لقد سبق لي أن نشرت عدة مقالات في quot;إيلافquot; تنتقد تعدد الزوجات على اعتبار أن الزواج بثانية و أكثر يمثل اهانة كبرى للزوجة الأولى و مساسا بكرامتها و بمشاعرها، كما يمثل هذا التقليد الجاهلي انتهاكا لحرمة الأطفال الذين يشتركون في أب واحد ذو التزامات مع أكثر من أم. و يساعد تعدد الزوجات على الزيادة المفرطة في النسل، مما أسس لكارثة الانفجار السكاني التي تعاني منها حاليا كافة الدول العربية و الإسلامية التي فشلت في إلغاء تعدد الزوجات.

يركز هذا المقال على مقترح جديد تقدمت به السيدة المصرية هيام دربك، التي أسست جمعية شعارها laquo;زوجة واحدة لا تكفيraquo; تركز على دعوة الرجال القادرين ماديا للزواج من الفتيات اللاتي يعانين من العنوسة. أي أن الهدف من تعدد الزوجات بناء على هذا المقترح ليس تلبية الرغبة الجنسية للرجل التي تتم غالبا بالزواج من فتاة صغيرة و جميلة و إنما الزواج من فتاة عانس متقدمة في السن بحيث يصبح تعدد الزوجات عملا إنسانيا رائعا.

لا نعتقد أن السيدة هيام قد جانبت الصواب بلفت النظر لمشكلة اجتماعية مؤثرة الا وهي مشكلة العانسات اللاتي تجاوز عددهن المليون و نصف المليون في المملكة العربية السعودية و ضعف ذلك العدد في مصر. و بلوغ المشكلة لهذا الحد في هذه الدول بعينها يثبت بطبيعة الحال إن المشكلة ليست ناتجة عن إلغاء تعدد الزوجات كما يدعي البعض. لكن السيدة هيام دربك تخطئ في الاعتقاد إن السماح بتعدد الزوجات سوف يساعد العانسات.

بإمكان السيدة هيام دربك و من هم على شاكلتها الادعاء بان التشريع الذي يطالبون به لا يسمح بالزواج من ثانية و أكثر إلا إذا كانت سنها تفوق الثلاثين سنة، على سبيل المثال. لكن حتى في هذه الحالة سوف تفوق مساوئ هذا النظام مزاياه. فالعائلة هي مؤسسة اجتماعية تقوم على علاقة عاطفية بين الزوج و الزوجة قبل أن تكون مؤسسة خيرية لمساعدة العانسات. و مضاجعة الزوج لامرأة ثانية أو أكثر يمتهن شعور الزوجة الأولى و كرامتها. كما توجد آليات أخرى خارج تعدد الزوجات بإمكانها مساعدة الفتاة العانس أو الفقيرة أو اليتيمة.

و الأخطر ما في دعوة السيدة هيام دربك أن مجرد عدم التصدي لتعدد الزوجات بل و الدعوة له تحت غطاء مساعدة العانسات سوف يفتح الباب على مصراعيه لهذه الظاهرة الخبيثة، و لن يكون بالإمكان عندها الحيلولة دون اختيار الزوجة الصغيرة عوضا عن العانس.

يبدو أن هذه الحقائق لم تغب عن الناشطات في مجال الدفاع عن حقوق المرأة اللاتي تحركن للتنديد بالأفكار التي تروج لها الجمعية الجديدة لتعدد الزواج بالعانسات، إذ تحركت الجمعيات الأهلية المصرية مطالبة بتفعيل مشروع قانون الأحوال الشخصية العربي الموحد و تبني المجلس القومي للمرأة في مصر لهذه الدعوة.

و يبدو أن عودة الوعي بكارثية تعدد الزوجات لم تعد تستثني حتى المؤسسات التي عملت لعقود طويلة على مناهضة الحداثة في مصر، بما في ذلك جامعة الأزهر، إذ صرحت د. آمنة نصير أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بهذه المؤسسة: quot;فكرة إباحة تعدد الزوجات خالية من الحكمة لأنها تتجاهل جذور المشكلة فآخر إحصاء أثبت أن عدد الذكور يفوق الإناث بمليون ونصف المليون، فالمشكلة ليست في تضخم عدد النساء فنضطر لتزويج كل رجل من أربعة.quot; و أضافت: quot;الذين يتبنون هذه الدعوة يرتكبون جرما اجتماعياً لأنه في حال التعدد ستسعى كل زوجة للفوز والانتصار على الأخرى عن طريق الإنجاب، لتوطيد وضعها عند زوجها بشكل يعني مزيداً من المشكلات للمجتمع، وزيادة سكانية ستؤثر على كل مناحي الحياة. هذه فرقعة ودعاية إعلامية لمروجيها أولى منها أن نساعد الشباب على الزواج بدلا من أن نسعى لتزويج المتزوجين أكثر من مرة.quot;

قد تعبر ردة الفعل هذه عن عودة الوعي للنخبة في مصر بأهمية الحداثة، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التخلف المصري الكبير في هذا المجال. و أملنا أن تسير مجلة الأحوال الشخصية المصرية المنتظرة على خطى مجلة الأحوال الشخصية التونسية التي كانت سباقة بما يربو عن نصف قرن من الزمن بمنعها الكامل لتعدد الزوجات، و المهم ألا تتوقف المساعي المصرية الحالية عند وضع ضوابط أمام تعدد الزوجات سواء باشتراط إذن القاضي أو بغيره، على اعتبار أن مثل هذه الخزعبلات ما هي إلا فجوات يتم استغلالها بسهولة لتكريس دونية المرأة و الدوس على حقوقها باسم الشرع.

[email protected]