بدأ العنف الطائفي في العراق منذ الأيام الأولى للتغيير في العراق قبل حوالي ست سنوات،ضمن الثورة المضادة لإعاقة التغيير وإسقاطه، وقد بلغ ذروته الرهيبة جداً في منتصف 2006 وحتى بداية 2008. وقد اختلف المحللون والساسة العراقيون في توصيفه،فمنهم من أسماه بالحرب الطائفية، ومنهم من أسماه بالاقتتال الطائفي، ومنهم من عده مجرد مناوشات ذات طابع مذهبي عابر، أو هي حرب ميليشيات لا علاقة للطوائف أو المذاهب بها.

ومهما يكن توصيف هذا العنف أو تحديد الجهات التي تقف وراءه فهو قد كان في حقيقته أو قاسمه المشترك حالة انهيار شامل أو واسع النطاق في المجتمع العراقي تداخلت فيه أطراف عديدة وعومل وأسباب معقدة،ومن الخطأ تبسيطه وتبرئة أي جهة منه، أو المغالات فيه وجعله سمة كلية ثابتة للروح العراقية!

إنه في تشخيص أولي : خلل تاريخي عميق الجذور،نتيجة لما أصاب النفس العراقية من عطب كبير،على مر عصور طويلة خاصة في فترة حكم البعث وقمعه وحروبه،وخراب هياكله السياسية والاجتماعية!

أن ما أحدثه هذا العنف من انهيار وتداع وهدم، أكبر من يحصر،أو تطالب جهة واحدة في معالجته أو الحد منه،كان وضعاً خاصاً ملتوياً ومشوهاً زادت في تفاقمه وغلوائه تأثيرات هائلة لقوى إقليمية ودولية ومن ثم محلية فائقة القسوة والوحشية!ولكن كل ذلك لا يعفي الإنسان العراقي من مسؤوليته إزاءه،خاصة إذا قابله باللامبالاة أو الخنوع أو الشماتة!

وفي هذا السياق نجد أن كثيراً من الساسة العراقيين وقادة الأحزاب والمسؤولين لم يواجهوه بنفس القدر من الشعور بالمسؤولية والحرص على الوطن والناس، لقد كانوا هم جزءاً من ذلك التشوه والانحراف،لم يعوا حالهم، ولم يعوا حال الناس والبلاد،انشغلوا بشكل مخزٍ في التدافع والعراك على مواقعهم في السلطة و مناصبهم ورواتبهم بينما الناس يذبحون أو يهجرون من بيوتهم وتتناثر أشلاؤهم في الشوارع،ويذهبون ضحايا بريئة للعبة سياسية بشعة لا يفقهون منها شيئاً !

لقد أضحى من البديهي،بل والمعاد والمكرر، الإشارة إلى دور إيران أو سوريا أو غيرها من دول الجوار أو الدول البعيدة،في إذكاء الفتن والخلافات القديمة والجديدة،إن ما هو أخطر وأهم البحث في أعماق الذات العراقية نفسها عما كان قد فسد فيها أو نخره الشر المتراكم عليها فجعلها مستعدة لأن تحتضن هذه الصراعات الدموية بدلاً من احتضان الحوار الفكري والسياسي مهما صار حامياً أو مزعجاً!

لذا ينبغي عدم الجنوح للأحلام العاطفية من أن سريرة العراقيين صافية مئة في المئة وإنها لن تعاود احترابها الدموي مرة أخرى،لا بد من مواجهة حقيقة أن التربة التي تقبلت هذا الخراب النفسي والعقلي ما تزال مفتوحة لبذور شر جديدة ماثلة ومن الممكن جرها إلى كوارث أخرى، إذا لم تنتقل بوعيها وأحوالها الاقتصادية والاجتماعية إلى ما هو أرقي من الواقع الحالي بكثير!

لا يكفي أن يعبر شعب ما محنه الكبرى،ومآسيه العظيمة،بل لا بد له أن يظهر وفي الواقع الحقيقي استفادته من دروس وعير هذه المحن والمآسي، وبالطبع إن هذا لا يتجلى في الخطب أو المواعظ أو القصائد والأغاني بل ينبغي أن يتجلى في منظومة ثقافية وتربوية عالية المستوى وفي حالات من النضج في السلوك والمواقف،والتحولات العميقة في الاتجاهات وقد ظهرت بعض ملامح ذلك في نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة !

لقد أعطت الانتخابات الأخيرة إضاءات هامة عن ابتعاد الناس عن القوائم الطائفية وحتى عن القوائم الدينية غير المستنيرة،وبدأت تفهم العلمانية على حقيقتها كطريقة آمنة لتحقيق أمور الدين والدنيا معاً، وبدأت تدرك أن من المحال أن تسود طائفة على أخرى مهما كان حجم تلك الطائفة أو تاريخها أو هالتها المذهبية !

لابد من النظرة المتساوية العادلة بين الطوائف والأديان،وإن تنظر كل واحدة للأخرى كند وكمساوٍ، ولا بد أن يأخذ الجميع حقهم في المواطنة كاملاً ومن درجة واحدة، حيث يمكن أن يقبل الإنسان أن يأخذ حصة أقل في المال أو الأرض ولكنه لن يقبل مطلقاً أن يأخذ حصة أقل في كرامته الإنسانية أو الوطنية!

ما عدا ذلك يمكن أن يحكم الناس باسم أكثريتهم السياسية، وإذا سارت الانتخابات والقرارت العليا وفق نهج ديمقراطي حقيقي فلا فرق أن يكون الحاكمون من مختلف الطوائف والقوميات، أو جاءت أكثريتهم من هذه الطائفة أو تلك، ما داموا قد جاءوا بروح الوطن، الواحد وسيحكمون بروح الوطن الواحد !

لقد أزهق العنف الطائفي أرواحاً كثيرة وهدر ثروات هائلة وحتى اليوم لا يستطيع أحد أن يقول إنه قد انتهى، بل أن أحداث الأسبوع الماضي الدامية تشير إلى محاولات لبعث أواره من جديد بسكب وقود جديدة على جمره المغطى بالرماد،وتحدثوا عن المصالحة كوصفة سحرية لإنهاء العنف الطائفي والسياسي كله !

صحيح أن الحلول السياسية هي أفضل وانجح الطرق لحل مشكلات البلدان التي تكتنفها صراعات حادة وطويلة الأمد،لكن هذه الحلول تكون عادة مع منظمات أو جماعات تمارس العمل المسلح (النظيف) كمقاتلة الجيش المحلي أو من يحميه من الجيش الأجنبي وفي أماكن بعيدة عن السكان أو مستقرات الحياة المدنية، ولديها مشروع سياسي واضح ومعقول وأساليب عمل تتسم بالمرونة والصدق.

لكن أولئك الذين يخطفون ويذبحون الناس الأبرياء ويفجرون الأحزمة الناسفة في الأسواق والمدارس وأبواب المساجد،ويصرون على إشعال فتيل الفتنة الطائفية من جديد لا يمكن أن يواجهوا سوى بالقوة العسكرية الضاربة فالناس تدرك وبحسها الإنساني البسيط أن من يمارس القتل وبهذه الأساليب الدنيئة والقذرة لا يمكن أن يكون نداً لأي جماعة يعارضها والأفضل نبذه والخلاص منه وبالعنف المشروع كدفاع عن النفس!

لذا فإن على من يعتقد إنه يمارس المقاومة المسلحة النظيفة والشريفة،ويريد عدم خلطها بالعنف الطائفي المدمر للجميع أن يلقي لثامه ويسفر عن وجهه ويدين كل هجوم مسلح يطال المدنيين والأبرياء،وساعة حدوثه،بل ويوقف أعماه المسلحة في المنطقة التي تهرع بها القوات المسلحة لإنقاذ الضحايا أو ملاحقة المجرمين،بهذا يميز نفسه عن الإرهابيين والقتلة ويجعل من السعي للتصالح معه عملية مشرفة،ونبيلة !

في مقدمة دروس العنف الطائفي اليوم إن التنازلات من أجل الوطن والناس هي التزامات متقابلة، ولا تقع على طرف واحد كان ولسنين ست مضت هو الضحية!

إبراهيم أحمد