تبدو المعركة الدائرة، اليوم، بين القاهرة وحزب الله، في أحد وجوهها، معركة إعلامية، وحرباً لكسر العظم، واستعادة لهيبة مفقودة أضاعتها مصر عبر تاريخ من تقزيم للدور المصري إقليمياً، وتحويله إلى مجرد ساع للبريد، وحامل للأوامر والتعليمات، والإملاءات من صقور إلى عصافير السلطة المساكين، مهيضي الجناح. ولو كانت القضية قضية أمن قومي مخترق كما تتذرع القاهرة، لكان الأجدر، والحال هذه، كشف أسرار عبور الطائرات الإسرائيلية سماء مصر باتجاه السودان وقصفها لقوافل كانت تحمل أسلحة ومعدات ومساعدات لوجستية أخرى للمقاومة اللبنانية، وتقديم المسؤولين عن هذا الفشل الأمني والاستراتيجي المريع والفظيع للمساءلة والمحاكمة، فهذه العملية الكبيرة، لا يمكن قياسها، أمنياً، أو استراتيجياً، وعملياً، بما أعلن، حتى الآن، عن مجرد أفراد، وخلية تابعة لحزب الله.
ولقد تسبب أداء حزب الله السياسي، والعسكري، سابقاً، بدرجة كبيرة من الحرج، والصداع السياسي والاستراتيجي للنظام الرسمي العربي، أو تحديداً، ما يسمى خاصة بمنظومة الاعتدال في المنطقة. ولن تنسى تلك المنظومة، قط، تلك الحالة، والوضع الذي أوقعهم فيه حزب الله، ولاسيما بعد انتصاره البطولي في صيف 2006، وتحريره لمئات الأسرى والسجناء العرب، من مختلف الجنسيات الناطقة بالعربية، من السجون الإسرائيلية، ونيله شعبية ساحقة وتأييد غير مسبوق في الشارع العريض. وquot;اعترافquot; السيد الأخير، لن يعمل إلا على زيادة رصيد الإحراج لمصر، في شارع متحفز ومحتقن إسلامياً واصطفافياً لصالح المقاومات في المنطقة.
ومن الملاحظ، تماماً،أن هناك عملية ترصد مقصودة لحزب الله من قبل قوى إقليمية فاعلة ومعروفة، ويظهر هذا في حجم الخطاب الهائل الموجه ضد هذا الحزب، وشخص أمينه العام ذائع الصيت، بغية النيل من هيبته وصورته في الشارع العربي، وتشويه دوره البطولي المقاوم في أعين الناس، بعد أن سحب الحزب بأدائه السياسي والعسكري الرفيع، البساط من تحت أقدام الزعامات العربية التقليدية وخلق مدرسة نضالية وسياسية وعسكرية بديلة للمدرسة العربية الرسمية التقليدية المهزومة تاريخياً، وكانت المقاومة الإسلامية الحماسية إحدى استنساخاتها الأحدث، وحازت هي الأخرى على تأييد، وتعاطف واسع في الشارعين العربي والإسلامي، ولاسيما بعد الحرب البربرية الهمجية الصهيونية المدمرة التي شنتها إسرائيل على غزة في نهاية العام الماضي. ويبدو أن quot;الفرقعةquot;، والزوبعة الإعلامية المصرية الأخيرة هي إحدى تجليات استمرار عملية النيل من المقاومات في المنطقة. ومن هنا فعملية التجاذب والاستقطاب تبدو واضحة بين قيادات رسمية مهزومة ومستسلمة ومترهلة عاجزة، وبين قيادات شعبية شابة عفوية صاعدة متألقة، باتت تفرض نفسها بقوة على المشهد السياسي في عموم الإقليم، وتحظى بقبول وإعجاب المجاميع، وحتى بعض النخب السياسية والثقافية، في عموم الإقليم. وقد رأيت بأم عيني هاتين، صوراً، في قلب شوارع عاصمة المعز، وأحيائها الشعبية، في صيف 2006، وتمت ملاحظة نفس الأمر في شوارع العاصمة الأردنية عمان، ناهيكم عن quot;مماحكاتquot; حادة ظهرت في قلب شوارع خليجية تنعم بالوفرة والبحبوحة، كالكويت وغيرها.
