إن الشعب الفلسطيني يعيش في حالة حرب وتصفية دموية، من طرف آلة صهيونية مصنعة وعقل إقصائي لا علاقة له بالقيم الإنسانية ولا بالأخلاق الدينية،فالنازية إن كانت قد دمرت أوربا بالأمس القريب؛ فبسبب إيمانها بنزعة متعالية عنصرية،وهي نزعة العرق الراقي وأفضليته على كافة الأجناس الأخرى،ونزعة الوطن الأم،ونزعة الزعيم الشمولي الواحدي، وكذلك اليوم إسرائيل؛ لا تدمر البنى التحية والأراضي الزراعية ولا تقتل الإنسان الفلسطيني إلا لتزكية منطق الاستعلاء والاستكبار، فهي تتقاطع مع الفكرة النازية في تفاصيلها ونزوعاتها، لإيمانهما بالتفرد والشمولية ورقي جنسهما وبأفضليته على غيره، ونزعتهما المشتركة نحو تأسيس وطن أم كامل وصافي لجنسيهما:[دولةجرمانية/عرقية=هتلر+نازية]+[دولةيهودية/دينية=شارون،اولمرت+ صهيونية]، دون أن يشاركهما جنس آخر في الانتماء أو الوطنية، وفي جانب آخر، فما يتكرر اليوم من جرائم من طرف الصهيونية الإسرائيلية وأمام عدسات الكاميرات العالمية ـ التي تحفظ عملية العدوان كتسجيل وثائقي تفصيلي للتاريخ وللذاكرة البشرية القادمة ـ ويقع أمام أعين العالم أجمع وخاصة الغربي، ليؤكد على أن الذاكرة الجماعية الأوربية بدت هرمت لتنسى ما وقع في أوربا خلال أهم حربين عالميتين، آخرهما كانت بسبب قيم النازية ونزوعاتها المدمرة..،وهو أيضا ما حصل مع ذاكرة الملة اليهودية لنسيانهم ما وقع عليهم من ضيم وقتل وتصفية هولوكستية بسبب النازية الألمانية ليدعموا اليوم الفكرة الصهيونية وينحاز بعضهم لتمثلتها العدوانية، وهو كذلك ما يحصل مع الذاكرة العربية التي تناست بصمتها وتقاعسها ما وقع في فلسطين عام 48 و67 وعراق 2003، إن كل الظلم والعدوان الصهيوني إنما يقع بسبب الاستعمار الأوربي وزراعته لدولة عدوانية في الوطن العربي وفي الأخير فإن التاريخ لا يرحم أحدا لأنه لا يتحيز لفرد أو جماعة دون غيرها،كما أنه يعري كل فرد الآن أو أمام الأجيال القادمة ولو بعد حين.


إن الحركات العنصرية عبر التاريخ الإنساني تزكي الفكر الشمولي لتكرر يوما بعد يوما أمام أعيننا وفي العالم المعاصر بشكل خاص:[بكل ما يملك من دفاعات وترسانة ديمقراطية وتقنية ومؤسساتية وبمجتمعه المدني..ٍ]، تكرر نفسها وتتوالد بشكل مرعب؛ دون أن تتمكن الإنسانية بما توفر لها من إمكانيات من محاصرتها أو تجفيف منابعها الرهيبة بالثقافة والمعرفة وبالقيم النبيلة، وبنظامها ومؤسستها التربوية والإعلامية والإصلاحية..، والعجيب هو حدوث كل هذا التقدم المعرفي والتقني والاجتماعي والاقتصادي وفي نفس الآن وقوع الإنسان المعاصر ضحية العنف العدمي وفي مأزق مع هذه الحركات، لنجد أنها تستقطب الكثير من الدعم والتعاطف، كما أنها تراكم الأحقاد وتنميها وترعى العنف وتزكيه وتفرض منطق الصراع الدموي وتفشي العنصرية العرقية والدينية والثقافية.. وهو لسان حال الصهيونية العالمية، بالتالي السؤال الذي يطرح نفسه اليوم وعبر تاريخ الوعي الإنساني الجمعي هو؛ لماذا لم تستطع المجتمعات المعاصرة والفكر الإنساني استيعاب دروس التاريخ في العنف والحرب وتوالد أفكار الحركات المتطرفة كالنازية والصهيونية بالرغم من كل التراكمات التي خلفها وسجلها التاريخ كما الذاكرة الجماعية؟ لما لم يتم توظيف الوعي بها لاستيعابها ثم نزع فتيلها ومن تمة وضع نهاية للنزاعات والصراعات، والتي تتكرر في مناطق عدة من العالم، وتنمو بنفس متصاعد في مدن غربية تحت قناع الحركات الاحتجاجية؟


