يزداد الإقبال بشكلٍ ملحوظ على تعلّم اللغة العربية من قبل غير الناطقين بها في أنحاء العالم، بينما تتعرض هي في عقر دارها إلى شتى أنواع الإهمال بل والهدم والتشويه والاستخفاف بها والتعالي عليها.
فبُعيد صدور تقرير منظمة اليونسكو والذي أفاد بأن اللغة العربية من بين اللغات التي ستنقرض في القرن الحالي،
توالت التصريحات من أبناء هذه اللغة، وكانوا بين شامت يتمنى انقراضها اليوم قبل الغد بدوافع شعوبية غير خافية على ذي لب، وبين مشكك في مصداقية التقرير بدعوى أن اللغة العربية لغة مقدسة أنزل الله بها كتابه الكريم الذي تعهد بحفظه وبالتالي بحفظها ذلك لأن القرآن بها أصبح معجزاً، وبجذورها واشتقاقاتها وتراكيبها وقدرتها على استيعاب أغراضه الدنيوية والأُخروية تحدى العالمين. وثمة فريق ثالث لا لهؤلاء ولا لهؤلاء وهو للأسف يمثل الأعم الأغلب من أبناء لغة الضاد، أعني به السواد الأعظم من الشعوب العربية اللامبالي والغارق باستهلاك المنتج الغربي بغثه وسمينه دون وازع من كرامة أو رادع من دين.
ولهذا الفريق أتوجه بمقالتي هذه وأعرض تجربتي المتواضعة لعلها تسهم ولو بقدر بسيط في إذكاء روح العروبة والغيرة عليها، فاليوم بات واضحاً أن الأمة ليست مهددة بفقدان لغتها فحسب بل بفقدان هويتها الحضارية لأن اللغة هي الهوية الحضارية التي إذا ما عززتها الأمة أصبحت قادرة على الصمود في عصر تتصارع فيه الحضارات، وفي عالم يسود فيه منطق العولمة الذي تمخض عن حقيقة أن البقاء للأقوى وللأقوى فقط وليس للأفضل أو الأصح.
لا أريد أن أناقش هنا أسباب ضعف اللغة العربية التي دعت خبراء منظمة اليونسكو إلى إدراجها ضمن قائمة اللغات الآيلة إلى الانقراض، كما وإني لست بصدد وضع الحلول واقتراح سبل الخروج من هذه المحنة فهناك من تصدى مشكوراً لهذه المواضيع من أبناء لغة الضاد المخلصين لها والساهرين على خدمتها وحمايتها. كل الذي أريد أن أقوله هنا هو أن يعرف أبناء اللغة العربية أن القول العربي المشهور quot;لاكرامة لنبي في وطنهquot; ينطبق تماماً على حالهم وحال لغتهم العظيمة التي زهدوا بها ولم يولوها حقها بينما اهتم بها الآخرون وأحبوها وأكرموها.
تُدرَّس اللغة العربية في العديد من دول العالم (في أمريكا وكندا وأستراليا وغيرها) وبمستويات وأنماط مختلفة. تُدرَّس في الجامعات كجزء من متطلبات درجة البكلوريوس والماجستير والدكتوراه، وفي المدارس الثانوية كجزء من متطلبات إحراز شهادة الثانوية العامة، وفي المدارس الإبتدائية الإسلامية المنتشرة في جميع دول العالم والتي توفر للتلاميذ أساسيات اللغة العربية وتعاليم الدين الإسلامي. كما وتُدرّس في المدارس الخاصة وفي المساجد بل وحتى في البيوت على شكل دروس خصوصية يعطيها متخصّصون ويدفع أجورها عاشقوا اللغة العربية بالعملة الصعبة.
وقد قُيِّض لي كرئيس لقسم اللغة العربية لغير الناطقين بها في الجامعة الوطنية الأسترالية أن أرى إقبال الطلبة المنقطع النظير من مختلف الأعمار والأجناس على تعلّم اللغة العربية. والمفرح أن ذلك الإقبال يتسم بالجدية والصبر والمثابرة التي لم أر أياً منها في أبناء اللغة أنفسهم الذين يساقون إلى دروس لغتهم كمن يُساق إلى حتفه، كسالى متهاونين تعوزهم الرغبة وتنقصهم العزيمة.
وتُدرَّس اللغة العربية في هذه الجامعة للراغبين في تعلمها من مختلف التخصّصات، علوم سياسية وعلاقات دولية، آداب، لسانيات، دراسات آسيوية وغيرها. وتُدرس على مراحل متدرجة من الابتدائية مروراً بالمتوسطة وحتى المراحل المتقدمة، يُعطى الطالب فيها أساسيات النحو العربي وكمّاً كافياً من المفردات التي تمكنه من التعبير عن نفسه والتخاطب بالعربية في مناسبات متعددة وتحت ظروف مختلفة. كما وتدرّس مادة الأدب العربي بعصوره المختلفة بدءاً من عصر ماقبل الإسلام فعصر صدر الإسلام فالعصر الأموي فالعصر العباسي فالعصر الأندلسي وصولاً إلى العصر الحديث بقاماته المتطاولة من أمثال نجيب محفوظ ومحمود درويش ومحمد مهدي الجواهري وأدونيس.
