إن سائق عربة الخيول المفجوع بابنه في قصة( تشيخوف ) الشهيرة، عندما لم يجد أذناً صاغية من أحد ركابه ليروي له مأساته، رواها آخر الليل لجواده، ولكن الإنسان العراقي الأصيل، المفجوع بسنين خمس عجاف ضاعت من حياته هدراً، بين قتل وتشريد وغربة واعتقال وفساد وطائفية وانعدام الخدمات، لمن سيروي مأساته أخر الليل؟


فمنذ العام 2003 وحتى الوقت الحاضر مازال الوضع في العراق يتسم، في ظل استمرار الاحتلال الامريكي، بتدهور الاوضاع الامنية والاقتصادية وتدخل دول الجوار بشكل علني وسافر في شؤون العراق الداخلية وتواصل أعمال العنف ووصول العملية السياسية الى طريق مسدود بسبب فقدان الثقة بكل الوعود التي طرحتها الحكومات المتعاقبة لايجاد حل لهذه الازمة الخانقة وفشلها في تحقيق المصالحة الوطنية وكذلك عجزها لحد الان عن تعديل الدستور حسب الاتفاق الذي تم سابقا بين الكتل السياسية الحاكمة، بالاضافة الى فشلها في بناء مؤسسات مدنية وعسكرية وطنية محترفة وغير مسيسة او متحزبة ويكون ولاءها المطلق للوطن وسيادته ووحدته، كما اثبتت احداث السنوات الخمس العجاف الماضية عجز الحكومات العراقية ايضا عن تحقيق وضع امني مناسب يتيح للمواطن حرية العيش بسلام ويوفر المناخ الملائم لاعادة البناء والاعمار، حتى أصبح المواطن العراقي على بينة من أن هذه الوعود هي لأغراض التسويق الإعلامي والمصالح السياسية والحزبية الضيقة على حساب مصالح الشعب وثرواته ورفاهيته واستحقاقاته الوطنية في كافة المجالات..


ان المميزات التي أصبحت تطغى على المشهد العراقي اليومي لا تنحصر فقط في أعمال العنف والدمار والتفجيرات المتتالية التي تطال الشوارع والأحياء والمواطنين، والتي يجري التخطيط لها من خارج الحدود وبالذات من بعض دول الجوار التي لا تريد الاستقرار للعراق في إطار سياسة تصفية حسابات قديمة والنيل من عروبة العراقيين ووحدتهم واستقرارهم، بل أصبحت تطال العديد من فئات المجتمع العراقي من أطباء وأساتذة ومعلمين وطلاب وتلاميذ وحرفيين وتجار وعسكريين وكل هؤلاء راحوا يطالبون بتوفير الأمن والاستقرار وتوفير ظروف العيش الآمن والاستقرار..
ولو اردنا تقييم الوضع في العراق من كافة جوانبه، وما حصل خلال السنوات الخمس الماضية بالاعتماد على ارقام واحصائيات عراقية رسمية ودولية لامكننا التوصل الى الحقائق المرعبة الاتية:
1. قتل أكثر من مليون عراقي على مدى السنوات الماضية، وتشير احصاءات دولية إلى أن 16 بالمئة من العراقيين فقدوا أحد أفراد عائلاتهم منذ عام 2003 بينما 5 بالمئة منهم فقدوا اثنين من عائلاتهم..


2. تهجير وتشريد حوالي اربعة ملايين عراقي إلى خارج العراق بسبب جرائم القتل على الهوية والتهديدات وحملات المداهمة والتفتيش والاستهداف التي نفذتها مليشيات مسلحة وعناصر المخابرات الأجنبية..


3. اجبار أكثر من مليونين وخمسمائة ألف عراقي على مغادرة ديارهم ورحيلهم إلى أماكن داخل العراق يعتقدون أنها أكثر أمناً وأن 70 بالمئة من هؤلاء النازحين هم من الأطفال والنساء.. ومعظمهم يعيشون في أماكن إيواء ينقصها الماء والكهرباء والوقود والخدمات الاخرى..