إن مآسي وبشاعة الحرب الصهيونية اليوم تجعلنا نطرح هذه الأسئلة وتدفعنا لنربطها بسياقها الدولي والإنساني لنجعل الصورة أكثر وضوحا، لا أن نربطها بسياق محلي أو بشعب فننظر إلى زاوية دون أخرى، كما يفرض هذا التفكير أن نستوعب الجزئيات ونفهمها في سياقها الكامل وعبر محطات تاريخية متسلسلة لا متقطعة، ليتم بناء وعي عربي تاريخي بالمسالة الصهيونية وفهم ممارساتها العنفية والدموية، من تمة نؤسس لذاكرة جماعية ممانعة ضد كل أشكال التطبيع مع الفكر الصهيوني، ونعرف مرتكزاته واختلالاته ونفضح سلوكياته ونوظف تناقضاته، ثم لا نسقط في أجندته الإستراتيجية حتى لا يتم توظيفنا بالمقابل ليمارس علينا سلطته وعنفه وحربه وتصفياته الدموية وابتزازاته.


quot;محاولة في تأسيس بدائل لمقاومة سلمية وظيفيةquot;
إن شاشات التلفزيون قد سجلت بشكل مأساوي ودراميتيكي صور الدمار والتصفيات البربرية التي قامت بها الآلة الحربية الإسرائيلية، فما خلفه عدوان هذه الأخيرة من دمار شامل في البنية التحية المدنية؛ من مساجد وطرق ومدراس وقناطر وخسائر في الأرواح البشرية خاصة الأطفال والنساء، ليشكل quot;لحظة عدميةquot; في الوعي التاريخي المعاصر وصدمة تشككية في كل القيم والمبادئ الإنسانية التي تتبجح بها المدنية الحديثة وتتبناها، ولا تقارن هذه اللحظة في تاريخ المسلمين إلا بلحظتي الغزو التتاري والأمريكي لبغداد، وهما أشقى اللحظات في الوعي العربي الإسلامي.


انظر متأسفا إلى التخاذل العربي الإسلامي، وأقرأ خطابات الحكام واحتجاجات الشعوب الكوميدية الساخرة، وأرقب متألما التحرك الغربي بأنظمته في مواجهته مأساة غزة، فبالرغم من هول العدوان ووقائع الدمار وانتهاك الآلة الحربية الإسرائيلية لأبسط الحقوق والقوانين الدولية والأخلاق الإنسانية، كانت تحركاتهم في غير المستوى اللائق ودون الطموحات المرجوة مما يعرض شعارات الحرية ومجتمع العدالة والتبجح بقيم وبالنظم الديمقراطية في تناقض ومأزق، فهذه المعطيات كانت كافية ليعلن العالم بأنظمته ومنظوماته الحقوقية والقيمية عن احتكاكه بنقطة الصفر، وليتحدث بشكل أكثر جرأة بأحاديث النهايات وما بعدها؛ المتصلة من جديد ببدء ولوج quot;لحظة العدمية العالميةquot; قيمة ورمزا تأريخيا لمرحلة جديدة في الدورة الحضارية الإنسانية الحديثة، فإسرائيل اليوم تدفع الإنسانية وليس فقط غزة أو فلسطين ليتحدثوا جميعا بهذه اللغة؛ quot;لغة العدميةquot; وما بعد النهايات، ليتم بعدئذ فهم منطق الأشياء وقياس التوجهات العالمية والتدخلات العسكرية على أساس هذه القيمة الجديدة، فتضبط الساعات والخطابات والتصورات الإنسانية عن العالم والمشترك والقيم والقوانين والحقوق الأممية على منطق هذه اللحظة المولودة كما دعي إلى منطق مقابل قبل سنين غير بعيدة،وهو منطق الإرهاب والردع والتدخل والشرق الأوسط الجديد وتوظيف لغة ومفاهيم خاصة.