واللافت للنظرأن الدوافع لدراسة اللغة العربية بين دارسيها من غير الناطقين بها متعددة، فهي تتراوح بين دوافع ثقافية تستند إلى الرغبة في الانفتاح على الحضارة العربية والإسلامية وفهمها من مصادرها الأم، ودوافع اقتصادية قائمة على أساس تعلّم اللغة العربية على أمل اقتناص فرص عمل مغرية في دول البترول ومصادر الطاقة، ودوافع دينية نابعة من رغبة الطلاب المتحدرين من خلفيات إسلامية غير عربية في تعلّم لغة القرآن الكريم والتعبّد بها.
وثمة دوافع أخرى أملاها الفضول والرغبة في اشباع هاجس حب الاستطلاع لمعرفة لغة أولئك الناس الذين يتصدرون نشرات الأخبار في تطرفهم ودمويتهم وحروبهم الأهلية وصراعاتهم العرقية والطائفية. ولعل هذا الفضول وتلك الرغبة من أهم العوامل التي أدت للإقبال على تعلّم اللغة العربية في أنحاء مختلفة من العالم. ويالها من كوميديا سوداء، فلخيبات العرب وتطرفهم وصراعاتهم جانب quot;إيجابيquot; عاد بالنفع على لغتهم العليلة من دون قصد منهم طبعاً فصار الناس يقبلون عليها ويتعلمونها!!
ديفيد وليم وهو أحد طلابي في الجامعة الوطنية الأسترالية، يبلغ من العمر ستاً وأربعين سنة أستاذ في الفيزياء بمرتبة بروفيسور، يدرس اللغة العربية بإقبال وجدية شديدين منذ سنة ونصف. لم يكتفِ بالحصص المخصصة للغة العربية في الجامعة بل شرع بدراستها على يد معلمة من خارج الجامعة وعلى نفقته الخاصة ليختصر زمن تعلّمها وليتمكن من استيعابها بشكل أفضل. سألته ذات مرة عن سبب هذا الإصرار العجيب وهو ليس مضطراً لتعلمها في هذا العمر وقد تخصص بالفيزياء ووصل في تخصُّصه أعلى المراتب، فقال: أريد أن أتعلّم اللغة العربية لأفهم ما الذي يدور في تلك البقعة الساخنة من العالم.
فرانتشسكا ميرلان إحدى طالباتي في الجامعة، تبلغ من العمر مراحل متقدمة وتعمل أستاذة في علم الإنسان (الأنثروبولوجي) بمرتبة بروفيسور، تدرس اللغة العربية بولع كبير وباصرار رهيب مكنها من التحدّث بالعربية بشكل ممتاز، وهي الآن عاكفة على كتابة دراسة بإشرافي وباللغة العربية لتسلّط الضوء فيها على أبعاد الخطاب الديني في مصر وذلك من خلال تحليلها ومناقشتها لخطب ثلاثة من كبار علماء مصر المحدثين (الشيخ محمد متولي الشعراوي و الشيخ محمد سيد طنطاوي و الشيخ علي جمعة).
جون قس مسيحي مترهبن في عقده الخامس، زار لبنان وأعجب بأفكار المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله فعاد إلى أستراليا وقرر أن يدرس اللغة العربية ليقرأ أفكار السيد فضل الله ويفهمها بلغتها التي كتبت فيها، وليكتب رسالته في الماجستير حول آراء السيد محمد حسين فضل الله وخاصة خطابه المتسامح وانفتاحه على بقية المذاهب في إطار الدين الإسلامي وعلى بقية الأديان خارج إطار الدين الإسلامي.
مارغريت روب شاهدت لوحات لخططاطين عرب فدهشت بروعتها وأعجبها جمال الخط العربي أيما إعجاب فقررت أن تدرس اللغة العربية لتتمكن من فك رموز تلك التحف الفنية وتذوقها.
ناتالي اسبينوزا فتاة في العشرين من عمرها أعجبها الرقص الشرقي فدخلت معهداً لتتعلمه، ادركت أن متعتها لا تكتمل إلا بفهم معاني كلمات الأغاني التي ترقص على موسيقاها فقررت الالتحاق بالجامعة وتعلّم اللغة العربية.
طلابي هؤلاء أسسوا لهم نادياً في الجامعة أسموه نادي اللغة العربية يضم في عضويته إلى جانب طلاب صفوف اللغة العربية أناساً آخرين من متكلمي اللغة العربية ومن محبيها. يحرص أعضاء هذا النادي، وهم بالمئات، على إجراء اللقاءات والتجمعات والقيام بالفعاليات ومشاهدة الأفلام العربية وتناول الأطباق العربية، كما ويصرون على التخاطب باللغة العربية فيما بينهم حرصاً منهم على ممارستها آملين بالوصول إلى مستوى متقدم في إتقانها.
هذه فقط عينات من مئات بل آلاف الطلاب العاكفين على دراسة لغة الضاد، الذين ولأسباب مختلفة وجدوا أنفسهم من عشاقها ومن الحريصين على صيانتها ودوامها. وهنا يطرح السؤال المنطقي نفسه: ألا يندى جبين أبناء اللغة العربية، حكومات وشعوباً، خجلاً وهم يرون هؤلاء الأغراب أكثر غيرة منهم على لغتهم؟ ألا يدعوهم هذا إلى وقفة جادة للعمل على تحسين الواقع المأساوي الذي آلت إليه لغة الضاد؟
الدكتور علي يونس الدهش
الجامعة الوطنية الأسترالية
كانبيرا ndash; أستراليا
التعليقات