(يا أيها الذين أمنوا أن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون.) سورة التوبة.35-34

كان من المتوقع، تماماً، أن ينتهي الدجل والسحر والشعوذة والتجارة ودغدغة عواطف المساكين والبسطاء وبفضيحة مجلجلة من العيار الثقيل، أظهرت وبما لا يدع مجالاً للشك، بأن ما يقف وراءالخزعبلات والحركات المسرحية القرعاء، هو في النهاية ابتغاء وجه الدولار، وليس بالضرورة ابتغاءً لوجه الله. نعم فقد أظهرت مجلة فوربس للأغنياء، بأن الداعية لله المدعو عمر خالد، يحتل المركز الأول بين زملائه من موجة الدعاة الجدد، الذين غزوا العقول واستباحوا الساحات، ممن فرختهم حقب انحطاط العقل العربي المديدة، بدخل سنوي بلغ اثنين مليون ونصف المليون، فقط، ليس من الجنيه السوداني والمصري، أو الدينار العراقي المنهار، بل من الدولار الأمريكي، واللهم لا حسد، حبيب الدعاة وملهمهم للدعوة والإرشاد، متفوقاً بأشواط وبمئات الآلاف، ويا حرام، على أقرانه الآخرين من quot; الكسّيبةquot; والمسترزقين من تجارة الكلمة التي يبيعونها، مع قليل من التوابل والشطارة والفهلوة للمخدرين بسحر وأساطير الأولين.

السوق الديني، أو البزنس الدعوي أصبح حقيقة واقعة. فلا يستغرب، بعد اليوم، أن يتم إدراجه يوماً ما في quot;البورصة الإسلاميةquot;، استكمالاً لعملية الغزو والسطو التي تتم على عقول هذه الشعوب المنكوبة باسم الله، وأن يقسم كل داعية مؤسسته الدعوية إلى أسهم تباع لـquot; الغلابةquot; وبهاليل المسلمين وترتفع أسهم هذا وتنخفض أسهم ذاك طرداً مع قدراته الاحتيالية على التمثيل والنصب والخداع، وقدرته على أسر ألباب العذروات، واستذراف دموع المخدوعات بسحر الحجاب. هذا البزنس المزدهر صار له رجالاته، وطقوسه، وسكرتيراته، ومؤسساته، ونجومه، وأثرياؤه، وquot;بضاعتهquot; التراثية الجاهزة التي لا تكسد على مر الأيام، ويعيد إنتاجها أولئك الدعويون الأشاوس بقليل من الحنكة، والخبرة، وأحياناً الخبث، والمهارة التمثيلية، لإلهاب ودغدغة خيال الطامحين للحور العين والغلمان المخلدين، لنزعهم من واقعهم الحالي وأخذهم بعيداً إلى عوالم غابرة، وعصور سحيقة تزهو بالسحر والطهر والورع وقصص الرومانس، وإيهام المفتونين quot; المخدوعينquot;، بأن ذاك الزمن السالف، وكل تجارب البشرية الخلاقة قد توقفت كلياً في محيط تلك البيئة الصحراوية قبل 1400 عام ولا سبيل لمحاكاتهم على الإطلاق.

وإذا سلمنا بضرورة وجود دعاة للإسلام في المجتمعات المشركة، والعياذ بالله، أو لدى الوثنيين والبوذيين، واللادينيين لتعريفهم بدين الله القويم والحق، فلا أدري، في الحقيقة، ما هي الحاجة لوجود داعية، أو دعاة للإسلام في مجتمع إسلامي يولد بنوه مسلمين بالفطرة وهم مؤسلم من بابه لمحرابه، ويعيش بحرفية غير معقولة على فتاوى يومية يصدرها له شيوخ الدين من ألف وأربعمائة عام عن كل شاردة وواردة في حياته ومع ذلك، لم تستطع، وبكل أسف، أن تنظم حياته حتى الآن أو تضبط سلوكه الجنسي وعلاقته مع النساء؟ كما وتتلقف وزارات التربية والتعليم في الدول الإسلامية، الأطفال قبل أن يفتحوا عيونهم البريئة لتحشو عقولهم بأساطير الأولين وقصص الجان والعفاريت والثعبان الأقرع وعذاب القبر وأنكر ونكير، وتعاقب من لا quot;يختمواquot; جزء عم وتعرضه للإهانة والتوبيخ أمام أقرانه الطلاب. وفي أغلب الدول العربية يحظى الزمن المخصص لدروس التربية الدينية بحصة الأسد يقوم بإعطائها مدرسون خريجو جامعات أو معاهد دينية، وتعتبر مادة التربية الدينية مادة مرسبة لا يجتاز الطالب صفه الدراسي دون النجاح بها حتى لو كان فيثاغورث أو إينشتاين عصره. ويبدو الدعاة الجدد، في هذا الجو المتخم دعوياً، كمن يبيع الماء في quot;حارة السقايينquot;، وقد سيطر المد الديني أو الصحوي على أوجه الحياة في عموم العالم الإسلامي.