إن من يتتبع نفس المقاومة وتحركاتها واستنفارها الشعبي بكل ألوانها الأيديولوجية والعقدية، لا يمكن إلا أن يفهم على أنها سقطت في فخ التخطيط الإسرائيلي، لأنها قاربت مسالة المقاومة من خلال انتصار حزب الله اللبناني وتحفزت بما حققه من انتصار للصمود رغم الاختلاف المتباين في جغرافية المعركة، فمثلا انفتاح حزب الله جغرافيا على حدود أخرى ممانعة ومساندة عكس غزة؛ منح له فرصة التواصل والدعم والإمدادات...، وتدريباته كانت مركزة وغير مرصودة من طرف الأجهزة المخابراتية والتجسسية للعدو، وتسلحه الجيد بأنظمة وأسلحة متقدمة واحتكاكه المتواصل عن بعد أو قرب مع الجيش الإسرائيلي أكسبه خبرة وشدة، ووحدة صفه وكارزمية قيادته ووحدتها شكل عنصر قوة له، عكس المقاومة في غزة التي لم تتوفر لها فرصة الحصول على الأسلحة بحكم الرقابة على الحدود والحصار وانتشار الجاسوسية والخونة بينهم، ثم أضف إلى كل ذلك تشتت تنظيمات المقاومة في فلسطين وانتماءاتها الإيديولوجية المتنافر؛ مما قد يكون وبالا على التخطيط والتنسيق، وتفاوت القدرات الدفاعية والهجومية والقدرة على الاستنفار والمناورة من فصيل إلى آخر عنصر سلبي في الحركة الميدانية والجاهزية، وعدم قدرة كل تنظيم على الحفاظ على السرية في التدبير والاتصال إن لم يكن مكشوفا أو مخترقا عنصر يقلص فرصة المفاجأة...، فحزب الله كان نسخة متناسقة وشبه متكامل في جاهزيته وله من القدرات لم يتوفر لمقاومة الفلسطينية كما دعمته ظروفه الجغرافية والتنظيمية.


إن تحليل الأحداث وتركيب الصورة بشكل أكثر دقة يتطلب عدم التحيز لطرف دون آخر، مما يجعل الموضوع دقيقا ومركبا بحكم لحظيته أولا، وتداخل العنصر العاطفي بقوة في استخلاص الأحكام أو تقييم المواقف والخيارات، لكن رغم ذلك لابد أن يقف المرء لحظة للتأمل والنقد ربما تفيد في توجيه المسار أو تصحيح الخطوات و توجيهها نحو الأفضل أو تسديدها نحو الصواب، أجمع الجميع بأن المقاومة في فلسطين مادام الاستعمار الإسرائيلي شيء لابد أن يكون وهو حق مكفول ووجودي، ولكن بأية طريقة وبأية آليات يمكن أن نقاوم؟ وهل آلية المفاوضات أو المقاومة المسلحة هي الخيارات المتوفرة؟ ألا يمكن أن نبحث عن خيارات مرفوعة أو مستبعدة أو حتى مبتدعة؟ هذه أسئلة بسيطة ولكنها تاريخية وفاصلة في توجيه مسار التحرر العربي والفلسطيني اليوم.


