في العراق كل شيء يتغير وبشكل حاد ومقلق ومخيف والنجاحات الامنية هي واقع أكيد على الارض. لكن المسالة اكبر من هذا الواقع الآمني وبكثير، فالعراق اليوم تم افراغه ليس من ملايين البشر من أبنائه فحسب، بل رافقت هذه الهجرة هجرة اخرى نوعيه من نوع اخر لاتقل خطورة او تاثر عن تلك الموجه التي هاجرت او هجرت. وقد يكون موضوع هجرة السمك المسكوف من اخطر الامور على الاطلاق في هذا الجانب. ومن لايعرف السمك المسكوف. فهي طريقة ' شوي' عراقية مميزة للسمك أرتبطت طقوسها ونكهتها بشارع أبو نؤاس الشهير على ضفاف دجلة الخير وسط بغداد الشهيرة والمشهورة ايضا!! بداية هكذا نوعية من السمك العراقي الآصيل مثل اهله الكرام يفتقده الكثير من الشعوب المحيطة بالعراق لانه سمك نهري او من اهوار العراق. ولذلك ولتلك حكايا وروائع واحزان تذكر عند كل عراقي فعلا و ' أكيد عراقي '.


شارع ابو نؤاس كان يعمل بطبيعة الحال طيلة ايام الاسبوع والى ساعات متاخره من الليل قد تلامس الفجر. لكن في يوم عصر الخميس من كل اسبوع يتالق هذا الشارع بشكل ساحر وغريب وعجيب لايشعر به ولايعطيه حقه الامن تعود على هذا الجذب التاريخي والكوني في هذا الشارع. وقد لايعرف الكثير من العراقيين الاكارم ان جزء كبير من أرثهم الفني والادبي والمسرحي وحتى العاطفي والانساني قد ولدت افكاره او ترعرعت بين ثنايا وزوايا شارع ابو نؤاس. كان ذلك قبل ان تتحول ضفة ابو نؤاس على دجلة الى ساتر أمني حديدي يحيط به اقزام النظام الساقط من اصحاب بدلات الزيتوني المقيته. كان شارع ابو نؤاس رمز من رموز العراق الجميلة والثريه، وقبل ايام نقلت احدى الفضائيات العربية طريقة عمل بعض العراقيين في مطاعم للسمك المسكوف في سوريا وقبل ذلك بشهرين وقد كنت في الشام دعتني بكرم ولطف كبيرين صديقة وزميلة اعلاميه عربية الى وجبة عشاء من السمك المسكوف في احد المطاعم العراقية الحديثة هناك فقبلت الدعوة بشرط ان نغير المكان ونوعية الطعام لانني اؤمن ان المشكلة ليس في السمك او المطعم لكن المشكلة الحقيقية والكبيرة في بلدي العراق هي في واقع الامر في الزمان والمكان وفي طريقة تفكير البعض وفي نوعية الثقافة التي تحاول بقوة أن تسود في عراق اليوم على حساب كل التنوع الثقافي الكبير في التاريخ العراقي.

والذي أثمر على مدى عصور طويلة ومختلفة رقي ورياده عراقية مميزة في كل شيء. وكنت قد شاهدت في تلك الفترة الشيخ محمد بن راشد بن مكتوم وهو يدعو احد ضيوفه من رؤساء احد الدول الاسيوية الى وجبه عراقية مشابهة من السمك المسكوف لكن في دبي ورغم جمال المنظر بين النار والجمر والسمك المسكوف لكن كل ذلك لم يصل الى ذروة جمال ونكهة سمك شارع ابو نؤاس. وللسمك المسكوف في السياسة العراقية منحدر غريب وخطير قد لايعرفه الكثيرين او لم ينتبه له الكثيرين. ففي عقد السبعينات وعندما كان شيراك رئيس للحكومة الفرنسية كان صدام حينها نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة وقد زار باريس بدعوة من شيراك وبالطريقة العربية الشهيرة والمزمنة والمتواضعة تلك التي تخلط بين الرسمي والشخصي وبين الستراتجي والمرحلي تصرف حينها صدام عندما طلب من بغداد طائرة سريعة وفورية لجلب سمك عراقي مع مجموعة من الاشخاص الذين يعملون في شارع ابو نؤاس وقد دعا شيراك الى وجبة عشاء سمك مسكوف في السفارة العراقية وسط باريس!!

وفي حقيقة الامر كانا الاثنين على طرفي نقيظ تماما رغم الدعم الفرنسي الواضح لنظام حزب البعث في العراق حينها كنوع من التطابق مع التوجهات الغربية والامريكية في أحتضان ودعم ابناء انقلاب 1968.

لكن يبدو ان صدام كان وهو يبطش ' بالكطان و بالشبوط والبني العراقي ' وسط باريس يفكر في انها الطريقة الاقرب لكسب ود ودعم شيراك للحصول على مفاعل نووي !! وفي الجانب الاخر كان شيراك وفي تنسيق وتوافق مع رفاقه الغربيين قد قرروا فعلا بيع هذا المفاعل الى صدام لحسابات طويلة ومعقدة ليس هنا مجال الخوض فيها. لكن كانت كل مفاتحيها واسرارها وخططها وبداياتها ونهاياتها في عقلية مستر شيراك ورفاقه. وكان المسكين الكبير في هذه الدعوة هو الرجل المتواضع الذي أؤتي به قسرآ من محله في ابو نؤاس الى باريس والجاهل الاكبر والاكثر غباء لقواعد هذه اللعبة كان صاحب هذه الدعوة، صدام نفسه وليس غيره فاألتهم السمك والطعم في أن واحد. وقد اثبتت الايام الكثير من حقائق هذه التفاصيل الستراتجية الكبرى.