4. تشير التقديرات الدولية إلى أن ثمانية ملايين عراقي في حاجة ماسة إلى المساعدات الاقتصادية منهم خمسة ملايين وخمسمائة ألف يعيشون تحت خطر الفقر وأربعين بالمئة من هذا العدد يصنفون بأنهم يعيشون فقراً مدقعاً ويزداد الأمر سوءاً بالارتفاع المستمر لأسعار السلع والخدمات حيث ازدادت أسعار المواد الغذائية الأساسية خاصة منذ العامين 2005 و 2006 فقط بنسبة 70 بالمئة وواصلت هذه النسبة في الارتفاع عامي 2007 و 2008 كما أن ستين بالمئة من القوى العاملة المقدرة بسبعة ملايين وخمسمائة ألف عاطلون عن العمل..


5. عدم حدوث أي تطور في البنى التحتية كالكهرباء والطاقة والخدمات، بل على العكس تماما، هناك تدهور وتخريب مستمرين لكل مرتكزات البنى التحتية للدولة واولها الكهرباء حيث تشير الوقائع ان مدن العراق وبغداد العاصمة تعاني من معضلة انعدام وانقطاع الطاقة الكهربائية المستمرة منذ العام 2003 ويخضع قطاع الكهرباء إلى منهج المحاصصة الطائفية في توزيع الطاقة على مناطق معينة وحرمان مناطق أخرى من تلك الطاقة ولا يتوقع العراقيون انفراجا لهذه الأزمة في المستقبل..


6. انتشار الفساد الاداري بشكل كبير ومخيف في كافة القطاعات وعلى كافة المستويات، وقد كشفت هيئة النزاهة العامة في العراق أن قيمة أموال الهدر والفساد الإداري والمالي قد ازدادت لتصل زهاء الثمانية مليارات دولار، ليحتل العراق إلى جانب هايتي وبورما من بين أكثر الدول فسادا في العالم..


7. في مجال التعليم يوجد 800 ألف طفل عراقي في سن المدرسة لا يحظون بأي فرصة للتعليم وقد جرى اغتيال وتصفية مئات العلماء والأساتذة والأكاديميين..


8. يعيش القطاع الصحي في العراق أوضاعا كارثية إذ إن 90 بالمئة من المستلزمات الطبية والعلاجية في مستشفيات العراق الكبيرة والبالغة 180 مستشفى غير متوفرة وأن 50 بالمئة من مجموع أطباء العراق المشهود لهم بالكفاءة والخبرة والبالغين 34 ألف طبيب قد غادروا البلاد اضطراراً إلى بلدان أخرى بحثا عـــن الرزق ولانعدام الأمن والأمان..


9. يعاني سبعون بالمئة من العراقيين من التزود بمياه الشرب بزيادة 50 بالمئة عما كان عليه الواقع قبل العام 2003 وان 80 بالمئة ممن يعانون هذا النقص تصل إليهم المياه لا تنطبق عليها المواصفات الصحية مما يتسبب في إصابتهم بالعديد من الأمراض المرتبطة بالمياه الملوثة..


10. اما عن الاسرى والمعتقلين فيقدر عددهم في السجون والمعتقلات بما يزيد عن (32) ألف معتقل، حسبما ذكرت وزيرة حقوق الإنسان الدكتورة وجدان ميخائيل قبل أسابيع، كما ذكرت منظمة ألـ (يونيسيف) في تقرير لها حول الطفولة في العراق أن قوات الجيش أو الشرطة العراقية اعتقلت نحو ألف و350 طفلا، بينهم كثيرون بسبب مزاعم عن انتهاكات أمنية، بينما قال ممثل المنظمة في العراق (روجر رايت) إن أطفال هذا البلد (يدفعون الثمن باهضا )..


وأكدت المؤسسة على أن عشرة أشخاص ماتوا داخل السجن بسبب التعذيب في شهر واحد، وأكدت التقارير أيضا أن مراكز الاعتقال ازدادت حتى بلغت أعدادها بالآلاف بينما تجاوز عدد السجون الرسمية ( 36 ) سجناً.. وأكدت ممثلة اتحاد الأسري والسجناء السياسيين العراقيين أن هذه السجون تتوزع في كافة المحافظات من شمال العراق وحتى جنوبه..


كما كشفت مؤسسة حقوق الإنسان في العراق النقاب عن وجود أكثر من 900 عراقي معاق في سجون الحكومة العراقية لم توجه لهم أية تهم حتى الآن، وأكدت المؤسسة أن احتجازهم يأتي لأسباب طائفية بحتة..


11.أشار تقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر أعدته خصّـيصا بمناسبة حلول الذكرى السنوية الخامسة للحرب على العراق بان الوضع في العراق أصبح مأساويا وانه الاسوا في العالم..