ديكتاتورية المسار الجماعي
محاولة في نقد الظاهرة الاحتجاجية العربية

إن الإمساك بزمام المبادرة والإبداع في الوصول إلى أشكال متميزة للمقاومة بدل التخندق في حلول تم تجربتها ولم تؤت الأكل المطلوب إلى الآن، ليبقى تحدي على المخيال والعقل العربي الإسلامي لإيجاد بدائل، لان الأشكال الكلاسيكية إلى الآن إنما جلبت من المآسي أكثر ما دحرت من استعمار أو دفعت من أضرار، بل لم تحقق من الانتصارات إلا الدموية منها بدءا بالجزائر وانتهاء بالعراق وفلسطين، فالمقاومة اليوم في ذهنية الأمة والتي تمارس في الميدان يجب أن تفهم على أنها مقاومة صمود وليست مقاومة انتصارات نهائية سواء في لبنان أو في فلسطين وحتى في العراق وأفغانستان...،.فإلى متى ستصمدم هذه الشرذمة من المقاتلين وتبقى غالبية الأمة تصرخ في التظاهرات وترفع أكف الدعاء والتنديدات وتشاهد المآسي؟ هذا المأزق وهذه الحالة المعيبة تدفعنا لكي نطالب بمراجعة وبحث كل خياراتنا واستراتيجياتنا وإبداع آليات جديدة في المقاومة والممانعة وإن كانت الأمة تدين التطبيع وتدعو إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية، وهو خيار استراتيجي بعيد الأمد، ولكنه جزئي يحتاج لدعامات أخرى تجعله أكثر نجاعة وفاعلية...، انه فعلا خيار صعب أن تطالب الأمة في هذه المرحلة بالذات بالمراجعة والنقد والتجديد، كما أنها أيضا لحظة تاريخية فاصلة وضرورية لانحصار بدائل كثيرة، ثم إن عدم قدرة الأفراد على التغيير في أوطانهم أو عدم قابليتهم لممارسة قناعاتهم سواء الفكرية والسياسية أو في الممانعة بشكل مبدئي ومتواصل شيء مقلق، فقضية النضال والممانعة و قضية تحرير إرادة الشعوب العربية كل مترابط مما يعقد فهم المسألة.

النقطة الثانية،إن الأمة ليس لديها من قابلية للحركة نحو تفعيل طموحاتها وليست مستعدة تحت هذه الظروف المأساوية أن تلبي نداءات وصرخات نساء وأطفال غزة، وأتحدث عن مراكمة الوعي التاريخي وعلاقته بالأحداث الكبرى في الذهنية والذاكرة العربية الإسلامية، بدءا بحرب العراق مثلا، مرورا بغزو أفغانستان وحرب الشيشان والبلقان والصومال والسخرية من الرموز الدينية الإسلامية...، انتهاء بأحداث غزة اليوم، فلم تراكم الأمة وعيا تاريخا بكل تفاصيل هذه الأحداث ولم تستوعبها أبدا بل فقدت القدرة على تركيبها بشكل جيد، لذلك بقيت حبيسة وضعية احتجاجية منمطة ولحظية أكثر من ارتباطها بقوة الفعل أو تحرير الإرادة، فالقوة في تصريف المواقف وجمع أبعاد القضية الذي تتطالب به الأغلبية؛ لن يتم إلا على أساس قيم جديدة تنبثق لتشكل وتوجه الاحتجاج الشعبي الفعال وتستوعب دروس التدخلات الأجنبية ضمن جغرافيتها والصراعات التي تقع ضحيتها على الأقل.