اليوم السمك المسكوف قد هاجر من العراق من خلال هجره لشارع ابو نؤاس ومع الاسف الشديد بعض الواجهات السياسية الجديدة في عراق اليوم يتصور ان مشكلة شارع ابو نؤاس تنحصر فقط بالحواجز التي تستوطنه او باتلاف الحدائق التي كانت تزينه سابقا، ولذلك يقوم البعض بين فترة واخرى بالاعلان مثلا عن فتح حديقة او زرع اشجار في الشارع !! وفات على هولاء ان المشكلة اكبر وأعظم بكثير وان معادلة عراقية ' للاكلات الشهيرة ' قد تبسط الامور على هولاء فمثلا لبن اربيل الشهير لايكون بنكهته الحقيقية الا في شربه او تناوله في اربيل نفسها، ونفس الشيء ينطبق على كباب الفلوجة الشهير او على قيمر الحله الشهير او طرشي النجف الشهير وحتى على باجة الحاتي في منطقة ابو سيفين في بغداد او باجة منطقة الشوصه في مدينة الكاظمية ونفس الشيء مع البرياني الجنوبي والكبة المصلاوية والدليميه الرمادية!! فلكل حادث حديث ولكل حديث مقام !!

هكذا هي الامور في العراق رضينا ام أبينا. لذلك يقع في خطا كبير من يتصور ان مجرد اعادة زراعة كذا شجرة او وضع مصطبه او كرسي في شارع ابو نؤاس ستعيد الحياة والنبض اليه، لا بل واجزم ان حتى الاستقرار الامني لو وصل الى درجة مائه في المائه فان نبض الشارع لم و لن يعود الى وضعه الطبيعي، والسبب الجوهري في ذلك واضح جدا ولايحتاج الى عناء في التفكير والتدقيق وهو قد ينحصر بهذه الكلمات البسيطة ( هناك تغيب تام للفن و للثقافة العراقية بكل جوانبها وبنفس الوقت هناك ثقافة قسرية تحاول ان تسود وتفرض نفسها تارة بالقوة واخرى بالتهديد واخرى بالتخويف الارضي والسماوي على حد سواء !!) وطالما بقيت الموسيقى ' أثم ' والشعر والمسرح واللوحة التشكيلية حرام طالما تتقاطع مع افكار هذه الثقافة القسرية. و تبقى أمنيه في داخلي اتمنى لاتكون خائبة مسبقا وهي ان لاتدعم هذه الثقافة القسرية بقوة السلطة لان في ذلك خلل كبير في المعادلة وعدم تساوي كفة التنافس الذي يجب ان يكون متوازن. ان في عراق اليوم الكثير من منابع الثقافة تجف مثل المسرح والموسيقى والغناء والرسم والشعر، حالها حال رافدي العراق دجلة والفرات وحال جداول ومصبات وانهر صغيرة اخرى يتم قتلها بصمت وريبه، وقد يكون حال سد حمرين في محافظة ديالى شاهدا حيآ على الذبح العراقي الصامت. وقد تكون ايضا اخبار استيلاء بعض الجوار العربي والغير عربي على ابار نفطية عراقية او سرقتها بطرق فنيه شاهد اخر اكثر حرارة ووجع على هذا القهر العراقي.

لكن الوجع الاكبر هو هذا الصمت العراقي الرسمي والشعبي على حد سواء والقهر الاكبر حينما يخرج علينا احدهم وهو بدرجة وزير ليكذب الاخر وهو ايضا بدرجة وزير ويكذب الاخبار وصور الاقمار الصناعية وليقنعنا بان لاشيء يسرق من العراق !! بل قد يكون العراق هو من يسرق جيرانه !!.

شخصيا لااتوقع ان وزارة التجارة البائسة بؤس بطاقتها التمونية، ستقوم مثلا بتوزيع السمك المسكوف ضمن مفردات البطاقة التمونية !! فهي أعجز أن توفر الشاي والسكر للمواطن العراقي الكريم. لكن خوفي الكبير ان يموت بلا رجعة السمك المسكوف في العراق. او تختفي من الطاولة العراقية صواني الدليمه و صواني البرياني ويحل محل الاثنين المنسف العربي او الفسنجون الايراني او الكشري المصري مثلآ او الشيش طاوق التركي !!. وحينها ستكون الكارثة الحقيقية. لان العراق اكبر من ان يكون مجرد تابع حتى في السمك المسكوف.

ملاحظة / ارجو ان لايتم تفسير سطوري هذه على اساس انها أشارات سياسية والعياذ بالله، بل انها لاتتحمل في احسن احوالها ان تكون سوى فقرة صغيرة في برنامج عالم المطبخ، ليس الآ....

محمد الوادي
[email protected]