ثمة دعوات و مطالبات بل مظاهرات شعبية يشهدها العراق في عدة مدن رئيسية كالعاصمة بغداد و البصرة و السماوة و الموصل و ميسان و ديالى و كركوك مناطق أخرى لإتباع صيغة القائمة المفتوحة في النظام الإنتخابي العراقي و من أجل ذلك تعديل الفقرات الخاصة بالأمر في قانون الإنتخابات العراقية. و ثمة منطق يُسَوق لهذه الفكرة إنطلاقاً من مفاهيم ملفتة و جذابة من حيث المفهوم و المضمون و لكن دون الدخول في تفاصيل هذه المفاهيم و مدى توافقها مع الواقع السوسولوجي العراقي سياسياً و ثقافياً و لا التطرق، لا من قريب و لا من بعيد، الى المعضلات الواقعية و العملية التي ربما ستعترض سبيل تبني نظام من هذا القبيل في الإنتخابات المقبلة للبلاد..

الملفت في هذه الدعوات و المظاهرات هو أن أغلبها مُنَظَمة من قبل الأحزاب و التيارات السياسية أو مُحَرَضة من جانب المراجع الدينية المختلفة أو مُبَرمَجة من قبل قوى عشائرية و قبلية في الوقت الذي كان ينبغي أن يكون الموقف هذا أنشطة خاصة بشرائح مجتمعية أخرى بل الشغل الشاغل للشريحة المثقفة و الأكاديميين و كبار المفكرين العراقيين و الطبقة الإجتماعية التي تتمتع بالمؤهلات العلمية و الثقافية دون أن يُفسَح لهم المجال حتى الآن في عملية بناء العراق مجدداً بعقولهم النيرة و ثقافتهم الحضارية، فضلاً عن أقصاء أغلبهم من قبل الأحزاب السياسية الطائفية من المساهمة في إنهاض العراق لمجرد أنهم ربما كانوا غير منتمين لهذا الحزب أو ذاك التيار أو غير ( مخلصين ) لهذه الطائفة أو تلك.. و المفارقة الحقيقية في أية قراءة أولية لهذا المشهد و الخطاب الداعي لإتباع القائمة المفتوحة تكمن هنا بالذات، أي أن نجد أن أغلب الجهات التي وراء المطالبة بالقائمة المفتوحة هي أصلاً من الجهات غير المؤمنة بالثقافة العلمية أو روح المدنية و المعاصرة أومِن مَن لايمثلون سوى الطبقات الإجتماعية ذات البنية التقليدية في المجتمع..!

و هنا يبدأ السؤال بالضبط: لِمَ يا ترى هذه المفارقة؟ و ما هي الحجج التي تسوقها هذه الأطراف التقليدية في المجتمع للأخذ بنظام إنتخابي في الإنتخابات هو، كما نعلم، من أصعب الأنظمة الإنتخابية من الناحية التقنية و توفير المستلزمات اللوجستية الخاصة بها و المشاكل الأخرى التي تتعلق بوعي الإختيار لدى المواطن لاسيما في بلد مثل العراق الذي يعجز المواطن حتى من حفظ أسماء عدد الكيانات، التي وصلت في الإنتخابات السابقة الى أكثر من 400 كيان بينما الآن تُعرض عليه، علاوةً على هذه الفوضى السياسية، أن يكون واعياً و يُميز بدقة بين المرشحين مصوتاً لصالح المرشحين الذين يٌرشحهم الكيانات السياسية المئاتية؟