إن الأمة وقعت الى الآن ضحية الشعارات والاحتجاجات واتخذتهما موقفا مبدئيا ودفاعيا، وهي لا تعيي على الأقل أنها بذلك تشكل بذلك قناعتها وفي لا وعيها لتبرر عجزها وتكلسها وضعف إيمانها إلا عن طريق الاحتجاج وبالشكل الباهت وغير ذي الجدوائية الذي تظهر به اليوم في الشوارع العربية، فهل يمكن فهم الظاهرة على أنها ظاهرة انفصال في الذات والوعي وعن الواقع والتاريخ على حد سواء ولماذا؟ يمكن أن يكون الجواب هو؛ أن الشعوب اليوم التي تتظاهر ضد العدوان على غزة قد تظاهرت ضد العدوان على العراق والشيشان والأفغان والبوسنة وكوسوفو والبلدان الإسلامية الأخرى، كما تظاهرت ضد الصور المسيئة للرسول الأعظم وتمزيق القران وإهانة الإسلام..، فهل فعلا تم بناء لمضمون التظاهر وظهرت جدواؤيته؟ أم انه فقط مظهر احتجاجي واحتفالي بشكل quot;كوميدراماتيكيquot; يقع في كل لحظة يتم فيها المساس بحق أو رمز من رموز الأمة أو بقضاياها الكبرى بين قوسين...؟، وأضيف هل هذه الشعوب التي تتظاهر للدفاع عن غزة والجرائم الإسرائيلية والتي هي جرائم ظرفية ـ وهي مستنكرة على أي حال وفي أي وقت ـ وأحداث لا تقع إلا على مدة متباعدة، قياسا عليها، هل هذه الشعوب تتظاهر بهذه القوة فيما يخص قضاياها اليومية المرتبطة بالخبز والحقوق الدستورية وحقها في الشغل والمواطنة الكريمة والإصلاح وتوزيع الثروة بعدل في أوطانها...، الجواب لا طبعا رغم أنها أشياء تمس كل فرد في كل بلد بشكل مباشر وهي قضايا وجودية عند أي منا، وهي حاجات ملحة وذاتية، وليست بظرفية أو بكماليات أو حتى كفائيات تسقط عن البعض إذا قام بها البعض الآخر، كالقضية الفلسطينية التي أصبح الدفاع عنها في الذهنية المسلمة واجبا كفائيا يقع على الذين يسكنون في جغرافية الصراع ولا نملك لهم غير الدعاء أو الأدوية والخبز أو التظاهرات المنددة، ألا يستطيع المواطن العربي أن يعي ويستوعب أن مسالة الكرامة التي تهان في فلسطين هي مسالة جزئية في ظل كرامة كلية، وهي كرامته كمواطن عربي في ظل أنظمة شمولية فقدت هيبتها وقرارها السياسي والاقتصادي، وان الدفاع عن كرامة وصمود الفلسطينيين إنما هو شعار لا يعني شيئا مالم يستعد هو كرامته ويحقق وجوده؟ هل ذاكرته مختلطة ووعيه متأزم وشقي للحد الذي تختلط عنده الأوراق ولا يقدر على تفكيك أزمته وفهمها، على الأقل بالشكل الصحيح، وإن لم يجد لها حلا آنيا؟


أما عن تحرك هيئة علماء المسلمين لزيارة الرؤساء والملوك، فهي إلى حد ما محاولة مشكورة ولو أنها جاءت متأخرة وغير كافية ولا تلبي طموح الشعوب في أن تستعيد مركزيتها في صناعة القرار أو في أن يستعيد الفقيه والمثقف دورهما في العمل والتوجيه والنقد والتفكير...،ثم على فقهائنا الأجلاء أن يراجعوا تراثنا الفقهي مراجعة متأنية وخاصة منه السياسي، لكي تتوضح لهم معالم المنهج القويم لتأسيس نظرية سياسية فاعلة وعادلة في علاقة الحكام بالشعوب، لأنه على حسب اعتقادي كل المآزق التي سقطت فيها أنظمة اليوم ومعها الأمة الإسلامية ؛إنما هو تراكم لوضع سابق، كما كان نتيجة فراغ تنظيمي وتصوري لكيفية تدبير الحكم مما شل في فاعلية الأمة، وهو عموما يوضح أزمة السياسة الشرعية و الأدب السلطاني وهو ما بنيت عليه الوضعية السياسية في التاريخ الإسلامي، وفي إعطاء فرصة للشعوب في اتخاذ القرار وتوجيه الحكام ضمان لتفعيل قدرتها على الحركة والتغيير،بذلك يقدم العلماء الأفاضل خدمة للأمة ولن يحتاجوا بعدها للبحث عن تفسير لمأزق سكوت الحكام عن تذبيح شعب بأكمله في أقدس بقعة، ولا أن يبحثوا عن أسباب عدم جدوائية التحركات الشعبية.


