تتشكل الحكومات في العادة وفق قاعدة برلمانية معروفة في معظم بلدان العالم التي تعتمد النظام البرلماني، وتستند تلك القاعدة على الأغلبية البرلمانية. فالحزب أو التحالف الذي يفوز بأغلبية مقاعد البرلمان يكون دستوريا مؤهلا لتشكيل الحكومة، وتبقى بقية الأحزاب في الجبهة المعارضة. ولا تستثنى من هذه القاعدة سوى الحكومات الإنقلابية التي تأتي على ظهر الدبابات أوفوهات البنادق.


وفي العادة أيضا فإن في الدول الديمقراطية ينتهي دور الأحزاب بمجرد ترشيح ممثليه للإنتخابات البرلمانية أو الرئاسية، وتنمحي علاقة الحزب بالحكومة تماما بعد وصول مرشحي ذلك الحزب الى السلطة، حيث يتحول المرشح الحزبي بعد الإنتخابات الى ممثل للشعب وليس للحزب.


أما في يلادنا فان الامور معكوسة تماما، حيث أن دور الحزب يبدأ عادة مع صعود مرشحيه الى السلطة، سواء كانت تشريعية ( البرلمان) أو تنفيذية ( الحكومة). وفي معظم الأحيان فإن رئيس الحزب أو قياداته يحتكرون تلك السلطات إحتكارا كاملا، ويكرسونها لخدمة أهدافهم الحزبية، وبذلك تفقد السلطتين التشريعية والتنفيذية صفتهما الشعبية، وقد ينعكس ذلك في بعض الأحيان على السلطة القضائية التي تفقد بدورها، إستقلاليتها وحياديتها بسبب السيطرة الحزبية على مفاصل الدولة الأساسية.


ومع وجود تلك السيطرة الحزبية المحكمة خصوصا في بلداننا على السلطتين التشريعية والتنفيذية والتي تصل الى حد التدخل في أدق تفاصيل الإدارة اليومية، تتحول البرلمانات المنتخبة الى مجرد واجهات كرتونية، فيما تصبح الحكومات أداة طيعة بيد القيادات الحزبية توجهها كيفما تشاء، وتغدو ممارسة النشاطات المحصورة بالحكومات كالتعيينات في الوظائف والعزل منها، وإدارة الشؤون المالية والإقتصادية وغيرها من المهام الأساسية للحكومات بيد زعيم الحزب أو المكاتب السياسية، لذلك فإن الحديث عن حكومات تكنوقراط في بلداننا يصبح حديثا محض خيال، فلا وجود لمثل هذه الحكومات على أرض الواقع في مجتمعاتنا الشرقية.


وأحيانا أتساءل مع نفسي، ما دامت الحكومات تتأسس عادة من القيادات الحزبية، وغالبا ما يكون رئيس الحزب أو القيادات الأمامية على رأس تلك الحكومات، فما الداعي اذن للسماح بتدخل الحزب في إدارة شؤون الحكومة؟. فإذا كان الشخص المكلف برئاسة الحكومة غير قادر على إدارة شؤونها سواء بسبب المؤهلات أو الإختصاص أو الكفاءة، فلماذا يكلفه الحزب بذلك أساسا، وإذا كان قادرا على ذلك،فلماذا لا يسمح له أن يدير شؤون الحكومة وفقا لإختصاصه وكفاءاته ومؤهلاته؟؟!!

ثم أن الأحزاب الكبيرة في أي بلد كان يضم بطبيعة الحال المئات بل الآلاف من أصحاب الكفاءات والخبرات والشهادات العليا، فلماذا لا تزج تلك الأحزاب بأفضل كفاءاتها العلمية والأكاديمية في حكوماتها، بل على العكس نرى في بعض الأحيان أن قيادات تلك الأحزاب تكلف أضعف قياداتها بإشغال تلك المناصب لكي يسهل عليها السيطرة على مرافق الحكومة،وغالبا ما تلجأ الأحزاب الى إعتماد معايير النضال الحزبي والخدمة الحزبية لتكليف أعضائه بمهام حكومية، وهم في الغالب كوادر لا تمتلك أية كفاءات مهنية أو الخبرة والإختصاص.ولا نحتاج الى دلائل بهذا الشأن لأن بلداننا تمتليء بمثل هذه الظواهر، فليس غريبا أن يعمل أستاذ جامعي تحت إمرة شخص حزبي لا يمتلك شهادة الدراسة الإبتدائية؟!.

