أثار مسلسل أيام الولدنة والذي بثته غير فضائية ناطقة بالعربية (وليست عربية لأن العروبة تندرج ضمن مصفوفة المفاهيم الافتراضية والمختلقة الأخرى التي لم يكن لها وجود إلا في مخيلة بعض الرومانسيين كالحصري والأرسوزي ومن ثم البيطار وعفلق رحمنا الله وإياهم أجمعين، وافتراضيتها، تماماً كما شخصية ذلك الضابط الأمني في مسلسل أيام الولدنة)، أكثر من موقف ورافقته مختلفة من زوابع ومناكفات، لم تكن لازمة البتة، إن لجهة عرضه أو لجهة التقدير والجوائز التي نالها.
وإذا كان المسلسل قد حظي بجائزة فنية في أحد المهرجانات الفنية في القاهرة فإن ذلك ليس بسبب مستواه الفكري العالي ومعالجته الدرامية الراقية بقدر ما هو، برأينا المتواضع جداً، تقدير لجرعة النقد والجرأة العالية التي وردت فيه وطبيعة المؤسسة الحساسة التي حاول المسلسل نقدها والتعرض لها كوميدياً، ومع عدم إغفال أن المسلسل كان من إنتاج quot;محلي سوريquot;، وعلى أرض سورية من الباب للمحراب، ونشدد على هذا بما يعنيه ذلك من انفتاح وحرية ما وتسهيلات لوجستية أخرى رافقت عمليات التأليف والإنتاج والعرض على حد سواء. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ربما يتداخل هنا السياسي بالفني، في إطار حالات الاستقطاب والتجاذبات السياسية الجارية في المنطقة، والتي تشكل سوريا إحدى مرتكزاتها الأساسية، ظناً من المانحين، ولاعتقاد مضمر لديهم، بأن المسلسل يصب بشكل ما في طواحين بعض الأضداد المتعاركة على الساحات الإقليمية المضرمة بغير سعير.
وبداية، ورغم أنني لست ناقداً فنياً متخصصاً بالمعنى التقني للكلمة، ولم أحترف ذلك يوماً، فأن دراستي الأكاديمية لم تخل من مواد تنطوي على جرعات لا بأس بها من النقد المسرحي والأدبي، ومن هنا، أستسمح القارئ الكريم بالمجازفة قولاً، لا تقريراً، بأن المسلسل يدخل، ومن حيث التقييم الفني الأولي، ضمن إطار الفانتازيا الكوميدية اللاواقعية القائمة أساساً، وبشكل عام، على تضخيم حدث، أو شخصية ما إلى تلك الحدود التي تسرق بسمة من هنا، أو ضحكة من هناك، وتعزف على وتر هنا، لتعود وتدق على طبلة، أو طبول هناك. والسؤال البديهي كيف يمكن لشخصية منبسطة تصنف نقدياً في الأدب وعلم النفس بـالـ Extrovert Character، وغير المعقدة درامياً، أن تلعب كل هذا الدور الحيوي والهام في مؤسسة تتمتع بأعلى درجات الرصانة والجدية والاتزان والانضباط ولا تقبل أي نوع من المزح والهزل والمهاترات اللفظية والسلوكية؟ وإذا تقبلنا، افتراضياً، أن هذا هو حال تلك المؤسسة مع نمط تلك الشخصية الانبساطية الهزلية، فكيف يتأتي لتلك quot;الأهراماتquot; الأمنية السورية المختلفة، أن تكون بالمقابل، وعلى أرض الواقع من جهة أخرى، وبعيداً عن أحداث المسلسل ذاتها، على تلك الدراية العالية بشؤون الحكم وإدارة بلاد معقدة وتجنبيها مخاطر وحروب وويلات كثيرة كابدتها دول ليست ببعيدة كثيراً عنها. لا بل استطاعت أن تحقق قدراً ملحوظاً من النجاحات الإقليمية المتعددة، ودأبت على الثبات على مواقف بدت حتى اللحظة، ولا نرجم بالغيب، عصية على أي اختراق وحققت تلك المكانة الإقليمية السورية التي لا يجادل فيها اثنان؟