هذا وقد غزا المدرسون الأزهريون، مثلاً، دول الخليج، ( ودرءاً لأي سوء فهم والتباس فهو ليس ابتغاء لوجه الدولار)، وبعض الدول العربية الأخرى، وحولوا عقول أبنائها وشبابها وأطفالها الصغار إلى عصف مأكول، وكل الحمد والشكر لله. والسؤال الأهم لماذا يحتاج الدين لكل هذا التفسير والشرح والتأويل ولكل هذه الجيوش الجرارة من الدعاة وأطنان من الكتب والمؤلفات لتقديمه إلى العامة التائهين والجهلة بشؤون دينهم ودنياهم؟ أفبعد كل ذاك الضخ نجد أنفسنا، وبكل أسف، بحاجة لخدمات عمرو خالد وأمثاله من نجوم البزنس الديني لإثرائنا دينياً وضبطنا سلوكياً؟ وبالمقابل، لماذا يعيش الغرب بذاك الشكل المتكامل من الانضباط والرقي والحضارة ويحرزون كل تلك الإنجازات الخارقة في ميادين الطب والعلوم الأخرى دون أن يكون لديهم دعاة من طراز المدعو عمرو خالد أو الجفري والقرضاوي والجندي والفيشاوي...إلخ؟ أم أن هذه العقول الضامرة المضمرة قد أصبحت عاجزة عن استيعاب أي شيء آخر، وهي بحاجة مراراً وتكراراً لأن تعاد عليها قصص الغزو والسبي والفتنة الكبرى، وطرق النكاح وأبواب الإيلاج وأوقات الجماع، وفقه الحيض والنفاس المعقد والعصي عن الفهم، وعدد الزيجات لهذا الصحابي أو ذاك؟

وإذا كان الإسلام هو دين الفطرة، تأكيداً لما قاله النبي محمد: (كل مولود يولد على الفطرة)، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم-30، فلماذا هذه الحاجة لهذا الجهد الهائل لإقناع الناس به، وهم الذين فطروا عليه؟ وإذا كانت الآية تقول، وعلى لسان رسول الإسلام، على ما أعتقد ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )، المائدة (3)، فهل ثمة من داع لجهود هذا الداعية أو ذاك لتوطيد أركان الدين، بعد أن حمـّل الله لرسوله العظيم الأمانة ليبلغها إلى الناس، وقام بواجبه، مشكوراً، وبلغها على أحسن ما يرام، وانتهى الموضوع وquot;خلاصquot;؟ أو هل لم تصل quot;الأمانةquot;، ولا سمح وأستغفر الله، بعد وهي بحاجة لـquot;ساعات عمل إضافيةquot; يتولاها هؤلاء الدعاة التي يثابون عليها بالدولارات الأمريكية فقط ويودعونها في بنوك اليهود والنصارى وليس في المصارف الإسلامية، ولا ينفقونها في سبيل الله وعلى أبناء جلدتهم من فقراء مصر، مثلاً، الذين يخوضون معارك شرسة وضارية بالرفس والنطح وquot;البوكسquot; الحي، وعلى الهواء مباشرة اليوم من أجل رغيف خبز كما نقلت لنا قناة الجزيرة في تقرير موسع لحسين عبد الغني من القاهرة يوم الجمعة الماضي، لما يعانيه الناس في ديار الإيمان والإسلام. ولِمَ لم يستطع هؤلاء الدعاة أن يفعلوا شيئاً حيال الفقر برغم خطابهم الوردي والدعوي، أو من إيجاد حل سحري وسماوي للفاقة والمجاعات التي تجتاح العالم الإسلامي؟ وهل سينسى الناس الفطرة في حال غاب عنهم هؤلاء الدعاة لسبب ما، لا قدر الله، ولن يكون بإمكانهم، بعد ذلك، مثلاً، الذهاب إلى الحمام، أو إرشادهم لكيفية امتطاء الجاريات وما ملكت الأيمان، وستعم الفوضى وتنتشر الخراب؟

لا يرقى عمر خالد لدرجة العالم الديني أو العالم بأي شيء، بمعايير الفقه والعلم الإسلامي، فكل ما يقوله ويجود به من قصص وسير محفوظ ومعروف لطلاب الابتدائي في العالم الإسلامي ، وجل مواهبه وإمكانياته وقدراته الخارقة هي تمثيلية ومسرحية ليس إلا يوظف فيها ذاك التراث البسيط لجني الملايين على حساب بعض البهاليل المخدوعين به.

أية تجارة رابحة تدر اليوم على صاحبها هذه الأرقام الخرافية التي صار الدعاة ينافسون بها كبار التجار ورجال الأعمال وحرامية القطاع العام، وهي، بالمناسبة، لا تخضع إلى أي نوع من الرقابة، أو الضرائب والمتابعة والمساءلة القانونية، وهي حلال بحلال، نقول أي نوع سوى هذا النوع من التجارة الرائجة والمسموح بها رسمياً والتي تأخذ من تيه وشقاء وشلل وانعدام حيلة الناس مادة لها، لتتحفنا بمليونيرية جدد من طينة عمرو خالد يضحكون بها على عقول وذقون الفقراء، لكنها مطعمة بنكهة سماوية مقدسة، ومنزهة عن أي شك وسؤال، ويكون صاحبها قد ضمن جاه الدنيا وفاز بالآخرة، ولعمري، فإن تلك معادلة صعبة لا يحققها إلا صناديد الرجال، وترتقي، حقاً، إلى درجة المعجزات؟

نضال نعيسة