وتتعمم هذه الظاهرة على مرافق هامة في الدولة كالأجهزة الأمنية والمؤسسات العسكرية، فلا غرابة أن يكون هناك المئات من الضباط العسكريين المهنيين يأتمرون بأوامر عقداء وعمداء وألوية لا يعرفون القراءة والكتابة إلا لماما، وهذا ما يحدث اليوم في كردستان.


أعتقد بأن ظاهرة الفساد الذي يضرب كردستان والعراق حاليا،هي نتاج تدخل الأحزاب في شؤون الحكومة، ففي العراق بما فيها كردستان تعتمد معايير الولاء للحزب أساسا لحصول الأشخاص على الوظائف والمناصب بالحكومة، فمن غير تزكية حزبية أو دعم ظهير حزبي لا يمكن لأي كان أن يحصل على فرصة للتوظيف أو إحتلال منصب في الحكومة، وهذا طبعا على حساب مئاة الألوف من أصحاب الكفاءات المهنية والأكاديمية التي تتخرج من الجامعات والمعاهد سنة بعد أخرى ولا تستطيع الحصول على وظائف بالدولة، وهذه مشكلة من كبائر المشكلات في العراق وكردستان، حيث يعجز خريجو جامعاتها ومعاهدها من الحصول على فرص التوظيف مما يضطرهم إما الى الجلوس في البيت، أو الإشتغال بأعمال وظيعة لا تتناسب مع مؤهلاتهم، فيتهدم مستقبل جيل كامل، وتخسر الدولة آلاف الكفاءات العلمية والأكاديمية القادرة على البذل والعطاء،وأعتقد بأنه لو أجري أحصاء علمي دقيق وشفاف لتحديد هذه الحالات لظهرت النتائج بأرقام مرعبة عما يعانية جيل الشباب المتعلم في العراق الحالي.


لقد تحولت الأحزاب عندنا الى حكومات داخل الحكومات، وأصبحت مكاتبها التنظيمية والحزبية أعلى مرتبة من الوزرات والمؤسسات الحكومية، بل أنها أصبحت مرجعا لتلك المؤسسات، وفي كثير من الأحيان يضطر المواطن الى مراجعة المكاتب الحزبية لإنجاز معاملة رسمية له في إحدى الدوائر الحكومية لما لتلك المكاتب من هيبة وسلطة على مسؤولي تلك الدوائر، وبسبب إنغماس دوائر حكوماتنا في الإجراءات البيروقراطية المتخلفة التي مازالت تعتمد على الوساطات قبل الحقوق القانونية والدستورية للمواطن.


إن التدخل الحزبي في شؤون الحكومة يجر معه التحكم بالمصادر المالية وبالتحديد ميزانيتها،ووصول يد الأحزاب الى الميزانية يجر معه إنجرار الحزب الى الفساد المالي، والفساد المالي يجر معه فسادا إداريا، والفساد الإداري يجر معه فسادا إجتماعيا، وهكذا ندور في حلقة مفرغة بسبب تدخل الأحزاب في شؤون الحكومة والذي يعد في إعتقادي أساس الفساد في أي مجتمع من المجتمعات، خصوصا مجتمعاتنا المتخلفة التي لم تنضج فيها المفاهيم والأسس الديمقراطية ولم يتسيد القانون على الجميع.


ونحن بإنتظار تشكيل حكومة إقليمية قادمة تعلق الآمال على شخص رئيسها برهم صالح المعروف بكفاءاته العلمية وخبراته الإدارية التي تعتمد على معايير الإدارة الحديثة، نأمل أن يخفف الحزبين الرئيسيين من تدخلاتهما في شؤون الحكومة، ويعطيانه فرصة لإثبات جدارته في إدارة الحكم، وتنفيذ إلتزاماته تجاه ناخبيه وفق البرنامج الإنتخابي الذي هو برنامج مشترك للحزبين، وأن يمنحانه الصلاحيات المطلوبة للإيفاء بتلك الإلتزامات الإنتخابية،وفي مقدمتها محاربة الفساد المستشري في كردستان، ودعم جهوده من أجل تحديث وتجديد حكومة الإقليم وهما جوهر شعار القائمة الكردستانية.


إذن هي فرصة أخيرة لتدارك الوضع المتأزم الناشيء في علاقة المواطن الكردستاني بالحزبين الرئيسيين وإستعادة ثقة الناخب الكردي بهما.


[email protected]