صوره تملأ كل الأمكنة فلا يكاد يخلو منها مكان! تراها أنى التفت وكيفما توجهت وحيثما جلست. في الشارع، في المقهى، على الجدران القاتمة، وفي الزوايا المعتمة على أعمدة الإنارة، على نوافذ البيوت، ما تواضع منها وما شمخ حتى بلغت قبابه السموات الزرق، على جذوع الأشجار، على الصخور وعلى العربات التي تسير وتسير فلا تتعب وهي تنهب الطرقات ليل نهار: إنَّه الصنم الذي يعبده الناس، إنَّه الوجه الذي لا تمل منه العيون ndash; عيون الفقراء والأغنياء، عيون الكادحين المتعبين، والأثرياء المرفهين، المحرومين من نعمة الأرض والسماء والمتخمين حتى الثمالة من النعم...

الصنم يرتاح و الذين يقدسونه يتعبون! الصنم يأكل ويشرب وينام في فراشه الدافئ الوثير ويضع رأسه على وسادة ناعمة، بينما الذين صنعوه يبحثون في أكوام القمامة عن كسرة خبز جفت وتعفنت لعلها تملأ بعضا من فراغ حفره الجوع في أعماقهم، وينامون لكنهم يفترشون الأرض ويلتحفون الليل الأسود والسماء المحجبة بالغيوم أما ووسادتهم فمن زمهرير الشتاء... الناس تحلم أما هو فلم يعد بحاجة إلى الأحلام لأنه وصل إلى المطلق، فأصبح الحلم الذي ينشده الناس في الليل والنهار... الناس يغمرهم القلق ويقبع في نفوسهم الخوف فلا يفارقهم إلا عندما يفارقهم الروح المحيي، أما الصنم فلا يعرف القلق أو الخوف، لا بل يستغل خوف الناس وقلقهم وتلك الطيبة المغروسة في نفوسهم للمحافظة على تاجه وصولجانه وسلطانه....وصوره التي تغزو كل الأنحاء!

الصنم لا عمل له سوى الابتسام لعدسات المصورين، وابتسامته هي هي لا تتغير صفراء صفراء في جميع المناسبات سعيدة كانت أم حزينة، لا يعرف غيرها ولا يحتاج إلى تغيرها في الأفراح والأتراح، طالما الذين ارتضوه صنما لهم سوف يصفقون لها ثم يعلقونها أيقونة مقدسة فوق أسّرة أبنائهم وعلى صدورهم وفي أعناقهم، ولا يكلف نفسه اكتر من إعادة كلمات بعينها ndash; وهي كلمات لا تحمل إلا الوعود، فوعد بمستقبل أفضل ووعد بعيش أكمل ووعد بديمقراطية لا يعرف الصنم لها معنى.....والناس المغلوبة على أمرها، السائرة مع التيار خوفا من البطش حينا وتعلقا بالأمل حينا آخر لا تلوي على شيء ولا تستطيع شيئا سوى الاستماع إلى كلمات الصنم لعلها تحمل جديدا في أحشائها، أو لعلها تتحقق في يوم من الأيام.

ويحمله وهم المجد الباطل إلى أراض بعيدة فيظن نفسه ملكا لا بل سلطاناً، وسلطانه مستمد من القدرة التي لا قدرة إلاها فيبطش بمن أعطوه السلطان، بالناس البسطاء الذين إنما انتدبوه ليسوس لهم أمورهم وليرفعهم إلى القمة لعلهم يشاهدون الفجر ولو قليلاً، فإذا به يجعلهم عبيدا له، وأذلاء، ثم يصبح صاحب الأمر والنهي، ولا يكتفي بذلك لا بل يجعل من رعيته قرابين تقدم على مذبح المحافظة على كرسي الحكم... أما أمورهم وهمومهم وشؤونهم وشجونهم وحياتهم أو مماتهم، فهذه كلها لا تدخل في حساباته، فهو يدرك تمام الإدراك انه الصنم المعبود وانه ذلك المارد الخرافي الذي خرج من القمقم ولن يعود...وحبذا لو عاد!

