ما زلت مذهولاً من أثر الصدمة. الخبر كأنه خيالي، وليته كان خيالياً. كلنا كنا نعرف بمرضه ولكني لم أرد أن أعي علاقة السرطان بالموت. أن يغيب دكتور محمد الى الأبد في هذه السن المبكرة ليس أقل من لدغة خبيثة، خبيثة جداً، من القدَر.

***

أتساءل إن كان يمكن لانسان أن يكون بهذا القدر من الجمال. محمد السيد سعيد، في حياته وفي شخصيته، يثبت أن هذا ممكن، لكن ليس لأي إنسان.

المرات القليلة التي التقيته فيها في أروقة جريدة البديل، والكثيرة التي قرأت له فيها، والكثيرة جدا التي سمعت فيها الآخرين يشيدون به، كانت تؤكد لي بأنني أمام قامة عملاقة من الجمال الانساني ونوعية نادرة من النبل. محمد من الناس القليلين الذين انحنى خصومهم احتراماً لهم. هو باختصار من نوعية لم يتبق منها سوى أفراد معدودين. إنه يرفض أن يدعي أنه يعلمك شيئاً ولكنه بسلوكه، العام والشخصي واليومي معاً، يعلمك الكثير والعظيم.

وقفت مرات متسائلاً أمام خصوصيته. الشجاعة عنده تعني الجرأة على إيصال كلمتك، ومشروعك، الى أسماع السلطة وليس كما اعتدنا أن نفهمها الاكتفاء بالتحريض العام. وبذلك ترتبط الشجاعة عنده بالاخلاص الوطني وليس بالدعاية السياسية. لهذا ترى كتاباته تخلو من أي أثر quot;للكرهquot; مهما تصاعد انتقاده، بل فضحه، لممارسات السلطة والطبقة الملتفة حولها، على الرغم من حرص السلطة الحالية، وقبلها سلطة السادات، على أن توفر له، بكرمها المعروف، كل الأسباب التي تجعله يكرهها: سجن، منع، محاربة، وأخيراً تهربها المخزي من نفقات علاجه فتكفل به الأجانب.

***

لم يكن للأمل من معنى لديه غير العمل. لهذا لم يصبح شاعراً لكنه أصبح من أنشط العاملين في تعبيد طريق الأحلام.

كان أهون عليه أن يكتفي، مثلنا نحن ثرثاري السوق، بالكتابة. كان أسهل عليه أن يكتفي، مثلنا نحن النخبويين، بازدراء الواقع وشتم الحكام. لكنه عندئذ لن يكون محمد السيد سعيد. فأن تؤمن بالعدل يعني في منظوره أن تساهم، بقدراتك وصحتك وما تملك، في تمهيد الطريق إليه. لهذا لم تكن حياته مجرد مراحل مهنية أو مراحل فكرية وإنما كانت مراحل من مشاريع، كان آخرها مشروعه الفريد في عالم الصحافة: البديل، الذي كان لي الشرف في المساهمة فيه بتواضع والتعرف من خلاله على بضعة من شباب مصر الواعين.

***

الشجاعة ليس مصدرها الحماس، وليس الصراخ علامتها. فقد يكون مصدر الشجاعة الايمان البديهي بقيمتك العظيمة كانسان، وقد تكون علامتها هي التعبير علناً عن إيمانك هذا في اللحظات المُرْهِبة، والظروف المصيرية. هذا ما يعلمنا إياه، وما يجعلنا ننحني احتراماً، الموقف الشهير لمحمد السيد سعيد أمام حاكم مصر، عندما صارحه بالدمار الشامل الذي أحدثته سياسته في الدولة والمجتمع، في الحاضر والمستقبل، وقدم له رؤيته كمختص لمعالجة هذا الدمار. بعد لحظات من الذهول إزاء هذا النوع النادر من الشجاعة، كان جواب الحاكم هو السخرية والعجرفة.

***

نبيل السياسة وجوهرة الثقافة. الجميل الناصع. قمرنا البهي، محمد السيد سعيد. لن تبارحنا. فيوم تبارحنا نخسر أنفسنا.