القضاء الذي شرعه القرآن الكريم وأنزله منزلة الأمر الموجه للأبناء في مراعاة آبائهم لا يمكن أن يحدد في مرحلة زمنية من حياتهم ولكن الإستثناء اللاحق كما سيمر عليك في الآية التي أشارت إلى هذا القضاء فيه تخصيص للفترة التي تلزم الأبناء بالإهتمام بآبائهم عند فقدهم المقدرة على القيام بأعباء الحياة أو الإعتماد على أنفسهم في تنظيم أمورهم الخاصة.
وهذه المرحلة يتفرع عليها بلوغ الآباء سن الكبر ويقاس على ذلك بعض الحالات الأخرى كالمرض والعوق والجنون وغيرها من الأمور التي تجعل الأبناء هم من يقوم بجميع إحتياجات آبائهم كما نص على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً) الإسراء 23.
وفي مرحلة الكبر هذه يصبح الإنسان في وضع غير مسؤول فيه عن نفسه لفقده كثير من قواه البدنية والعقلية وهذه بالذات هي المرحلة التي بينها تعالى بقوله: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً) الحج 5. وقريب من هذا اللفظ النحل 70. ومرحلة أرذل العمر يبدأ فيها الإنسان بفقد العلم أو عدم مقدرته على إضافة علم إلى علمه الذي بدأ بفقد أجزاء منه بطريقة تتابعية.
فالذي تنطبق عليه هذه الأعراض التي أشرنا لها يمكن أن يسمى شيخ كبير أو عاجز عن العمل أو غيرها من الإطلاقات التي تخرجه عن مصطلح الشيخوخة المجرد، ولذلك نجد أن بنات الرجل الصالح قد وصفن أباهن بأنه شيخ كبير كما في قوله تعالى: (قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) القصص 23. وقيل: إن هذا الرجل هو شعيب. وكذلك أضاف زكريا إلى كبره قرينة [عتياً] كما في قوله: (وقد بلغت من الكبر عتياً) مريم 8.
وهذه القرائن المضافة مثل كبير وعتياً وفقد العلم بعد حصوله تفيد أن المراحل المشار لها في هذه الآيات لاتعني السن الذي يحصل فيه الإنسان على التقاعد عن العمل كما هو متعارف في القوانين الوضعية للدول في وقتنا الحاضر، لذلك نجد أن بعض الدول تهتم بتعليم الكبار ولا يقتصر التعليم فيها على أعمار الشباب فقط، ولهذا الإهتمام كثير من الأهداف أهمها عدم توقف عجلة الحياة في عمر معين، كذلك يمكن الإستفادة من الكبار ووضعهم في أماكن مناسبة لهم بعد إتمام دراستهم، لأن هناك بعض الأعمال لا يستطيع القيام بها إلا كبار السن.
وفوق كل هذا يكون عمل الفئة المسنة من أكبر الحوافز التي تجعل الشباب يسيرون على خطاهم، وهذا النوع من الإهتمام بالكبار ربما يكون ضعيفاً أو معدماً في دول العالم الثالث التي تنظر إلى قانون التقاعد وإن شئت فقل التقاعس على أنه القانون الذي يحدد حركة الكبار على أبعد حد فيها، فإن قيل: هذا القانون يوجد في جميع دول العالم؟ أقول: نعم إلا أن حركة الكبار وتوجههم للدراسة والعمل الجديد الذي يناسبهم لا يحدد بهذا القانون.
ولو تأملنا القرآن الكريم نجده يذم الحياة التي تبعث على الخمول والملل أو بالأحرى الحياة التي لايوجد فيها أي نوع من أنواع الحركة التي يستحق الإنسان العيش من خلالها، ولذلك فإن الحق تبارك وتعالى يشير إلى هذه الحياة الخالية من العطاء في قوله: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) البقرة 96. وفي تنكير حياة دليل على حقارتها أو أخذها على أي وجه حاصل لديهم.
ومقابل هذا فإن القرآن الكريم يضعنا في صورة من أروع الصور ألا وهي صورة الكهولة التي تجعل الإنسان يأخذ توازنه في الحياة، وكأن هذه المرحلة هي التي بدأ منها وليس تلك التي تكون بداية لنهايته كما في مخيلة البعض الذين لا يقدرون عمر الإنسان بالطرق الوسطى، ولذلك يقول عز من قائل: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه......الآية) الأحقاف 15.
