هل يمكن الاستمرار في سياسة معتدلة لا ترى المتغيرات الدولية، ولا تتابع ما يجري حتى في داخل اقليمها، وانما هي ما زالت تنظر إلى العالم في لحظة هزيمة الاتحاد السوفييتي على يد حليفها القوي في واشنطن.

وهل يجب علينا أن نفهم الشرق الأوسط على أن اليسار العربي والقوميين المتشددين قد انتهوا لصالح رؤى الاعتدال العربي، فيما نحن نشهد منذ انهيار الشيوعية وسقوط بغداد بروز الإسلام السياسي كقوى اجتماعية حاضرة بعد ان كانوا في صف المعتدلين أيام مواجهة الشيوعية.

وأن قوى الاسلام السياسي تؤمن بالكفاح المسلح وتناضل لقضايا مجتمعه من وجهة نظر دينية بالطبع، كما كان يحلم اليسار ذات يوم، مما اعاد انتاج المشهد السياسي بالشرق الأوسط في استقطابات أكثر حدة من أيام الحرب الباردة، وخاصة أن ايران تمتلك قدرة على التفاعل مع المجتمعات الإسلامية عبر حلفائها، لم يكن بمقدور الاتحاد السوفييتي امتلاكها.

وأن هذه القوى وفي مقدمتها حزب الله وحماس والجهاد الاسلامي تنتمي إلى حاضنة اجتماعية لا يمكن اقتلاعها حتى لو أجمعت كل الدول العربية على سياسة الاعتدال، في مقابل الضعف الشديد والعزلة الاجتماعية المفروضة على تيار التسوية الفلسطينية الذي تلقى أكبر الدعم السياسي والمالي من الدول العربية المعتدلة.

لا يمكن فهم الاعتدال وكأنه ثوابت فكرية وأيديولوجية لا يمكن التنازل عنها فيما الاعتدال يعني المرونة السياسية والانفتاح على جميع القوى السياسية والتيارات الفكرية، كما أن الإعتدال يحافظ على السيادة الوطنية التي ينظر إليها بوصفها مكتسبات سياسية واقتصادية واجتماعية لا شعارات منحوتة من لغة خشبية.

بهذا المعنى نريد من الدول العربية مزيداً من الاعتدال الذي يمكنه استيعاب حميع القوى الفاعلة في مجتمعاتها والذي يعني الحفاظ على السيادة الوطنية بما يبقي على علاقات قوية ومتينة مع الدول الكبرى.

نريد مزيداً من الاعتدال الذي يعني ديمقراطية حقيقية وتعددية تشمل جميع مناحي الحياة، لا أن يكون الاعتدال قمعياً ولكنه يتميز بقدرته الخلاقة على انتقاد الدكتاتوريات الأخرى التي تتعارض مع السياسات الأمريكية.

نريد مزيداً من الاعتدال يحترم ثقافة حقوق الانسان ويعزز المكانة الحضارية والانسانية لمجتمعاتنا، لا اعتدالاً يتجاهل كل ذلك ويعرف فقط كيف ينتقد عجز الأنظمة المتشددة في احترامهم لمواطنيهم.

نريد اعتدالاً يرى بعينين اثننين، لا اعتدالاً أعور... أو مفقأ العينين، اعتدالاً يضمن لنا مجتمعاً ديمقراطياً تعددياً، يحترم مواطنيه وينتصر لحقوقهم وكراماتهم ولا يتخلى عن سياسة مرنة لا يمكن ان تتجمد وتتوقف عند لحظة تاريخية قد انتهت.

محمود منير