ربما سمعنا في خطاب الدعوة الى هذا الأمر بأن ثمة من يبرر القضية بغياب أشخاص، في مجلس النواب، تتمتع بالمؤهلات العلمية و أن تكون من أهل الأختصاص و من الأكاديميين و من أناس وطنيين تعرفهم المواطن وليس العكس، أي على غرار ما أفرزها نظام القائمة المغلقة التي تتحكم بها عادةً الكيانات السياسية بمفردها و لا حول للمواطن و لا قوة في أختيار المرشحين الذين أختارهم الحزب، كما ثمة مبرر آخر يفيد أن القائمة المفتوحة توفر حق المواطن في إختيار الشخص المناصب ليمثله في مؤسسة البرلمان، و الحق أننا هنا لسنا بصدد التصديق على هذه المبررات لأنها، من حيث المبدأ، لاجدال في معقوليتها، لكننا نضطر هنا، حتى نوضح الفكرة، أن نَخرُج مع هذا الموضوع من عالم المباديء و المثل الى عالم الواقع الإجتماعي و السياسي و الثقافي الذي يعيشه العراق لنقيس بعد ذلك مدى صدقية هذه الدعوات و مالذي يجعلنا أن نشكك في أمرها..

أول الإنتقادات التي يمكن أن نوجهها الى أولئك الذين يطالبون بإنتهاج القائمة المفتوحة في النظام الإنتخابي في البلد هو أن الدموع لغياب أهل العلوم و الإختصاصات و أصحاب المؤهلات في البلد ليست سوى دموع تمساحية لا أحد يصدقها سيما إذا تذكر المواطن الأسباب الحقيقية التي دفعت بمئات الآلاف من العراقيين ذوي الخبرات العلمية و الثقافية و السياسية و الإكاديمية لأن تغادر العراق.. و ربما سؤالنا هنا هو : هل نسيتهم، يا من يتفنون في المطالبات المخادعة، بأن من كانت وراء هجرة العقول في العراق هي ليست إلا معاداتهكم لأهل العلم و المعرفة و المدنية و الحضارة؟ هل نسيتم أن من دمرت قيمة العقل و قدسية المعرفة و روح الحكمة في البلد هي فتاويكم و تطرفكم و تطهيركم الطائفي و المذهبي لكل مخالف لمسلماتكم المذهبية و السياسية و الفكرية؟ لِمَ الآن كل هذه الشعارات البراقة و كأنكم تريدون أن تقولوا لنا أنكم مع تنصيب الرجل المناسب في المكان المناسب بينما تعلمون جيداً بأنكم قمتم بما فيه الكفاية بتزوير المئات من الشهادات الدراسية و الجامعية لتوظفوا كوادركم و متطرفيكم الأميين في مرافق الدولة و مجالسها البلدية و النيابية؟ من يصدق الآن أنكم حريصون على أن تعود المياه الى مجاريها بينما كنتم - أو من تُجَندوهم بروح الدمار و الخراب لتحقيق مآربكم السياسية- تقتلون و تغتالون أساتذة الجامعات في وضح النهار؟

ثم يا ترى هل يصدق أحد أن مجتمعنا الذي بات شبه خال من الطبقة الوسطى وأصبح يتحكم به التيارات و الأحزاب و القوى العشائرية و المراجع الدينية و القوى الأقليمية والأجندات الخارجية، يمكن أن يولد فيه الآن مفهوم الفرد و حرية الأختيار بيوم واحد إلا وهو يوم الأقتراع؟ حسناً، ماذا بشأن الأيام الأخرى، هل ستهتمون حقاً بأمر المواطن و الفرد و حرية أختياره و رفضه؟ شتان، يا جماعة، مابين خطاب المراجع الدينية و المذهبية و بين الفردانية و تبجيل الفرد و الإعتراف بحقوقه السياسية؟ ألا تعتقدون أنكم تريدون دون جدوى مخادعة الناس بهذه الشعارات بينما تستغلون الأمر لأجندات سياسية خاصة بكم و ليس إحتراماً لمفهوم الفرد أو إيماناً بحرية أختيار المرشح و صعود أصحاب المؤهلات؟ من منا صار أحمقاً لهذه الدرجة يصدق بسهولة أن الفرد في العراق أصبح كائناً مسموعاً و أن الجماعات السياسية و الدينية و القبلية و العشائرية بدأت تعيد الهيبة له و تكن له الإحترام و التقدير؟! لا أعتقد أحد، إذن كفانا مرارة الخداع و التضليل..


* رئيس تحرير مجلة ( والابريس ) ndash; كردستان العراق