ولا ننكر، بالمقابل، وجود سلبيات طبيعية جداً هنا وهناك، لا يخلو منها أي مجتمع من المجتمعات، كما هو الحال بالنسبة لأحداث واقعية على غير صعيد، غير أن تضخيمها بشكل هزلي فانتازي يفقدها الكثير من قيمتها وبريقها الدرامي والواقعي. ولا ننكر، أيضاً، وطبقاً لنظرية الأنماط الاجتماعية المعروفة في علم النفس، وجود شخصيات هزلية جداً في هذا المكون الاجتماعي أو ذاك، ووجودها أمر جد عادي في مفاصل ثانوية أو عادية على أي سلم وظيفي، لكن تموضعها في مفصل هام وحساس أمر قد يكون موضع تساؤل وتوقف، وغير ممكن واقعياً، والتركيز على هذا الشيء يسلب العمل الشيء الكثير من جديته، لكنه يخدم فقط ذاك الهدف الفانتازي الهزلي الذي يرمي إليه المسلسل وهذا حق لا ننازع أحداً عليه إذا كان من قبيل الإبداع الفني. ومن هنا، يمكن الإيجاز، أنه لا وجود واقعياً لهذه الشخصية على أرض الواقع. وإذا تصادف وجود هذه الشخصية في مكان ومفصل ما، وزمن ما، وهذا أمر جائز ووارد، فإنه فقط من باب الخداع المضلل تعميم ذلك والقياس، ومن ثم الحكم، عليه. ولكي لا يفرح البعض فإن تصوير شخصية ما ووضعها في ذاك القالب الهزلي، بالتأكيد، ليست من اختصاص مكون بعينه، في بلد وزمان ومكان بعينه. ويحضرني هنا على الفور ، مثلاً، شخصية الصعيدي المصري التي حاول الفن المصري تنميطها تاريخياً، وحصرها في قالب وإطار صغير. غير أن الواقع المعاش يدحض تلك الفرضية والمحاولة هذا إذا أخذنا بالاعتبار أن قادة كجمال عبد الناصر، وعلماء كبار كأحمد زويل، ومجدي يعقوب، وفنانين وكتاب آخرين لا يقلون شهرة وتأثيراً ينحدرون من أصول ومن بيئات صعيدية.
والشخصية الدرامية، عموماً، هي بالتأكيد محض نسج وتصور مبالغ فيه ومقدمة بإطار فني يعكس خيال الكاتب وتجربته الخاصة. والواقع فقط هو الذي يحدد مدى نجاحها أو فشلها وواقعيتها، رغم معرفتنا المسبقة بأن الكاتب في حالتنا هذه لا يكنّ أي قدر من الود للنظام، مع العلم أنه كان، دائماً، وعلى عكسنا بالمطلق، في صلب مؤسساته الإعلامية الرسمية الممولة حكومياً من عرق دافع الضرائب السوري، وتحت جناحها، وابنها المدلل، لفترة قاربت الربع قرن من الزمان، وتأتت شهرته من بين ظهرانيها ككاتب ومؤلف نكون مجحفين وغير منصفين إذ ننكر موهبته وما رفد به الدراما السورية من نصوص، وبغض النظر إن كنا نتفق أم نختلف معه في الكثير من أطروحاته، وهذا المسلسل إحداها.