وعندما يأتي زمن استفتاء الآراء تزدحم الجدران ذاتها بصوره فيجري تجديدها وتعديلها وتنميقها لتليق بمنزلة الصنم ndash; وهي رفيعة لا يرقى إليها شك بالنزاهة والفرادة والتميز والوطنية، ولا يحيط بها الغبار من أي جانب، طالما الصنم يعرف كيف يبقي على صنميته التي بها يستمر وبواسطتها يتطور ويرتقي إلى أعلى درجات السلطة، والوسيلة إلى ذلك غاية في السهولة، فهي لا تكلفه أكثر من استغلال الناس البسطاء أفظع الاستغلال، ودفعهم إلى السير وراءه بحجة الوصول بمراكبهم إلى ميناء السلام والعدل، أما العدل والسلام فبعيدان كل البعد عن الصنم الذي يحكم بالسلطان المعطى له من الناس....هم يصفقون ويهتفون ويقدمون أرواحهم فداء له، أما هو فيتمادى بغروره.

ويكبر الشرخ بينه وبين( قاعدته الشعبية ) فيغدو السيد السيد أما باقي البشر فعبيد والويل كل الويل لمن يخطىْ فيتلفظ باسمه مجردا من عبارات التأييد المطلق والتبجيل والتقديس....والويل أيضاً لمن يخرج عن طاعته...فعندها لن ينفع الندم ولا الاستجداء!

أيها الصنم الظالم! رويدا فغدا تأتي العاصفة الهوجاء ويأتي الشتاء فيقتلع كل الصور ويمزقها ويهشمها شر تهشيم، ويأتي الظلام فيجلس بثقله على ابتسامتك الصفراء، وتغطي أوراق الخريف وجهك الصبوح فيفقد كل أمل له بالفوز والسيطرة على قلوب الناس.

لن ترتاح طويلا فالذين أوجدوك يستطيعون بالقدرة المكنونة في أعماقهم أن يصنعوا صنما آخر متى أرادوا...فلا تراهن كثيرا على قدراتك لأنها مستمدة من هؤلاء الذين لا تكلف نفسك عناء الالتفات إليهم، ولا تشعر بهم وأعمالك الكثيرة تأبى أن تفسح لك حيزا ولو صغيرا من الوقت لتستمع إلى سيمفونية معاناتهم التي لا تنتهي....

إنها السياسة! إنها فن النفاق والاسترقاق، إنها اللعبة التي تمكن القوي من الضعيف، إنها المصالح التي تولم ولائم الطمع والجشع ونهب خيرات الأرض لصالح فئة من البشر لا يبذلون جهدا ولو قليلا ولكنهم يحتكرون جهود العاملين وتعب المجتهدين فيحولون كل ذلك إلى أوراق نقدية تملأ خزائنهم وحدهم، والى سلطة لكنها عوراء، أما العدل فيهجر مدينة الأصنام لأنه يأبى العيش بين المتاجرين بدماء البشر!

وأنتم أيها الناس أما اكتفيتم من عبادة الأصنام؟ تراكم كلما أصاب الصدأ صنما لكم حفرتم صنما آخر في جلدكم ولحمكم وعظامكم ! أما آن الأوان لتعرفوا أن الصنم لن يجديكم نفعا وانه سيحول الخير فيكم والصلاح إلى شرور وآثام.

فيما مضى كانت الشعوب تثور على أصنامها فتحطمها أما أنتم أيها الناس فمع أنكم أصبحتم في زمن العولمة وزمن سبر الأغوار والأسرار إلا أنكم تجلسون الصنم على أكتافكم وترضخون له كالعبيد... فلماذا؟

إنه لمن الواجب عليكم اختيار من سيقود السفينة ولكن ليكن ربانكم طوع أمركم فإن أخطأ حاسبوه وإن أصاب ساعدوه، ولكن لا تجعلوا منه صنماً مقدساً إلى أبد الدهر. ولا تجعلوا من أنفسكم مجرد مهللين لصوره التي لا تطعم جائع ولا تروي ظمآن.

أيوب عوده