لقد أكلت هذه السنوات الخمس العجاف من حياة العراقيين وأمانيهم وتطلعاتهم إلى غد مشرق ودفعت بهم إلى المجهول، والسؤال الملح الذي ما زال يطرح نفسه باستمرار بعد هذا الحصاد المر، إلى متى تستمر مأساة العراقيين ومعاناتهم؟ وهل يمكن إيجاد ضوء في نهاية هذا النفق المرعب قريبا؟ وما هو رأي المسئولين عن الحكم في العراق عنة كل هذه الأمور؟


كل هذه الاسئلة وغيرها تناولها الباحث في استطلاع للراي شمل نماذج منتخبة تمثل شرائح المجتمع العراقي المختلفة من مثقفين ومهنيين وعسكريين واساتذة جامعات واطباء ومهندسين وصحفيين واعلاميين وطلبة وعمال وغيرهم حيث اكد هؤلاء ان الاحتلال الامريكي وما افرزه من تاسيس لنظام حكم طائفي واستبعاد شرائح مهمة من ابناء الشعب واصدار قوانين العقوبات الجماعية بحقهم وحل الجيش ومؤسسات الامن الوطني والوزارات السيادية وقطع الرواتب عنهم وفسح المجال امام دول الجوار بالتدخل في الشؤون الداخلية للعراق ودعم العناصر المسلحة المختلفة، كل هذه الامور وغيرها شكلت البداية لمشاكل العراقيين وماساتهم وتسببت في حدوث انقسامات خطيرة في البنية الاجتماعية العراقية التي ظلت متماسكة الاف السنين نتج عنها خلق توتر اخر في المجال السياسي وتصاعده بوتيرة مخيفة ليتحول فيما بعد الى خلافات سياسية حادة على مصالح سياسية وحزبية ضيقة دون اعطاء الاهتمام الكافي والجدي لحاجات ومتطلبات ابناء الشعب ليتحول الامر فيما بعد الى اعمال عنف مسلح وقتل ودمار وتخريب وتهجير..


وفي ضوء استقرائنا لهذه الحقائق المؤلمة والوقائع التي ما زالت تعصف بالبلاد بشكل مخيف وبالرجوع الى تحليلات الخبراء والمختصين بالشان العراقي يمكن القول أن الحكومات العراقية المتعاقبة فشلت في ايجاد حل لهذه الازمة وان الحكومة الحالية هي الاخرى غير قادرة على إيجاد تغيير في حياة العراقيين لصالح امنهم واستقرارهم وتامين استحقاقاتهم ورفاهيتهم..


وتكمن اسباب الفشل بشكل عام في حالة أللاستقرار واللامن في البلاد والتي أصبحت تميز المشهد العراقي السياسي في كل مدن العراق واقضيته ونواحيه.. ويعتقد هؤلاء المتابعين أن هذا دليلا على أن الشعب العراقي لم يعد مقتنعا بما يجري ولا بالحلول التي يتم الحديث عنها أصبحت تهمه بالدرجة الأولى.. فالأمر الذي أصبح يشغل بال العراقيين ويشد اهتمامهم هو تحسن الوضع الأمني وعودة الاستقرار وتوفر ظروف العيش الكريم وإنهاء كل أشــكال التدخل الخارجي في شؤونه الداخلية..


ويرى المتابعون للشان العراقي أن هاجس الحكومة العراقية لا ينحصر ( من الناحية الميدانية والقدرات والامكانيات المتاحة ) في هذه الاهتمامات الجماهيرية بل في كيفية توزيع الحصص السياسية والمناصب الوزارية بين هذه المجموعة او تلك الطائفة بعيدا عن استحقاقات واهتمامات الجماهير العراقية المشروعة.. وهذا من شانه أن يعمق الفجوة بين الفئات السياسية الحاكمة وبين مختلف الشرائح الاجتماعية في العراق..


