البروتوكول الأرمني التركي: صفقة الأمريكية التركية... من فاز ومن خسر..من سيرحل وعلى ماذا سيشهد التاريخ

في الثاني والعشرين من نيسان عام الفين وسبعة وفي وقت متأخر بعد منتصف الليل، وقبل يومين بالتحديد من تحضيرات الشعب الارمني في جميع انحاء العالم لإحياء ذكرى المليون ونصف المليون من الشهداء الأرمن الذين ذبحوا وقتلوا على يد الأتراك العثمانيين في اشهر وأبشع مجزرة وابادة جماعية شهدها التاريخ، وفي ظروف غامضة اعلن ادوارد نالبانديان وزير الخارجية الأرمني بأن أرمينيا وتركية توصلتا لوضع بروتوكول لتبادل العلاقات الدبلوماسية وفتح الحدود بينهما والذي اثار ضجة كبيرة داخل أرمينيا وتركيا والعالم، وكان صفعة كبيرة للشعب الأرمني الذي يعمل على اعتراف الدولة التركية بما ارتكبه اجدادهم العثمانيين الأتراك.
لماذا بهذا التاريخ بالتحديد؟.


الم تستطع الحكومة الأرمنية الإنتظار قليلاً وتأجيل هذا البيان على الأقل إلى ما بعد احياء ذكرى شهداءها احتراماً لهم.
ما هي الاسباب التي دفعت الحكومة الارمنية لاتخاذ قرار كهذا في منتصف الليل، وعدم تأجيله لصباح اليوم التالي؟. ما الذي جعل جو بايدن يتصل عدة مرات مع الخارجية الأرمنية قبل اصدار البيان في تلك الليلة؟.


وهل يتعلق الامر بوجود أوباما في تركيا قبلها بأسابيع؟. أم بالكلمة المنتظرة من أوباما حيال الإبادة الجماعية للأرمن والتي كان يجب أن يلقيها قي الرابع والعشرين من نيسان بمناسبة ذكرى الشهداء الارمن والذي كان ينتظرها الملايين من الناس في العالم؟.


معادلة صعبة وتساؤلات كثيرة، أدخلتني في حيرة من أمري، وسببت قلقاً كبيراً للشعب الارمني، سأحاول في هذه الاسطر القليلة أن أشرح التداعيات التي حصلت وأن أضع النقاط على الأحرف، والاسباب التي دعت الحكومة الارمنية على التنازل وقبول طرح هذا البيان وبهذا التاريح بالتحديد.
بعد التحليلات الواسعة والمعلومات التي استطعت جمعها، مع العلم أن أي شخص يملك القليل من الحنكة السياسية كان سيصل لنفس النتيجة التي وصلت لها، واليوم الوضع الراهن على الارض، يثبت كل كلمة في هذا النص.


سأعود معكم قليلأ إلى الوراء، الى الحملة الإنتخابية التي قام بها السيد باراك اوباما قبيل استلامه مفاتيح البيت الابيض.
ففي حملته اللإعلامية شدد اوباما مرات عديدة على كلمةuml;GENOCIDESuml;quot;الإبادة الجماعية quot; للأرمن، ولكنه امتنع في الرابع والعشرين من نيسان يوم ذكرى مجازر الارمن اليوم الذي يصدر فيه البيت الأبيض بياناً حسب التقليد الدبلوماسي الاميركي لكل سنة من هذا اليوم، عن وصف المجارز التي ارتكبتها الامبراطورية العثمانية بحق الارمن في العام 1915 بانها quot;ابادةquot;، ووصف فيه عمليات القتل هذه بانها quot;واحدة من اكبر الفظائع التي ارتكبت في القرن العشرينquot;..

واضاف السيد اوباما على انه غير نادم على استخدام هذه العبارة اثناء حملته الانتخابية واعتمد عدد ضحايا هذه المجازر الذي تعترض عليه انقرة وقدره 1،5 مليون ضحية، بل فضل التسمية الارمنية لهذه المجازر quot;ميدس يغيرنquot; اي quot;النكبة او المصيبة الكبرىquot;.. وقال ان التصالح مع الماضي هو افضل طريقة للاتراك والارمن للمضي قدما والعمل لتجاوز quot;التاريخ المؤلم بصدق وانفتاح وبشكل بناءquot;.


حديث جميل داعي للسلام، لا يدعي لأي شيء آخر. ولاندري مدى المصداقية مقارنة مع التصريحات المسبقة للشخص نفسه، ولا يتعارض معه أي ارمني في حال اعتراف الدولة التركية بحق الشعب الأرمني، والتصالح مع ماضيها وتقديم الإعتذار للشعب الذي عانا من جراء هذه الكارثة التي حلت به.
نعود للبيان لنكمل ما قاله واكد عليه اوباما quot;في كل سنة نقف لنتذكر الـ 1،5 مليون ارمني الذين قتلوا في الايام الاخيرة للامبراطورية العثمانيةquot;. وان quot;ميدس يغيرنquot; يجب ان تبقى حية في ذاكرتنا كما تعيش في قلوب الشعب الارمني، ولا شيء يمكن ان يعيد الذين فقدوا في quot;ميدس يغيرنquot; لكن المساهمات التي قدمها الارمن في السنوات ال94 الاخيرة تشهد على موهبة وحيوية وتصميم الشعب الارمنيquot;quot; وتشكل الرد الاخير على الذين quot;quot;حاولوا تدميرهquot;quot;.


