوا في شقق قريبة من الحرم المكي، ورأينا الألغام التي وضعت في quot;مصاحفquot; المفاجأة أن كان أحد شيوخهم في الحرم ndash;حسب معلومات أكيدة- أصبح أحد الـ36 مطلوباً في القائمة الصادرة عن وزارة الداخلية، وقد قبض عليه حياً.
بعد 2001 كتبت الصحف نقداً قوياً لتلك الظاهرة، إلا أن النقد جاء متأخراً جداً، حيث لم يدر بخلد زميلي الذي راح يكتب ويكتب عن تلك الظاهرة أن حادثة التكفير التي رأيتها بالحرم ستتحول إلى كرة ثلج لا تقف إلا على أنقاض أبراج مانهاتن.
في بداية عام 2005 وقفت وعن كثب على جهد بعض الأصدقاء الذين أقاموا لجنة مبسطة لمكافحة الإرهاب، أو لمناقشة الإرهابيين، فوجدت الحجج المتهافتة التي يطرحونها، ذلك أن الإرهابيين يملكون أدلة كما يمتلكون هم أدلتهم، لم يعلم هؤلاء أن الإشكالية أعمق من أن تكون في تنازع تفسير لدليل من الأدلة وإنما يجب مراجعة quot;آليات التأويلquot; فلم أشارك معهم إلا قليلاً، لذا خرجت منهم وأنا أحترمهم إلا أنني أنتقد عملهم لأن الإرهاب لا يكافح بنصيحة أخوية جيدة وإنما بتشريح عميق، وطويل المدى. صحيح أنني حينما زرت الحرم المكي صيف عام 2006 لم أجد تلك الظاهرة بعنفها ولكنني أعترف أنها لازالت موجودة ولكن على مستويات أكثر اختفاءً. أخشى ما يمكن حصوله أن تكون quot;مكافحة الإرهابquot; أصبحت وسيلة لإقامة مشاريع التكسب الذاتي والمادي.!
إن الإرهابيين استخدموا تفاسير quot;موجودة في التراثquot; ولها عمقها quot;التاريخيquot; إذ الحل ليس في الإتيان بمخزون مضاد من جهة أخرى من التراث، وإنما في مساءلة quot;التراثquot; وإخضاعه للبحث والنقد، فليس صدفة أن يكون بعض الإرهابيين لا يختلف عن بعض من يدّعون أنهم دعاة إلا في مسألة التوقيت، أذكر أحد تلاميذ داعية من نجوم الفضائيات حالياً يقول نقلاً عن شيخه (إن الدولة لديها كفريات ولكن ليس حلاً أن نخرج عليها) هذا الداعية يقدم الآن على أنه من دعاة التسامح زوراً وبهتاناً، وحينما لمزتُ ذلك الداعية في مقالة في صحيفة المدينة عام 2004 اتصل مقهقهاً مازحاً ويطلب مني مقالاتي كلها! أما الداعية الآخر فيقول بصوت مسموع (ليس هذا وقته) إذن الفرق في التوقيت. لا أكثر.
في مسألة الإرهاب نجد الكثير من البسطاء الذين أصبحوا يحللون الظاهرة في قنوات بائسة، ويظنون أن سبب الإرهاب جرماً يمكن القبض عليه، فيضربون بكل اتجاه علهم يسكتون quot;أنين السؤالquot;، لن يصبح الإرهاب جواباً حتى ننظر إلى أنفسنا، ونعيد اجتلاء مكنوناتها، ونختبر أحماض آرائنا وثقافتنا، لنفتت الأفكار التي تؤوي العنف وتغذي الإرهاب في النفوس والعقول، الإرهاب تحول من فكرٍ إلى سلوك، نشاهده في الملتقيات التي لا تخضع للرقابة الحكومية، وفي مؤسسات التعليم والإرهاب السري أفضعه ذلك الذي يختفي خلف مقولات لطيفة ظاهرها التسامح ويختفي في بطنها الإقصاء والإلغاء. إن الكتيبات والمنشورات والأشرطة لم يطبعها الأعداء وإنما طبعت على مرأى من عيوننا، فلا عجب أن تخرج فتية من الإرهابيين في كل تجمع إرهابي في العالم، أصبح الإرهابي السعودي ماثلاً في أغلب خلايا العنف في العالم، وتظل بعض الأنشطة بمنأى عن المساءلة والرقابة.
إن الإرهاب طبقة من طبقات ثقافتنا برزت على السطح كالفيضان، لأننا لم نراجعها مراجعة حثيثة ولم نخضعها للفحص والتحليل، إن الإرهاب ليس شرطاً أن يكون رشاشاً أو حزاماً ناسفاً ولكنه يكون أحياناً بالتحريض السري والعلني، خاصةً وأننا نرى بعض الذين أخذوا على عاتقهم مكافحة الانفتاح يكتبون ضد بعض الكتاب مقالات تحريضية بأسماء مستعارة في (الصحف) أولاً وفي (الانترنت) ثانياً. انتقل الإرهاب من كونه صرخة كبيرة تعلن كفر ملك دولة عربية كبرى على الملأ إلى السراديب، ولئلا يسبق السيف العذل، يجب أن لا تكون كتاباتنا عن الإرهاب موسمية وتكرارية، وأن تكون دائمة وأن ننتقد الإرهاب قبل بروز غوله مجدداً، فلم تعد الكتابة عن الإرهاب لعباً بالنار.
كاتب وباحث سعودي.
[email protected]