وبلوغ الأشد على ما قيل هي الفترة الواقعة بين الثلاثين والأربعين، والأربعون تكون غاية الرشد التي يتهيأ فيها الإنسان لممارسة دوره في الحياة بصورة أكثر جدية من المراحل السابقة التي عاشها بين الطفولة والشباب، أما الآن فقد بلغ النضوج لديه مبلغاً يجعله يميز الغث من السمين والصحيح من السقيم، وقد ورد في الخبر أنه لم يبعث الله تعالى نبياً إلا بعد أربعين سنة، إلا أن الفرق الذي يجب أن نشير إليه هو الإهتمام في التوجه العرضي لعمر الإنسان، فقد يعيش الإنسان عمراً طويلاً ولا يقدم فيه للحياة إلا المأساة والمعاناة التي يتركها بعد رحيله.
وعلى المقابل من هذا نجد أن بعض الناس الذين لا يعمرون كثيراً قد أثروا الحياة حتى أمست آثارهم من أسباب بقاء ذكرهم الحسن بعد رحيلهم، ومن هنا نجد الحق تبارك وتعالى قد أقسم بعمر النبي (ص) في قوله: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) الحجر 72. وهذا القسم بعمر النبي (ص) لا يعني أنه من المعمرين في الأرض ولكن العمر الذي مر عليه كان مليئاً بالعطاء والتضحية والجهاد في سبيل الله تعالى، حيث لا توجد في عمره ثغرة واحدة يتخللها الميول الخاص الذي نجده في نفوس من يتولى أمر الناس، وبناءً على ما مر نجد أن القرآن الكريم يولي إهتمامه بجميع الأعمار في حالات الجهاد والنفير العام إلا ما يخرجه الدليل، ولذلك يقول جل شأنه: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) التوبة 41. وفي الآية مباحث:
المبحث الأول: نزلت الآية في معركة تبوك، وفيها أمر بالجهاد ودعوة عامة إليه، وقوله تعالى: [خفافاً وثقالاً] الخفاف جمع الخفيف، والثقال جمع الثقيل، وهذا مفهوم عام تنطوي تحته كثير من المصاديق، أي انفروا في أي وضع كنتم شباباً أم شيوخاً، أغنياء أم فقراء، سواء كانت لكم أعمال أم لم تكن، تعولون أحداً أم لا تعولون، فالدعوة عامة للجميع وبدون إستثناء إلا ما أخرجه الدليل كما قدمنا.
المبحث الثاني: قال الطبري: إختلف أهل التأويل في معنى الخفة والثقل الذين أمر الله من كان به أحدهما بالنفر معه، فقال بعضهم: معنى الخفة التي عناها الله في هذا الموضع: الشباب، ومعنى الثقل: الشيخوخة، ثم نقل عن أبي طلحة: إن معناهما كهولاً وشباناً.
المبحث الثالث: قال الطباطبائي في الميزان: الخفاف والثقال: جمعا خفيف وثقيل [هكذا وردت] والثقيل بقرينة المقام كناية عن وجود الموانع الشاغلة للإنسان عن الخروج إلى الجهاد، نظير كثرة المشاغل المالية، وحب الأهل والولد والأقرباء والأصدقاء الذي يوجب كراهة مفارقتهم، وفقد الزاد والراحلة والسلاح ونحو ذلك، والخفة كناية عن خلاف ذلك، فالأمر بالنفر خفافاً وثقالاً وهما حالان متقابلان في معنى الأمر بالخروج على أي حال، وعدم اتخاذ شيء من ذلك عذراً يعتذر به لترك الخروج، كما أن الجمع بين الأموال والأنفس في الذكر في معنى الأمر بالجهاد بأي وسيلة أمكنت، وقد ظهر بذلك أن الأمر في الآية مطلق لا يأبى التقييد بالأعذار التي يسقط معها وجوب الجهاد كالمرض والعمى والعرج ونحو ذلك فإن المراد بالخفة والثقل أمر وراء ذلك.
المبحث الرابع: قال القرطبي: اختلف في هذه الآية فقيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) التوبة 91. وقيل الناسخ لها قوله: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) التوبة 122. والصحيح أنها ليست منسوخة. إنتهى. أقول: لم يبين القرطبي أن الآيتين فيهما تخصيص لعموم آية البحث.
عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]
التعليقات