نذكركم بتصريح آخر، فعندما كانت تركيا الحليفة الكبرى للولايات المتحدة في حلف شمال الاطلسي، حينها هددت في 2007 بسحب دعمها اللوجستي الثمين للعمليات في العراق اذا تبنى الكونغرس الاميركي نصا يعترف بان المجازر كانت quot;ابادة، quot;وودعم اوباما حينذاك قرار الكونغرس الذي اعترف آنذاك بالمجازرquot;، وسحبت تركيا حينها دعمها اللوجستي للعمليات في العراق. وقد اكد اوباما في برنامجه الانتخابي quot;قناعته التامةquot; بان ابادة الارمن ليست مجرد رأي شخصي بل quot;واقعا مثبتا في وثائق كثيرة وادلة تاريخية. انها وقائع لا يمكن انكارهاquot;.


لقد نكث اوباما بالوعود التي قطعها عندما كان مرشحا للرئاسة، بالاعتراف بحقيقة حدوث ابادة في حال انتخب، ولكنه في بيانه نفى بأنه قد نكث بوعوده. ويعود ويقول quot;عبرت بوضوح عن رأيي الشخصي حول ما حدث في 1915 ورأيي في التاريخ لم يتغير، الامر الذي ما زال يهمني هو اعتراف كامل وصادق وعادل بالوقائعquot;، لم نعد نعرف ايهما هو رايه الشخصي، وعوده والتصريحات التي ادلى بها قبيل تسلمه مفاتيح البيت الأبيض، أم البيان الذي أصدره وهو في البيت الأبيض، إذاً لا يتوافق رأي اوباما الشخصي ورأي رئيس الولايات المتحدة، اذدواجية فاضحة!!!. اللعبة الإنتخابية المعهودة، والوعود الذي يقطعها معظم المرشحين اثناء الإنتخابات وكل شيء يبقى معلقاً في الهواء حتى تدعوا المصالح لتحريكها، واليوم المصالح الأمريكية كما يبدوعلى الاقل في الوقت الراهن لا تدعوا الى معادة تركيا.


نعود مرة ثانية الى البيان الذي اشار فيه اوباما على انه quot; يدعم quot;بقوةquot; الجهود التي يبذلها البلدان quot;مشيراً إلى أرمينية وتركيا، لتجاوز هذا التاريخ المؤلمquot; وتطبيع العلاقات بينهما، ودعا البلدين لىتنفيذ تعهداتهما المدرجة في quot;خارطة الطريقquot; التي تفاهما حولها بوساطة سويسرية في الثاني والعشرين من الشهر الجاريquot;.
هذه كانت تصريحات اوباما في البيان الذي سبقها وضع البروتوكول، فقط يومين اثنين، بروتوكول لتبادل العلاقات الدبلوماسية وفتح الحدود بين ارمينية وتركية، إذا الامور باتت واضحة، المصالح السياسية للدول الكبرى تلعب كيفما تريد ومتى تريدquot; وعلى عينك يا تاجرquot; لا يهمها ما يصيب الشعوب وما أصاب الشعوب المهم ان تبقى هي المسيطرة، والتصريحات التي يدلون بها تبقى وعود وكلمات تتطاير مع أول هبة رياح صيفية.

نكثُ اوباما لوعوده، quot;تسبب من دون جدوى في تأثير مسألة الاعتراف بالابادة وقلل من مصداقية الولايات المتحدة عندما يتعلق الامر بمنع وقوع حملات ابادةquot;.
ولعب لعبة كان ضحيتها الشعب الأرمني، الذي لطالما ناضل من اجل الأعتراف بالمجازر التي ارتكبت بحق شعبه، واستطاع اوباما احراز هدف اضافت نقطة مهمة في رصيده، للحصول على جائزة نوبل للسلام، هذا موضوع لوحده، لن نتطرق اليه حالياً لأن التداعيات كثيرة.


إذاً، البيان الذي اصدره ادوارد نالبانديان وزير الخارجية الأرمني قبيل تصريح أوباما لم يأتي من لا شيء، بل كانت الخطة الأمريكية التركية والاتفاق الذي جرى بين البلدين اثناء زيارة اوباما الى تركيا، ومن طرف آخر خففت من الإنتقادات التي كانت ستتوجه لأوباما في الرابع والعشرين من نيسان بذكرى الشهداء الارمن، والتي كانت ستكون ورقة بيد المعارضة الامريكية للتشكيك بمصداقية أوباما أمام الراي العام الامريكي، هنا اصبحت اللعبة واضحة، اوباما الذي ادعى أنه سوف يعمل على الأعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، قلب المعادلة لتصبح القضية الأرمنية ورقة يلعب بها مع تركيا لضمان نجاح مشروعه في الشرق الأوسط.