خلاصة القول ان ثمن الدماء التي سالت انهارا خلال الفترة الماضية وحجم الدمار والتخريب في البنى التحتية لا تساوي ما اسموه بالديموقراطية والحرية التي وعد الشعب العراقي بالتمتع بهما.. وعند الوصول الى هذه النقطة في حديث الاستطلاع انف الذكر اشار بعض المتحدثين الى مسالة غاية في الاهمية وهي محاولة معرفة امكانية وقدرات المسؤولين وجديتهم في ايجاد الحل المطلوب للازمة العراقية فطرح بعضهم تساؤلا اجابوا عليه بانفسهم، فقالوا اذا كان الجواب من احد المسؤولين يحدد بان هؤلاء المسؤولين واقعون تحت الوصايا الدولية والاحتلال الامريكي وانهم غير قادرين على بناء مؤسسات مدنية وعسكرية مستقلة وكفوءة وتطبيق سلطة النظام والقانون بحرية ونزاهة وعدل، ففي مثل هذه الحالة يكون من الافضل لهذا المسؤول او ذاك الاستجابة لمطالب الشعب المشروعة بالتنحي عن المسؤولية ان كانوا غير قادرين على اداء واجباتهم تجاه الشعب وتنفيذ ما تعهدوا به من وعود بتحقيق الامن والاستقرار والرفاهية وحماية ممتلكات الشعب وثرواته ووقف التدخلات الاجنبية واشاعة اجواء المحبة والتسامح ووحدة البلاد وسيادتها واستقلالها،
وعندها نعتقد بان الشعب العراقي سوف يقدر شجاعة هذا المسؤول او ذاك لاتخاذه مثل هذا القرار الصائب وان الاعتراف بالحق فضيلة، رغم علمنا بان حل المشكلة يكمن في خروج المحتل او وضع جدول زمني لخروجه والغاء كافة القوانين الجائرة بحق الشعب واعادة تشكيل العملية السياسية من جديد بعيدة عن الطائفية والتمييز والمصالح الانانية والتدخل الاجنبي وبمشاركة كافة اطياف الشعب العراقي بما فيها المقاومة العراقية واعادة تشكيل الجيش ومؤسسات الامن الوطني على اسس سليمة والحاق جميع الكوادر المدنية والعسكرية السابقة الكفوءة والمخلصة ممن لم يثبت ارتكابها أي جرائم بحق الشعب، كما يمكن لهذه الخطوة ايضا ان تساعد في وضع حد للتدهور الاخذ بالتصاعد، خاصة وان هناك الكثير من القوى الوطنية والشخصيات المخلصة والمشهود لها بالكفاءة والنزاهة والولاء المطلق لوطنها وحرية شعبها لم تاخذ دورها بعد في العملية السياسية التي يفترض ان تكون مفتوحة لجميع الاطياف العراقية دون استثناء..


وكلمة أخرى لابد منها وهي أن الحديث عن الحرية والديمقراطية هو أن تمارس الحرية وان تمارس الديمقراطية، وأن تعيش في دولة تتمايل الحريات مع أنفاس أهلها، فتحول خوفهم أمنا، وظلمهم عدلا، وهمسهم جهرا، ومشكلة العراقيين، كباقي العرب، أنهم من رواد الحديث عن الحرية، يصفونها كامرأة حسناء لم تخطر على قلب بشر، ويتغنون بها كنشيد تعتق بحنين عشاق دجلة والفرات، لكنهم يرددونها بالموال العراقي المميز الذي يكتنفه حزن الرافدين من كل جانب، فلا تكاد تفرق بين أفراحهم وأحزانهم، وهكذا هو الحال الآن في بلاد الرافدين والحضارة والتاريخ والمأساة..


فالمطلوب بعد كل ما تم استعراضه من معضلات وحلول أن نعيش الحرية ونمارسها لان الحرية للجميع من دون استثناء، أن نعيش الأمن ونمارسه، أن نعيش التآخي ونمارسه بلا تمييز أو تفرقة أو طائفية، أن نعيش حالة الأعمار ونمارسها، يعني أن نحرث الأرض من أجل وطن آمن يزهو باستقراره السياسي والاجتماعي، وتختفي من لغته حروف القتل وحرفة الانتقام، يحكمه القانون الذي يفسح للجميع فرص التفكير بمستقبل زاهر، يحبو به الطفل الصغير من دون وجع الرصاص، وترسمه الفتاة اليافعة بحبر السلامة من قهر الفراق، ويقرأ فيه الرجل الناضج سورة التوحيد من أجل وطن واحد يحتضن الجميع بكل أطيافهم وألوانهم الزاهية..


وأخيرا نقول إن إرادة الشعب هي الاقوى بعد ارادة الله سبحانه وتعالى وان هذا الشعب يجب ان ياخذ دوره الحقيقي في ادارة شؤون بلده وليس كما حصل ويحصل الان من طرح للشعارات المضللة التي تشير الى حكم الشعب لنفسه..

عبدالوهاب محمد الجبوري