اللحظة العدمية والبحث عن قيم بديلة لمقاومة فاعلة
إن المقاومة في فلسطين اليوم مطالبة في ظل التساؤلات السابقة وغيرها بأن تستوعب التاريخ ولا تستلب به، ولا ببطولاته الدموية ولأنها تدافع عن حق، وهو الوجود والعيش الكريم، فهذا لا يعني أن لا تعمل بالبدائل المنسية أو المستبعدة من تاريخنا ـ الذي لا يختزل فقط بطولات دموية ـ أو تاريخ الشعوب التي ناضلت مثلها، كما أنه بالإمكان لها استعادة أشكال يمكن توظيفها لخدمة المقاومة والدفاع عن العدل والحق في العيش والوجود، فنقرأ التجارب الإنسانية التي مشت في اختيارات أخرى غير خيار القوة والدم والبارود، فمثلا غاندي كان خياره الأنجع والناجح في مقاومة المستعمر البريطاني ـالذي كان إمبراطورية لا تغيب عنه الشمس وترسانته توازي ترسانة إسرائيل في التدمير والتنكيل ـ كان خياره المقاومة السلمية والقطيعة مع المستعمر وبضائعه، فالرجل ومعه الشعب الهندي قد استوعبوا الدرس التاريخي وخرجوا بأقل الخسائر بعيدا عن معارك مأساوية، واليوم هم مضرب مثال في الحراك التقني والحضاري والصناعي والاجتماعي...، فلو كانت فصائل المقاومة تمسكت بالمقاومة السلمية في ظل اختلال التوازن بين قوتها وقوة إسرائيل وقامت بانتفاضة شعبية سلمية أو بمسيرة مليونية أو بعصيان مدني أو بإنزال شعبي مستنفر الى الشوارع مدة العدوان لكسبت المعركة بأقل الأضرار كما كانت ستكسب تعاطفا دوليا متزايدا من مختلف المجتمع المدني والدولي ولم تحدث كل هذه الخسائر في أرواح الأطفال والنساء، ويقع التدمير المرعب والإجهاز على كل المؤسسات المدنية والإنسانية، فهذه دعوة صادقة لإعادة التفكير بمنطق آخر في عالم يفضل فيه إعمال العقل والموازنة بين الخسائر والأرباح أكثر من التهور والانتشاء بالبطولات على حساب أرواح الأبرياء.
إن حركة المقاومة في فلسطين على وجه الخصوص مطلوبة اليوم قبل أي لحظة أخرى، بان تعيد التفكير في الخيار الذي تسير تحت ظله،ذلك الخيار الواحدي؛خيار السلاح والعنف، وأن تطرق أبوابا أخرى، بل من الواجب عليها أن توظف من إمكاناتها في الإبداع والتعبئة الجماهيرية ما في استطاعتها وتغير من إستراتيجيتها، فالمعركة ليست معركة صمود ليوم أو شهر أو سنة إنما هي حرب مستمرة لجيل أو أجيال، وتحتاج الى سواعد وطول نفس ورصانة عقل متأقلم متزن ومبدع في أشكال صد العدوان ومحاصرته، ولكن ليس بمنطقه وآلياته الدموية دائما وأجندته سيتم دحره.


إن الشعوب العربية مهما خرجت متظاهرة متحمسة ومتحفزة لقضاياها لن تحقق إلا التنفيس عن النفس في شوارعها،ولن تلبى مطالبها ولن يسمع لاحتجاجاتها ما لم تستوعب بوعي متكامل تجربة العدوان على الأمة وتدرسه ابتداء بالغزو التتاري إلى العدوان الصهيوـأمريكي الحديث، وانتظارها من أنظمتها أن تتحرك وتضغط على الفاعلين لا جدوائية منه، فهو أمل بعيد وسراب موهوم كصرخاتهم التي تحمل مع الريح في خرجاتهم التنفيسية؛ والدليل على ذلك أن حكامنا اليوم إنما يخطبون ويناشدون مثالنا المجتمع والمنتظم الدولي بالتدخل لوضع حد للاستعمال quot;المفرط للقوةquot; أو quot;للحرب بين الجانبينquot;، أو ينزلون مثلنا ومعنا إلى الشوارع ليصرخوا ويتزعمواquot;الظاهرة الاحتجاجيةquot; بشكل أكثر سخرية، معلنين أسفهم وامتعاضهم وتنديدهم ـ مثلنا تماما ـ بالأوضاع التي آلت إليها أنظمتهم وحال الأمة، وأنت تشاهد المنظر كأنك تقف أمام صورة كوميدية ساخرة أكثر من شيء آخر، لان الذين يتظاهرون في الأخير يجدون أنفسهم مع حكامهم وأحزابهم الحاكمة في صف واحد، فالكل في خندق الصراخ والاحتجاج والمطالب والتنديد...، فلا يتمكنون من رفع توقيعاتهم ولا تنديداتهم ولا امتعاضهم إليهم وفي سدة حكمهم لأنهم ببساطة هم أيضا يوقعونها بصفاتهم وأسمائهم، فقد استوعبوا المسرحية وفهموا الحيلة فبدلوا من إستراتيجيتهم.


إن هذه الأفكار تعبر بشكل واعي عن الأزمة والمأزق الذي نستمد منه تفسيراتنا وخياراتنا الضعيفة بل مواقفنا المتوارية غير الواضحة، وأرجو أن يجد كل فرد في هذه الأمة فرصة للجلوس مع ذاته لكي يقرأ و يستوعب بشكل واضح الخطوط العريضة للوقائع التي تحدث اليوم، وتنزل بشكل مأساوي على أوطاننا فنعيها، ربما بذلك نستطيع إعادة هيكلة أمتنا وإحيائها وتثوير مواقفنا وصياغة قيم معرفية وعقلية تنويرية وأخلاقية ونفسية متوازنة وفاعلة تجعل نهضتنا ممكنة وصمود انتصارنا أكثر ذي قيمة، بعيدا عن المزايدات والبطولات التاريخية والحلول الدموية التي تطبعت الأعين والقلوب عليها ومعها، والتي لا توتي أكلها ولا تزيد إلا في تزكية الفوضى وتحصد العدمية في النتائج..، ثم ندعو إلى أن يتم تفكير جدي في تأسيس ذاكرة جماعية واعية لا تتوقف على لحظات تاريخية وتنحاز لها بقدر ما تستوعب التاريخ وتتدبر حركيته وسننه، وتنحاز لقيم الكرامة والعدل والرحمة والمعرفة والسلم والرسالية والمشتركات النبيلة الإنسانية، ونعيد معها التفكير في التأسيس لحركة تغييرية سلمية لاعنفية كبديل حضاري أو خيار ممكن توظيفه لتحقيق نقلة نوعية في المقاومة والمعارضة السياسية والاجتماعية وهو اختيار حضاري وقيمة عالية، عكس منطق الإقصاء والتوظيفات التي تستبعد كرامة الإنسان وقيمته ومركزيته في الكون والوجود ليتم توظيفه بشكل سلبي كشيء أو آلة لتحقيق طموحات غير عادلة، فقيمة الإنسان في معادلة الصراع والتمكين هو الغائب الأكبر في السياق العربي الإسلامي.

يوسف محمد بناصر
باحث وكاتب
[email protected]