ملاحظة هامة: هذا المقال كتب أثناء فترة سجن السيد كيلو، واحتراماً لوجوده في السجن أحجمنا عن نشره، في حينه، ولطالما زالت الأسباب اليوم، فلا ضير من إيصاله للرأي العام، مع تعديلات طفيفة، وطبعاً، دائماً، مع الموضوعية والحياد والواقعية السياسية المطلقة والرؤى الصائبة التي أثبتت نجاعتها، ومع البعد الكامل عن التجارة بالمبادئ والشعارات وعدم الانجراف، والانجرار وراء العواطف والأوهام والخطاب التضليلي الحماسي المخادع الكذاب وأي شكل من المحاباة.
ما إن انتهت مدة محكومية السيد ميشيل كيلو، بعد أن كان الرجل شتم، وسخر، وحط من قدر مكون سوري بعينه بأقذع الألفاظ الممكنة والمتوفرة في قاموسه، في ذلك الوقت، والذي كان من الممكن أن يؤدي إلى عواقب مجتمعية وخيمة، في غير تلك الظروف، لولا الوعي الكبير، والانفتاح، ودرجة التسامح العالية التي تمتلكها المكونات السورية جميعاً، والتي لم تنطل عليها إحبولة جورج بوش ونعراته التي أيقظها في العراق وحاول تصديرها إلى سورية عبر موجة الإعلانات والبيانات الشهيرة، التي لم تكن، وبوجوهها الأخرى، سوى الذراع الثقافية والفكرية والإعلامية لحرب بوش العدوانية وتهديداته السافرة والغليظة ضد سوريا، وشعبها وأمنها واستقرارها، ومحاولة الولوج إليها عبر ذاك الرهط ممن يسمون بالمثقفين، وتحت يافطات الديمقراطية والتغيير إياها، التي ألفناها وعرفنا مضامينها الحقيقية وخبرناها من quot;أساتذتناquot; الأمريكان، أنفسهم، والتي يمارسونها بكل حرفية وإخلاص وتفان، في أبي غريب، وغوانتانامو، والسجون الطائرة،والتعذيب، quot;باعتراف تشيني علناً بالأمسquot;، ودعم أحط الاستبداديات القرووسطية البائدة عبر العالم والتحالف الوثيق والعضوي معها وإقامة الكيانات الطائفية التي لا هوية وطنية لها...إلخ، نقول ما إن انتهت مدة محكومية الرجل حتى سعى البعض للعب نفس تلك اللعبة القديمة، معه، ودون الاستفادة من دروس بوش، وأحد تجلياته هو البحث عن quot;جنازة ليشبع البعض فيها اللطمquot;، وتوهم بطولات ومواقف فارغة وزائفة.
وبالعودة إلى نعوات سورية، فمن قرأ مقال الأستاذ كيلو، وأنا واحد منهم، لا بد أنه أصيب بصدمة بالغة، وصعق لدرجة التجني التي وصلت بالرجل إلى إطلاق تلك النعوت والصفات والافتراءات الهوجاء الخالية من أي تحفظ وحياء ضد مكون سوري بارز. ذاك التجني الذي يحمل طابعاً سياسياً بحتاً، ولا يمكن عزله، أبداً، عن مجمل الأوضاع والظروف السائدة في حينه، بتوهم أن تلك المكونات مستهدفة وأصبحت في وضع إقليمي حرج مع طرح البدائل السلفية الأخرى التي برزت على الساح وهلل لها السيد الكاتب نفسه في غير مقال سابق له. ولا أدري إن كانت مجموعة ما، قد دفعت بالسيد كيلو لتبني تلك المواقف الغريبة عنه وعن فكره، أم أنه قام بذلك، من تلقاء نفسه؟ حيث أن كتاباً سوريين معارضين معروفين بوقوفهم على يمين السيد كيلو لم يتجرؤوا يوماً على طرح وقول ما قاله في ذاك المقال المذكور. ومن الجدير ذكره، أنه لو قال السيد كيلو هذا الكلام وأطلق تلك النعوت على باكستاني، أو سيخي، أو هندي، وبنغالي، أو أية أثنية وطائفة أخرى في قلب لندن وباريس وواشنطن، لكان باع كل ما فوقه وتحته ليدفعها تعويضات للمتضررين من أقواله، ناهيك عن عقوبة السجن القانونية التي كان سيواجهها والتي تظهر quot;العقوبة السورية رؤوفة ورحيمة جداًquot; أمامها، ولاشيء، هذا إذا كان قد سلم أصلاً من احتجاجات وغضب المشمولين بإهاناته الواضحة التي لا تقبل اللبس وهللت لها جماعات معروفة وبعينها في حينه. من يقبل أن يقال عنه ما قاله الأستاذ كيلو في المقال المشؤوم؟ لا أدري ما هي البطولة التي قام بها الرجل، وهل مخالفة القوانين والتعرض للسوريين، والتطاول عليهم، بذاك الشكل يعني شيئاً لأولئك المهللين، اللهم باستثناء أنهم يؤيدون كل ما جاء في افتراءات السيد كيلو في المقال المذكور؟ أم أن الاعتذار من المتضررين من السوريين، ومن كل وطني سوري، هو أول ما ينبغي فعله من نفس هؤلاء المهللين؟
وبالنسبة لإعلان بيروت- دمشق الذي وقعه السيد كيلو مع رهط آخر من الآذاريين اللبنانيين امعروفي الولاء والاتجاهات والممارسات، فأقل ما يمكن القول فيه، من الذي فوض السيد كيلو وغيره للتحدث باسم الشعب السوري، وبالنيابة عنه، والتكلم في قضايا تمس الأمن الوطني السوري العليا، وعلى درجة كبيرة من الخطورة والحساسية لولا أنه ركب موجة quot;همروجةquot; التغيير البوسي؟ وهل هو وغيره، من هؤلاء الـ134 quot;مثقفاًquot;،( مع التحفظ طبعاً)، في موقع يسمح لهم بفرض رؤاهم ووجهات نظرهم على أكثر من عشرين مليون سوري ومن دون استشارتهم؟ ولماذا علينا أخذ ما يقوله هذا quot;المثقفquot; أو ذاك، في باب المقدس الذي لا يـُطعن ولا يـُمس، ولا يـُناقش؟ ومن طلب منه، ومن غيره، أصلاً، أن يفعل ذلك؟ ليقولوا لنا ويعطونا أرقاماً وبيانات وتوكيلات قانونية بهذا الشأن، وعندها لكل حادث حديث؟ أعتقد أن الجواب كغيره صفر ولاشيء والأمر كله وثيق الصلة بمشروع جورج بوش الشرق أوسطي الذي كان يبحث عن ذرائع للتدخل، ولا يخرج هذا الإعلان وغيره، وإعلاناتهم كلها، عن هذا الباب. وإذا كانت الأمور على هذا الشاكلة في أي بلد من بلدان العالم، أي أن يقوم مجموعة من الأشخاص الذين لا صفة رسمية ولا شعبية لهم ومن دون تفويض من أحد، بالتدخل في سياسات البلد وأمنه القومي، والتحدث باسم شعبهم، والطلب المزاجي من بلدهم فعل هذا وترك ذاك، وفتح سفارة هنا، وإلغاء سفارة هناك، أو ما شابه، فأعتقد عندها، كما غيري، بأن لا شيء من هذا له علاقة بمفهوم الوطن والمواطنة والسيادة والأمن الوطني، وأنه لا يوجد نظام في العالم يحترم نفسه يقبل بهذا.
واليوم هناك نغمة، وتيار، على هامش إطلاق سراح الرجل، يحاول أن ينفخ في صدره ورأسه مرة أخرى لا لشيء، وغاية إلا لتوريطه مجدداً في قضايا هي أكبر منه ومنهم، وتتعلق بمحاور، ومصالح، وصراعات متجذرة، وسياسات إقليمية ودولية معقدة جدا، وبتجاذبات قائمة وشائكة في المنطقة، تتطلب مقاربتها فرقاً من المفاوضين والدبلوماسيين ومجموعات عمل متكاملة لحلحلة بعض من quot;شربكاتهاquot;، إضافة لخفايا أخرى، وعملية استقطاب هائلة لا تعلم أكبر quot;الأدمغة الاستراتيجيةquot;، حتى اليوم، على أي بر سترسو في ظل الترتيبات المعقدة التي تجري في الخفاء على صعيد غير ملف حساس. وأعتقد أن من أوصل تلك الإشارات الخاطئة المضللة للسيد كيلو وغيره، عن قرب سقوط النظام ونهايته، وتحولات جذرية في عموم الإقليم، ما أدى لتبني سلسلة من المواقف المتوائمة مع تلك المعطيات الكاذبة من قبل البعض، هو من يتحمل، ولوحده، جزءً كبيراً مما حاق بكثيرين من عذابات وآلام واتهامات وسلوكيات وصلت بالبعض إلى الوقوف في صف أعداء الوطن السوري والتربص به مع المتربصين.
السيد كيلو، وعذراً، ليس بطلاً، بأي معيار، ومقياس وميزان. وهو كان قد ورط مع من تورط، وربما فقد البوصلة في مرحلة ما وأخذ بما أخذ به غيره من أضاليل وأوهام. وصدقاً، لو نجحت خطة بوش لكان السيد كيلو من أولى ضحاياها. ولن ندخل في ثنائيات الخير والشر والخطأ والصواب، فالواقع والحقائق هي التي تفرض نفسها في النهاية على الجميع. ولعل البعض سمع وقرأ عن عملية quot;الترانسفيرquot; والتهجير والتصفيات الكبرى تتعرض لها مكونات بعينها، في أماكن مجاورة وقريبة جداً من كيلو ومحبيه، وكان مشروع بوش يريد إشاعة نفس فوضاه الخلاقة هذه في غير مكان. فإذا كان محبو السيد كيلو يريدون له الخير، فعلاً، فإنه لمن الأجدى، والأصلح لهم، وله، عدم النفخ فيه من جديد، لا لشيء، إلا لأننا نريد له الخير، فعلاً، ولا نتمنى أن يتم توريطه، وتوريطهم، من جديد، بقضايا ومواقف لا طاقة لهم بها، وهي أكبر منه، ومنهم، بكثير، وبكل تأكيد.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات