يخبرنا التريخ أن عاملين اثنين فقط إذا اجتمعا في حاكم، مهما كان شريفا ونزيها وعادلا، كفيلان بإغرائه بالاستبداد، وبتحويله إلى طاغية مولع بالوحدانية والقوة والجبروت.


العامل الأول هو الضعف الشخصي الفطري لدى الحاكم إزاء الشهرة والثروة والسلطان، وفقر باطنه اللاواعي إلى الإحساس بالأمان.
أما العامل الثاني فهو البطانة التي يتوقف عليها إما لجم اندفاع الحاكم نحو الطغيان، أو ضخه بمزيد من شهوة التفرد بالقرار، وتمكين جنون العظمة من اقتحام فكره ومزاجه وسلوكه.


ومما يحزن أن أرض الرافدين، منذ أيام جلجامش الذي يعد أول طاغية في التاريخ جامح نحو الشهرة والمجد والقوة والخلود، كانت المنبت الدائم للطغاة المستبدين. فهي لم تتوقف عن إنجاب الحكام المهووسين بالقوة ممن كانوا يملأون الوادي بالدماء والدموع، وهم موقنون بأنهم في ذلك يطهرون الأرض من شياطينها، ويقيمون حدود العدل، وينفذون إرادة الآلهة، ويحفظون قدسها وبقاءها.
وعلى هذا الأساس لا يكون صدام حسين إلا نتاجا واحدا منها، إلا أنه الأكثر وضوحا وبريقا وشهرة، كما أنه لن يكون الأخير.
تقودنا هذه المقدمة إلى الحديث عن السيد نوري المالكي والمخاوف المشروعة من زحفه البطيء نحو الاستبداد والديكتاورية بثياب قوة الحكومة المركزية وسلطة دولة القانون.


ولا يملك المحايد الموضوعي غير أن يضع يده على قلبه وهو يتابع تصرفات المالكي وقراراته وتصريحاته، وتصرفات وقرارات وتصريحات أعوانه، وكلهم من فرسان جناحه في حزب الدعوة الذي هيمن على الحزب كله، مثلما هيمن جناح صدام حسين على حزب البعث وحوله إلى جهاز ملحق بأجهزة أمنه الشخصي، حتى أصبح، فيما بعد، أداته الدعائية لتلوين ديكتاتوريته بألوان العدل الإلهي، وإلباسها لبوس التفويض الشعبي الإجماعي الذي يمنحه شرعية الحكم بالمفرد، وتسيير دولته بقوة العقيدة الواحدة التي لا تضيق بغيرها فقط بل تضعها في خانة خيانة الوطن وقدسية القائد الضرورة.


يقول أحد أخبار السيد المالكي إنه أمر بتجميد عمل فقرتين من فقرات الدستور كانتا تمنعان السلطات التنفيذية من محاسبة المسيئين من كبار المسؤولين في حكومته. ورغم أن الهدف المعلن لهذا التجميد يوحي بالرغبة في تمكين العدالة من أن تطال الكبير قبل الصغير في الحكومة إلا أنها في الوقت نفسه بداية مقلقة ومخيفة لاحتمال ولادة الروح الطاغية لدى السيد المالكي. فحالة استصغار الدستور ومد المقص إلى مواده وفقراته بالحذف والتعديل والتجميد، دون اللجوء إلى الطرق الدستورية، قد تكون بداية العد التنازلي لولادة الديكتاتور، رغم سطحية السلطة التشريعية (البرلمان) وتركيبتها التحاصصية الرجراجة والفضفاضة التي لا تشكل حائلا أكيدا وحازما وأمينا دون تمرير قرارات فردية محضة وإلباسها لبوس الصالح العام، كما تفعل دائما فيما يختص برواتب النواب ومستحقاتهم المالية الباهضة.


فاعتبار الدستور والقانون مجرد ورقة يستطيع الحاكم أن يكتب غيرها، متى شاء وكيفما شاء، أمر يذكرنا بنظرية الراحل صدام حسين عن ورقة القانون.


الخبرالآخر من الأخبار التي تضاعف حرارة خوفنا من احتمال إطلالة قرون الديكتاتورية بثياب جديدة، هو تصريح أدلى به السيد سامي العسكري كبير مستشاري رئيس الوزراء أكد فيه أن الرئيس المالكي لا ينوي محاسبة الوزراء المتهمين بالفساد. ولم ينس السيد العسكري، من تلقاء نفسه ودون الحاجة إلى قضاء عادل مستقل يقول فيهم كلمته العادلة، أن ينفي تهمة الفساد ويصفها بأنها مجرد إشاعات وتلفيقات الخصوم.


إذن فتجميد الفقرتين من الدستور لم يكن بهدف إلغاء الحماية التي توفرهما للمفسدين، بل إن وراءه أهدافا أخرى مجهولة.
وهنا نسترجع الأحاديث المتكررة للسيد المالكي حول ضرورة تقوية حكومة المركز وتعديل الدستور الذي يقول إنه أنجز بعجالة، وآخرها دعوته إلى حكم الأغلبية، مع ما تعنيه من صرف نظر عن المصالحة وتجاوز للمحاصصة. وهذا نفسه ما يحدث دائما في بداية ولادة حكم العقيدة الواحدة والحزب الواحد والحاكم الفرد، على طول امتداد تاريخ الديكتاتوريات في وادي الرافدين.


ورغم أن جماهير العراق الملايينية، منذ سقوط دولة حزب صدام حسين وإلى اليوم، لم تتمكن من أن تقول كلمتها الفصل في شرعية الحكام الجدد في ظروف طبيعية خالية من ضغوطات مرحلية خانقة لم تمنح الناخبين سوى خيارين كلاهما مر، دولة القتل على الهوية وفق مصالح الأحزاب ومليشياتها العابثة، أو دولة القانون التي لوح بها السيد المالكي. وبريق الأغلبية الذي راح يعشي اليوم عيني السيد المالكي ويغريه بالتفرد بالسلطة هو نفسه البريق الذي أغرى سلفه الراحل بفرض سلطة العقيدة الواحدة وجره إلى ديكتاتورية الحاكم الفرد. والذي أنتج الغالبية للسيد المالكي في الانتخابات الأخيرة لا يختلف كثيرا عما أنتج غالبية الذين صوتوا للسلف الراحل، فكلاهما نتاج ظروف استثنائية مفروضة يتغير بمجرد تبدل تلك الظروف أو زوالها. والذين صوتوا للسيد المالكي كانوا يرفضون ظلم المتحاصصين الآخرين وعبث مليشياتهم بالأمن وبالمال العام، مثلما كان الذين صوتوا بنسبة تسعة وتسعين بالمئة لصدام كانوا محكومين بقانون شريعة الغاب وديمقراطية المقابر الجماعية.


ويخبرنا التاريخ أيضا أن جميع الديكتاتوريات في وادي الرافدين كانت تولد بنفس الطريقة، مع اختلاف بسيط في التفاصيل. وفي كل مرة كان التاريخ يعيد نفسه بالحديث عن حاجة الوطن إلى القوة العادلة. وفي أكثر الحالات أيضا لم يكن الطغاة راغبين حقا في الطغيان وباحثين عنه، بقدر ما كانت العوامل الموضوعية المساعدة تتظافر لتخدع الحاكم بأنه الأشجع والأفهم والأذكى والأشرف والأكثر وطنية من جميع مواطنيه. وشيئا فشيئا كان يتحول هو نفسه إلى قدس من أقداس الوطن، ويصبح المساس بسلطانه مساسا بالعدالة وخروجا على إرادة الآلهة وقوانينها.


وكثيرا ما كانت البطانة تفعل فعلها في تلقيح الحاكم بجراثيم الديكتاتورية. وفي الأغلب كان أفراد الدائرة الضيقة المحيطة بالحاكم، من حزبه أو عشيرته أو مدينته، يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم يمنعون عنه أي هواء إلا هواءهم، وأي زاد إلا ما يجيدون هم طبخه على نيرانهم وحدهم. إلى أن يجعلوه لا يرى إلا ما يريدونه هم أن يرى، ولا يسمع إلا ما يجيزون له هم أن يسمع.
بصراحة لم أشاهد يوما تصريحا ناريا لسامي العسكري أو عباس البياتي أو حيدر العبادي أو صادق الركابي إلا هجمت على ذاكرتي صور عزت الدوري وعلي حسن المجيد وعبد حمود وطه ياسين رمضان.


وأخشى ما أخشاه أن يزيد تطنيش السيد المالكي عن احتكار بطانته لأذنيه وعينيه ولسانه وقوات أمنه وأموال دولته، فنخسر وعوده لنا بدولة القانون. وأول الغيث، دائما، قطر ثم ينهمر، مع الأسف المرير.

إبراهيم الزبيدي