الذي يتم له التنبه والدهشة هو المجتمع الأسترالي بكل مواصفاته الحيوية الفعالة، إحتفلنا بيوم استراليا الوطني حسب الطرق التي نحبذها، فلا صور زعماء موتى أو أحياء تم رفعها، ولا صور لقيادات سياسية أو دينية وروحية ولا رموز للنجوم والصلبان والأهلّة والفيلة والشمعدانات، فقط العلم الأسترالي، الشعوب المتمدنة تنحو في طبيعتها للسلم والهدوء والتمدن وخلق الجديد، هنا هو الإنتماء الإنساني العمودي المرتبط بالأعلى المجهول الذي يهمل التفاصيل، وليس الجانبي الممتد مع الأفق الأسود بتفاصيله التي توزع الحروب والخسارات.
استراليا قارة، حسب الجغرافيا، لكنها دولة صغيرة، كانت بعيدة جدا وفق تطلعاتنا البلهاء، دولة لاتتعدى نسماتها الآن خمسة وعشرون مليون نسمة لكنها حاضرة بقوة في العالم، فتحت َ التاج البريطاني الحربي في التاريخ الحديث دخلت الخيالة الأسترالية دمشق لتعلن سقوط الدولة العثمانية التركية أواسط العقد الثاني من القرن الماضي، وكنا في العراق ُنحسن إنجاب بقراتنا العجاف بثور أسترالي مستورد، أستراليا تتقدم بشعوبها وخبراتهم.
نحن لاجئون ومهاجرون الى أستراليا، أي نحن غير استراليين، أجيالنا القادمة سيكونون، شئنا أم أبينا، لكنا وبموجب عواصف السياسات الكونية علينا أن لا نكون سوى أستراليين، فالجواز الأسترالي يمنحنا الإحترام وحسن الإستقبال أين ما ذهبنا، وخصوصا ً في بلداننا الإمهات.
لقد تعلمنا برغم من (طباعنا المتعكرة وأمراضنا النفسية المستعصية) إحترام القانون والأديان والمعتقدات وحرية الرأي وملاطفة النساء والتسامح والإهتمام بالصحة وتربية الأطفال وعدم تزمير السيارات في مناسبة وغير مناسبة والبساطة والتواضع..الخ، من استراليا ومن الأستراليين، فقد كنت أعمل في وسط سيدني التجاري حينما شاهدت بول كيتنغ ينزل من القطار متوجها الى عمله وحيدا فريدا، وكان رئيس وزراء استراليا عام 1995.
ومثل كل بلدان الغرب، تمر أستراليا الآن بأزمة اقتصادية، أزمة كبرى قد لم يشعر بها البعض، لكنها موجودة يوميا ً، بتفاصيل الخبز والحليب واللحم والسمك الذي نشتريه، فنحن وكما هي العادة مستهلكين وغير منتجين..وبالأمس فقط ألغى السيد راد زياراته الى خارج الأرض الأسترالية لكي يبقى مركزا على الشأن الأقتصادي الذي يمر بظروف خطيرة لايمكن توقع افرازاتها السلبية ليس على المجتمع الأسترالي العام بل كل فرد.
حينما رست البواخر البريطانية الأولى في خليج بوتناي في العشرين من كانون الثاني /يناير عام 1788، حكم السير أرثر فيليب أول حاكم لنيو ساوث ويلز وبعد ستة أيام على أثنين من رفاقه بالحكم شنقا حتى الموت لسرقتهم بعض من الخبز المخصص لغيرهم.
والخلاصة ان استراليا اعتمدت القوانين منذ المكتشفين الأوائل، وهذا ماتتطلبه المجتمعات الحديثة التي تبني دولا ً حديثة، ويكون الحكام فيها أول الأشخاص الذين تتم محاسبتهم كونهم ُخدام المجتمع والساهرين على تقدمه وحمايته وتطوره في جميع المجالات والقطاعات، وقد خسر السيد كيفن راد نفسه عشرة نقاط دفعة واحدة من شعبيته في اخر استفتاء بسبب الأزمة الأقتصادية التي تعصف ليس باستراليا بل بكل العالم، لكن الأستراليون يبحثون عن الحلول عبر الضغط الشعبي على من يترأس الدفة، المجتمع المتحرك هو الذي ينجو في الأعاصير والمحن والكوارث العامة.