مقاومة المحتلين الغاصبين، ودعم تلك المقاومة، ليست تهمة، ولا جريمة بالنسبة لحزب الله، ولا لأي منظمة، أو شخصية نالت هذا الشرف الرفيع عبر التاريخ. وتقام اليوم في شوارع كبريات المدن النـُصب والتماثيل الخالدة لأبطال، ومقاومين قارعوا المحتلين وهزموهم واحتلوا مكانة مقدسة في عمق الوجدان الشعبي والتاريخ. وحسنا فعل الشيح حسن، بـquot;تثبيتquot; تهمة المقاومة ومساعدة المقاومين عليه، لأن هذا سيساهم فقط في زيادة منسوب الإعجاب، ورصيد الحب الشعبي له، وتعزيز مكانته في التاريخ والوجدان الشعبي، وهذا أمر مدعاة للفخر، وليس للاستحياء، والخجل، الذي يمكن ملاحظته، بشكل ظاهر، على الجانب الآخر، والطرف الثاني من المعادلة، وتحديداً مصر التي تدعم المجهود الحربي الإسرائيلي بالغاز الرخيص وشبه المجاني، ولا تنسى في الوقت نفسه أن تغلق المعابر، وتفرض الحصار الجائر، على الدواء، والحليب الذي يحتاجه أطفال غزة العرب المسلمون الأبرياء، ليقوم، بعدها، مجرد رجل quot;شيعيquot; بمد يد العون، وتزويد أولئك الأطفال المحاصرين بالمال والدولارات والأسلحة. وكل هذه quot;التهمquot;، إن جاز تسميتها بالتهم، هي تهم مرتدة على مصر ذاتها، لتقاعسها وانحسار دورها الإنساني والنضالي والوطني. ومن نواح أخرى، إبراء، وتقدير، وشهادة عزيزة وغالية من مصر، تشكر عليها، بوطنية وبطولة الحزب المقاوم، وتثمين، بوجوهها، وقراءاتها، الأخرى للسيد حسن. فالبون شاسع، حتماً، بين من يحاصرك، وبين من يدعمك ويساعدك لفك الحصار الغاشم عنك.
إذن، ووفق قراءتنا، فقد اتهم الشيخ حسن مصر علناً بتخليها عن المقاومة، وتنكرها لها، وتنصلها من أي فعل لصالحا، واستمرار حصارها للقطاع، وبرأينا كان يجب على مصر ألا تعلن عن هذا الأمر بل أن تتحفظ، وتتكتم عليه لأنه فضيحة سياسية وإعلامية وأخلاقية لها قبل أي شيء آخر، وبكل المقاييس، ليزيد من درجة إحراجها لجهة موقفها من غزة ودعم المقاومة. لكنها زادت في طنبور المأساة نغماُ نشازاً آخراً، بأنها قبضت أيضاً على مقاومين ومناضلين quot;تسللواquot; خلسة، خوفاً من غضب الأشقاء، لمد يد العون للقطاع المحاصر، ووجهت لهم تهماً جنائية وكيدية ترصدية. وبهذا فقد وضع الشيخ حسن، الكرة في ملعب المصريين، ويبدو أنه ماض إلى طور جديد من كسب معنوي واستراتيجي وإعلامي، قائلاً لهم وبالحرف الواحد، ها نحن ندعم حماس والأطفال المحاصرين وأنتم تصادرون وتمنعون، ونرسل لهم الأموال والسلاح والغذاء، وهو عمل مشرف نتباهى ونعترف به على الملأ، ولا نخجل منه، فهل تعتبرون ذلك جريمة وإرهاباً وخرقاً للقوانين؟ وبعد اعترافنا هذا، ماذا أنتم فاعلون؟
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات