خذوا علمي ولاتعملوا عملي. مثلٌ ينطبق على الكثير من المسؤولين في حكومات دول العالم الثالث. الذين يستبيحون كافة الوسائل للوصول إلى غاياتهم. هذا النمط من السلوك يرضونه لأنفسهم ويحظرونه على غيرهم باسم السيادة والمقدس والخطوط الحمراء.

حضرني المثل وأنا أتابع تصريحات رئيس الوزراء الجزائري عبد العزيز بلخادم وهو يستاء ويمتعض من اللقاءات التي يجريها السفير الأمريكي في الجزائر روبيرت فورد مع الأحزاب السياسية والجمعيات المدنية والشخصيات الفكرية والثقافية. الجلسات تمحورت حول التعديل الدستوري المزمع إجراؤه بغية تمديد فترة حكم الرئيس خمس سنوات إضافية لتصل إلى خمسة عشر عاما، كما تناولت الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية الدقيقة التي تمر بها الجزائر.

تصريحات رئيس الحكومة اقتصرت على لوم تلك الأحزاب التي تسعى إلى تدويل القضية الجزائرية حسب رأيه، ولم ترق إلى لوم السفير الأميريكي رسميا رغم أن المسؤول الجزائري امتعض من تصرفات (فورد) واعتبرها متناقضة مع الأعراف الديبلوماسية الدولية. وهنا أتساءل: إذا كانت كذلك. فلماذا لا تقوم وزارة الخارجية الجزائرية باستدعاء السفير لتبليغه الاحتجاج رسميا؟ أم أن اللوم هنا يقتصر على ضيوف السفير من الجزائريين.

من عجيب المفارقات أن رئيس الحكومة الذي احتج على حوار الجزائريين مع الآخر. تحاور في العاصمة الإيطالية روما عندما كان في صف المعارضة (يناير 1995) تحت قبة جمعية سانت إيجيديو الكاثوليكية. حينها اعتبر النظام الجزائري مؤتمر (عقد روما) لاحدثا. وردّ (بلخادم) قائلا: السلطة أغلقت أبواب التحاور في الجزائر ولا بدّ أمام المعارضة سوى إيجاد متنفس في الخارج.

الآن وبعد ثمانية عشر عاما عُدنا إلى نفس الظروف وإلى نفس الممارسات مع اختلاف جذري في تبديل الكراسي الموسيقية. فالسلطة التي لاهمّ لها إلا الترويج للعهدة الثالثة للرئيس الذي ظل ملتزما الصمت. لم تفتح ولانافذة صغيرة أمام المعارضين للتمديد من الأحزاب والتيارات الفاعلة في البلاد، التي اضطرت إلى الشكوى للسفير الأميريكي وتبنّت مقولة (مرغمٌ أخاك لا بطل).

رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية سعيد سعدي ذهب أبعد من ذلك فهو ينوي زيارة واشنطن للقاء مسؤولين أميريكيين كبار لحثّهم على إيفاد لجان دولية لمراقبة الانتخابات الرئاسية القادمة في حال إصرار السلطة على تمديد ولاية الرئيس، كما ينوي زيارة فرنسا وكندا في إطار هذه المساعي.

قبل هذه الضجة تحدث السفير البريطاني بالجزائر (أنرو هندرسن) في محاضرة ألقاها في مركز تشاتم هاوس للدراسات في لندن، تحدث عن الأزمة التي تعيشها الجزائر - بصراحة غير معهودة - ما أثار حفيظة السلطات الجزائرية التي اعتبرت أن السفير حشر أنفه في شؤون الجزائر الداخلية. وبين هاتين الحادثتين أصدر معهد بروكينغز للدراسات في واشنطن تقريرا يرسم صورة سوداوية عن مستقبل الجزائر. محذرا من أن عدم استقرار الأوضاع هناك يمكن أن يُلقيَ بظلاله على المحيط المغاربي ودول جنوب أوروبا.

بعيدا عن لغة الخشب. تدلّ هذه الإيحاءات المتعددة المصادر على أن الاسرة الدولية تتابع وبقلق التطورات السياسية المتسارعة في الجزائر. ففي الماضي غضّت العواصم الغربية الطرف عن الصراعات السياسية الضيقة بين اللوبيات وأصحاب النفوذ واكتفت بممارسة ضغوطات خفية. إلا أن واقع السياسة الدولية المعاصرة وتشابك العلاقات الإستراتيجية وتداخل المصالح الاقتصادية فرض نوعا جديدا من التعامل خصوصا وأن الاستثمارات في مجال النفط والغاز سواء الأمريكية منها أو البريطانية أصبحت تقدر بمليارات الدولارت. عدا عن أن عدم استقرار الأنظمة في جنوب المتوسط من شأنه أن يُصدّر أزمات لاحصر لها إلى أوروبا، أزماتٌ يتقدمها الإرهاب والهجرة السرية والبواخر المحملة بالمخدرات.

رسالة العواصم الغربية باتت أكثر وضوحا:

لا يهمنا من يحكم من. ومن يحفر الخنادق لمن، المهم هو وحدة القرار السياسي لتفادي انهيار الأنظمة وذلك بممارسة الحد الأدنى من فنّ السياسة وتطبيق الحد الأدنى من الديموقراطية وتوفير فرص العمل للشباب الذي يمثل النسبة الأكبر من مجموع السكان. فالغرب يبحث عن نموذج مثل هونغ كونغ أو (دبي) لتطبيقه في شمال إفريقيا، مدنٌ عصرية تمتد من الحدود الليبية التونسية إلى أغادير في المغرب. هذا النموذج من شأنه أن يقتصّ جذور الإرهاب بتوفير لقمة العيش وامتصاص البطالة والحد من الهجرة السرية.

فهل سيستوعب النظام الجزائري هذه الرسالة أم أن النظام شاخ ولم يعُد قادرا على الفهم. كما أقرّ بذلك السياسي المخضرم عبد الحميد مهري قبل أسبوع.

سليمان بوصوفه