وإذا كان المسلسل من بنات أفكار المؤلف، أم أنه دفع لكتابته دفعاً، فهو وبدون أدنى شك قد وقع في مطب فكري كبير عبر فرضيات التعميم والتبسيط والتسذيج، ولناحية الرسالة التي أراد إيصالها والتي أتت لتقول وتقرر في النهاية، وبكل أسف، عكس ما رام وتمنى، والدليل أمامكم مسلسل فيه جرعات عالية من النقد تصل حد التجريح وما كان له أن يرى النور، البتة، في محيط تسلطي وقمعي كما أراد الكاتب أن يوحي. فهو حين يريد أن يقول لنا بأن مؤسسة مشهود لها إقليمياً هي على تلك الشاكلة والنمطية المبسطة والمضحكة التي حاول أن يقدمها، فهو بالتأكيد يساهم ربما عن غير قصد بخداع وتضليل قرائه ومشاهديه، لأنها بكل بساطة ليست كذلك بالمحصلة والتقييم النهائي. ولن نأتي بجديد، أو نخترع شيئاً إذا قلنا أن تلك المؤسسة المقصودة بالتشهير والتجريح أعقد مما حاول أن يقوله أو يصوره المسلسل بكثير. ولو كانت على تلك الشاكلة من الرعونة وquot;الهبلنةquot; والهوج الأعمى والغباء الشديد الذي أتى في متن العرض الدرامي من خلال شخصية ذاك العنصر أو الضابط الأمني، كيف تأتى لها، إذن، أن تبقى وquot;تشرّشquot; وتتطور ارتقائياً طوال كل تلك السنين وتمسك بخيوط ألعاب سياسية معقدة جداً وتديرها بحنكة واقتدار في مختلف أرجاء الإقليم؟ ولو كانت تتعامل بمنطق رد الفعل الأحمق الطيشي، كيف سمحت تلك المؤسسة التي يهزأ المسلسل منها عبر أنموذجها الفانتازي الهزلي، بكتابة النص الدرامي، ومن ثم إنتاجه وإخراجه، لا بل تتمادى سذاجة وتغفلاً بعرضه على شاشة تلفزيون محلي، لولا أنها لا تنظر إليه بعين الجد ولا تأخذ منه إلا طابعه الفانتازي الهزلي اللاواقعي لأنها تعلم بقرارة نفسها، وبثقة وقناعة عالية في الذات بأنها ليست بذاك النمط الرثاثي التبسيطي.
وللحقيقة فإن هذه ليست هي المرة الأولى التي يتم بها تناول شخوص من هذا المكون الاجتماعي السوري في إطار فني درامي، فقد كان للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد صولات وجولات على هذا الصعيد، تمخضت فيلمين شهيرين هما رسائل شفهية، وليالي ابن آوى، أوغل فيهما كثيراً في تبسيط وترثيث وأنمطة شخصيات من هذا المكون الاجتماعي، والإضحاك عبر التركيز على العامل الفونولوجي اللفظي، وقوبل الفيلمان بكثير من الاهتمام والمتابعة والتصفيق والإعجاب من قبل أبناء هذا المكون الاجتماعي السوري تعكس طبيعته المنفتحة والمتسامحة وتقبله للحس الفني والنقدي على عكس بعض المكونات الأخرى التي كانت ستنظر للقضية كنيل من تراثها وتاريخها الذي يجب ألا يمس وألا يقترب منه أحد وربط أي نوع من النقد أو الاقتراب من المنتظم المجتمعي بالمقدس والتاريخي رغم أن البداوة تتلبس الجميع. وكما فعل ذات مرة أحد الكتاب حين سخر، نعوياً، بشكل فاضح ومؤلم من ذات المكون الاجتماعي فلم تقابل فعلته الشائنة تلك إلا بمسحة من التفهم والتسامح وعدم رد الفعل التشنجي والقمعي الإقصائي، تماماً، كما حدث مع مسلسلنا الولدني.
إذن براعة المسلسل، التي كانت وراء نجاحه، تكمن برأينا، فقط في جرعة النقد والطرح والجرأة العالية جداً التي لا تغفل أهميتها إذا وضعت في السياق السياسي والتطورات ذات الطبيعة الحساسة والخاصة التي يمر بها المجتمع السوري ككل. وقال لنا بكل صراحة، ومن حيث لا يدري، أن تلك المؤسسة التي يتعرض لها نقداً وتجريحاً وتسذيجاً تتمتع بقدر عال من التسامح والمرونة والتغاضي عن النقد، ولولا تلك العوامل، بعينها، لما كان المسلسل قد رأى النور ووجد طريقه حتى إلى شاشة تلفزيون وطني ومحلي.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات