quot;تحت زيتونتي، مع لوركا...quot; ndash; وداعاً محمود درويش

quot;صدّقني أيها القارئ إن أكدتُ أن الشعر العربي... أحد تلك الأشياء التي تجعل الحياة تطاق.quot;
(خايمي سانتشيس راتيا، مترجم وكاتب اسباني/ من مقدمته لكتابه quot;ثلاثون قصيدة عربية في سياقها)

قرأت في إحدى المقالات الصحفية أن محمود درويش كان يحب أن يمشي في الغرفة ويدندن قبل أن يبدأ بكتابة الشعر. وأريد أن أصدق هذا لأن شعر محمود درويش يعكس هذا الحب الشديد للإيقاع والنغمة واللحن من كل ناحية. وأظن أنه بسبب ميزته الموسيقية المثيرة كانت قراءاته الشعرية محبوبة جداَ وعليها اقبال شديد حتى من قبل الجمهور غير الناطق بالعربية.
كان هذا ما شاهدته في quot;مهرجان برلين للشعرquot; قبل بضعة سنين. صحيح أن تراجم أهم القصائد للشعراء غير الألمان الذين شاركوا في المهرجان كانت متوفرة على شكل منشورات وزعت على الحضور. لكنني أشك بأن الكثير من المستمعين قد قرؤوا ترجمة قصائد محمود درويش. كانت الأمسية في ساحة في الهواء الطلْق، وكانت مشاركة محمود درويش الشعرية هي الختامية في تلك الأمسية، وقد سبقه عرض الشاعر الأمريكي لارينس فيرلنجيتي (Lawrence Ferlinghetti) الذي أعجب الجمهور الألماني غاية الإعجاب، خصوصاً بإلقاء قصيدته السياسية quot;quot;The History of the Airplane. وبالرغم من التصفيق الشديد الذي كرم به الحضور مشاركة فيرلنجيتي أصبح الجمهور هادئاً وصامتاً تمام الصمت عندما بدأ درويش أول قصائده.
لا أعرف، يبدو كأن شعره ndash; وخاصة إذا ألقاه درويش ذاته - كان قادراً على تحريك العواطف في نفس المستمع بفضل ما أذاع من جو شعري مكثف ورنين موسيقي مشوّق.

قد يكون هذا هو السبب الرئيسي لميلي أن أشعر بصدى فدريكو جرثيا لوركا (Federico Garciacute;a Lorca) في الكثير من قصائد محمود درويش ndash; وحتى لو لم يوجد اقتباس أو كناية أو أستعارة تدل على أثر لوركا... أعتقد أنهما ممن ألّفا الشعر متحررين من القيود الذهبية في علم العروض وتقاليد القوافي التي تحكم الشعر القديم والكلاسيكي ndash; ولكن دون أن يكفّا كاملاً عن استخدام العروض والقافية. كلاهما يقيّمان صحة المعنى وجمال النغمة في الوقت ذاته. كلاهما أنتجا قصائد حوّلت إلى أغان، وكلاهما ألّفا أثاراً تشهد على مرارة العناء الجماعي والفردي وشوق التمرد وفي أشعارهما تفاؤل إنساني دافئ وعبثي... بإمكان أشعارهما أن تثير في الانسان نشوة الطرب...

لقد أتيحت لي فرصة واحدة لكي أسأل محمود درويش مباشرة عما اعتبرتُه أنا شخصياً quot;حواره الأدبي مع لوركاquot;، وكان درويش يتناقش مع مستمعيه من الألمان والعرب وغيرهم بعد قراءة شعر له في مؤسسة ثقافية في برلين عام 2004: فسألته. أتذكر من جوابه النفي الشديد بما يخص تأثير لوركا في شعره الراهن، وأكد درويش أن علاقته مع لوركا قد انتهت منذ زمن... ولكنه أضاف إلى ذلك أن لوركا كان من أهم الشعراء الأجانب الذين أثروا فيه طول سنوات شبابه، وقال إنه قد تعلم من لوركا استعمال الحواس لكي quot;أسمع بعيني وأرى بأذنيquot;.