وهكذا كُلف جو بايدن بإستلام زمام الامور في منتصف الليل بتوقيت ارمينيا في الثاني والعشرين من نيسان عام الفين وتسعة، وبفارق الوقت كانت الساعة في امريكا حوالي التاسعة أو العاشرة صباحاً أي أوقات الدوام الرسمي.


دخلت الحكومة الأرمنية في اللعبة الامريكية التركية تحت الضغط، ولحسابات اخرى شخصية متعلقة بالمشاريع التي وعِدَ بها الرئيس ساركيسيان ومنها ممر الغاز والنفط الذي يربط الشرق بالغرب، مصالح شخصية اهم من مصلحة الوطن، هذا الرئيس الذي لم يعد يمثل الأرمن في كل العالم بعد تواطئه في هذه اللعبة.
سيرج ساركيسيان الرئيس الارمني الذي لم يستجب لمطالب شعبه، فبعد مقابلته جميع الجاليات الارمنية في كل من أوروبا، امريكا، الشرق الأوسط وروسيا ما زال متمسكاً برايه مع كل التنديد من قبل الشعب الأرمني في الداخل والخارج بتوقيع هذا البروتوكول.


وبعد وقوف أكثر من تسعة مليون أرمني مطالبين ساركيسيان بعدم التطبيع، وعدم توقيع البروتوكول إلا بعد ضمان جميع حقوق الشعب الأرمني، حيث خرج اكثرمن ستين الف مواطن ارمني في يريفان العاصمة الأرمنية في التاسع من تشرين الاول، بدأت من ساحة الجمهورية وتابعت سيراً على الأقدام الى مسكن الرئيس، من ثم الى النصب التذكاري لشهداء الأرمن، مرددين الشعارات التي تطالب الحكومة الأرمنية وسيرج ساركيسيان بعدم التطبيع وعدم التنازل للشروط التركية، بل وضع شروط تضمن الأعتراف بالمجازر الأرمنية وبحق الشعب الأرمني.


بقي ساركيسيان متمسكاً برأيه، وفضل الأنصياع لطلب اوباما، الخطة الأمريكية التركية، بدون حسبان ما يمكن ان يجني من ورائها الشعب، لأنه لا يملك حتى القليل من الخلفية السياسية التي يجب أن يتحلى بها رئيس أية دولة للحفاظ على أمن دولته واستقرارها.


quot;اذا كنا نجهل التاريخ، فسنكرر اخطاء الماضي، الابادة في رواندا ودارفور تذكرنا بانه علينا ان نبذل مزيدا من الجهود حتى لا تتكرر مجدداquot;.
المشكلة ليست في التوقيع، المشكلة تكمن في شروط البروتوكول، الشعب الارمني ليس ضد السلام، بل هو من يسعى لإحياء السلام في المنطقة، ولكن ألا يجب على تركيا أن تعترف بالطرف الآخر قي البداية، كيف تستطيع الحوار والجلوس مع اشخاص لا يعترفون بك وبوجودك، ولا يحترمونك، ولا يريدون الاعتراف بما أرتكب أجدادهم من اكبر الفظائع في القرن العشرين ألا يجدر لهم أن يقدموا بعض التنازلات، ام فقط يجب على الشعب الذي قدم منذ قرابة قرن أكثر من مليون ونصف المليون من أبنائه وتشرد في جميع أنحاء العالم أن يتنازل ويرضخ للعبة سياسية باتت رائحتها تفوح.


نعم فاز اوباما وفاز الأتراك، فاز اوباما جائزة نوبل للسلام وفاز الأتراك معركتهم ضد الحكومة الارمنية، وفازت الحكومة الأرمنية بأتمام هذه الصفقة.
اما بالنسبة للخسارة:


فخسرت الحكومة الأرمنية مصداقيتها امام الشعب الأرمني وخسرت في أن تكون الممثل والمتكلم باسم الشعب الأرمني ليس فقط في أرمينية بل في جميع أنحاء العالم، وقريباً جداً ستتبين الحقائق مع أول قافلة ترحل من الأراضي الأرمنية.


اما بالنسبة للآخرين، عن ماذا خسر اوباما، وماذا خسرت تركيا، سأترك هذا معلقاً ليتكلم عنه، ويشهد عليه التاريخ......
كانت مجرد معركة صغيرة نشبت لمصالح مشتركة بين اطراف لايهمها إلا مصالحها الشخصية لكنها لن تستطيع احباط شعب وقف وصمد الآف السنين.
ان ارادة الشعوب اقوى وأنبل من أن ترضخ لأية مؤامرة ومن الصعب جداً أن يقهر إرادة شعب تمسك بماضيه وأراد الحياة وناضل من اجل كلمة الحق والحرية.

بيتروس بتروسيان

بروكسل
[email protected]