بالطبع كنت أود أن أسأله أكثر...
يا شاعر المنفى، يا ملحّن quot;آخر مشهد الأندلسquot;، يا مسافر quot;في الدروب التي قد تؤدي وقد لا تؤدي إلى قرطبهْquot;، يا من قطع quot;هذا الطريق الطويل الطويل الطويلquot; ndash; هل في الآخر، هل نهائياً، استطعتَ الوصول إلى قرطبه؟
وفي خيالي كان درويش يجيب... مع لوركا:
ألا تعرفين ؟
quot;آه، كم الطريق طويل!... إن الموت في انتظاري قبل وصولي إلى قرطبه. قرطبه... بعيدة وحيدة!quot; (مأخوذ عن quot;أغنية فارسquot; لفدريكو جرثيا لوركا)

بالنسبة لي يأتي الربط بين درويش ولوركا في ذهني أيضا بسبب طبيعة اقترابي لهما عندما كنت طالبة ألمانية في اسبانيا ومصر...
فإن هذا الشاعر الاسباني من فوينتيفاكيروس (Fuentevaqueros)، القرية الصغيرة بالقرب من غرناطة، الذي أشاد بأهل الأندلس وبكى مع الغجر مخلّدًا فنهم، والذي قُتل على أيدي قوى الفاشية عام 1936، إنه كان بمثابة quot;معلميquot; في رحلة اكتشافي عالم الشعر الاسباني أثناء إقامتي في غرناطة (ومستحيل تصور غرناطة بلا لوركا!).
وكذلك كان ابن البروة هذا بمثابة quot;مرشديquot; عندما تجرأت بأن أخطو الخطوات الأولى على البحر اللانهائي كما يظهر، الذي هو الشعر العربي... فما زال يلازمني إحساس بالشكر الكبير على هذه quot;المساعدةquot; التي قدمها إليّ محمود درويش دون أن يعرف، دون أن يشعر، ودون أن يحضر...
بالطبع كنت أود أن أقول له هذا يوما ما... ولكن لماذا...؟ هل هذا مما يهمه... ؟!

كانت آخر مرة رأيت فيها محمود درويش في حزيران 2007 في قاعة بلدية أريحا بمناسبة عرض مسرحية quot;ذاكرة للنسيانquot; التي أنتجها وأخرجها فرانسوا أبو سالم وعامر خليل من فرقة quot;الحكواتيquot; بناءاً على النص المشهور لمحمود درويش. أتمنى أن يكون محمود درويش قد أحب المسرحية التي ndash; في رأيي ndash; تدرك إلى حد بعيد خصوصية النص الأصلي من سخرية الانسان المتمرد على عبثية الحرب واحتمال الموت عنوةً.
في الأيام الماضية، عندما نشر الخبر عن رحيل محمود درويش ومزقت قلوب الكثيرين في انحاء مختلفة من العالم، شعرتُ بصدمة عنيفة. شاهدت في التلفزيون تسجيلات لأمسياته الأخيرة ndash; في رام ألله، في عمان، في حيفا... فعدتُ إلى مطالعة أشعاره، ولكنني لم أجد لا هدوءاً ولا إطمئناناً.
الحقيقة أنني لم أعد إلى نوع من الاسترخاء إلا بعد قراءتي لما كتب عن quot;جنازة الشاعرquot; في quot;ذاكرة للنسيانquot;...
فتسآلتُ وسألته في خيالي:
يا منشد الرحيل، أكان جنازتك quot;حسنة التنظيمquot;؟ هل كنت تطل من تابوتك على المشيّعين كما أراد توفيق الحكيم وكما تخيلته أنتَ؟ هل ابتسمتَ في التابوت من مسرحية الوداع...؟ هل ابتسمت علينا...؟
أتمنى أن تطل ولا تزال تطل quot;كشرفة بيت على ماquot; تريد...
ولكن لماذا لا؟ لماذا لا أقول هنا والآن ما لم أقل أبدا؟ أليست محادثة الشعراء الموتى شيئاً يكثر في الأجناس الأدبية والفنية، وشيئاً حتى أسهل من مخاطبة مارّ في شارع ليرشدنا إلى الطريق أو الطلب من غريب في مقهى أن يعيرنا ولاعة ؟

إذنْ، أقول:
صحيح، لم نكن نحبّكَ أَنتَ، كان يعجبنا quot;مجازُكَquot;، أنت شاعرنا quot;وهذا كل ما في الأمرquot;...
صحيح، إني قرأتُ شعرك لأننا تعبنا تعبًا من quot;الحرب بين أثينا وجاراتهاquot;، قرأت شعرك كي نتحضر لـquot;حفلة السلام ما بين روما وقرطاجquot;، وكي اكتشف بين أبياتك ما يكشف عن أسرار quot;هديل الحمامquot; وكي اشتفي من بكاء الكمنجات، نعم، قرأتك كي نصبح ndash; ولو لدقيقة - quot;عاشقةً حرةً وشاعرَهاquot;...
صحيح، أحببناك أنتَ، ونحبّك!

وداعا يا quot;فارس الفرسانquot;!
وداعا يا quot;عاشق من فلسطينquot;!
وداعا يا مخلّد القهوة!
فابتسم...
quot;ولنكن طيّبين...quot;

كاتارينا لاك

[email protected]

إسلام آباد