مع عملية الإطباق العسكري المحكم التي قامت بها القوات الحكومية في سريلانكا ضد معقل متمردي نمور التاميل، والإجهاز على آخر فرد من المتمردين الذي عنى، أيضاً، إجهازاً رمزياً على حلمهم بإقامة وطن لهذه الإثنية في الجيب السريلانكي البعيد، ومع الحديث عن مجازر جماعية ارتكبت وأعمال وحشية أخرى مورست أثناء الانقضاض على الفصيل المتمرد، وقد تحدثت التقارير الواردة من ميادين القتال، في واحدة من أكثر بؤر العام فقراً وبؤساً وحرماناً، عن عملية تصفية خسيسة وبشعة حدثت لفلول التاميل الذين تعرضوا لإبادة جماعية وإطلاق نار عن كثب بعد أن عـُرض عليهم الاستسلام، وتم التخلص فيها من زعيمهم برابهاراكان وعرض جثته في التلفزيون الرسمي لاحقاً، لا يحضر المرء سوى إجراء تلك المقارنات المرهقة التي لا بد منها، واستذكار عملية الغزو التي تعرضت لها الكويت من قبل القوات القومية الشقيقة للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في مطلع أغسطس/ آب من العام 1990، وكيف دبـّت النخوة، يومذاك، في أوصال المجتمع الدولي quot;الشهمquot; جداَ لإنقاذ البلد الخليجي الصغير، وتحريره من بين براثن وفك الشقيق العروبي. فهل كان العالم سيواجه هذه الحرب المدمرة اليوم، بنفس هذا الصمت، لو كان لدى هؤلاء التاميل الفقراء شيئاً من نفط، أو موارد طبيعية أخرى، يمكن أن تحرك الغرائز الإمبريالية النهمة، وأخلاقياتها الفاسقة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أطفال، ونساء، وشيوخ، راحوا بالمجان، وضحية لهذا الصراع العبثي الدامي والقاتل والذي استمر لفترة ناهزت على الربع قرن حتى الآن؟ وكما هبت نفس جحافل الدبلوماسية الصامتة وأذرعها القانونية لنصرة الدارفوريين، فيما رائحة النفط المركزة تفوح في كل مكان في الفضاء السوداني الواسع الأثير.

ومع تشابه كبير في الأحداث التي جرت بين الأمس واليوم، هنا، وهناك، ورغم تباعد المسافات، وتغير في بعض المعطيات الإستراتيجية، مع الانهيار والغياب الكامل للمنظومة السوفياتية، فلا يجد المرء بداً من التساؤل عن السر وراء هذا الصمت الدولي المريع الذي لم يتحرك قيد أنملة لوقف المذبحة، باستثناء تلك النداءات، والتصريحات الخجولة الخافتة والفارغة للمسؤولين الأممين، والتي صدرت بين فينات وأخرى، والتي لم تتجاوز أصداؤها، ربما، قاعة المؤتمرات الصحفية في المبنى الدولي في نيويورك، حيث مقر المنظمة الدولة وأمينها العام وزير الخارجية الكوري الجنوبي السابق بان كي quot;القمرquot; تعريباً للقبه الميمون quot;مونquot;.

ولم تقف المأساة عند ذاك البعد العسكري للصراع، فاليوم، وبالرغم من كل ما جرى، هناك كارثة إنسانية، وأخلاقية وعنصرية، إذ تجري عملية عزل، وفصل عنصري، وتجميع للاجئين الفارين من جحيم الكارثة الإنسانية في معسكرات اعتقال Concentration Camps لا تشبه سوى معسكرات الاعتقال النازية التي كانت موجودة إبان الحقبة الألترا- فاشية الهتلرية القومية البائدة، بحيث يمكن الحديث والقول عن Mini-Holocaust محرقة صغيرة، تحدث اليوم في الجيب السريلانكي المشاغب، يقال فيها بأن اللاجئين لن يتمكنوا من مغادرة معسكراتهم هذه قبل سنتين من الآن.

مرة أخرى، تؤكد هذه الحرب الأخيرة، بفصولها المفجعة المتتالية، بدءً من العمليات الانتحارية شبه اليومية التي كان ينفذها مقاتلو نمور التاميل Tamil Tigers، مروراً بتفاعلاتها العسكرية الكارثية المدمرة، ووصولاً إلى الأزمة الإنسانية التي نشبت على هامشها، على شيء واحد، ألا وهو لا أخلاقية التعاطي الدولي المتباين مع مشاكل مختلفة تعتمل على سطح هذا الكوكب، وتظهر ازدواجية مطلقة في معايير التدخل والإنقاذ بحيث يتحتم وجود مرابح ومكاسب ما، واعتبارات جلها لا إنساني ولا أخلاقي، جرّاء، ووراء أية عملية إنقاذ، ولن يكون التدخل بالمجان، ومن دون عائد استراتيجي أو مادي، وهكذا لوجه الله، أو ولوجه المواثيق الدولية، إياها، وفصلها السابع الشهير الذي يـُلوّح به في وجه بعض الدول المارقة الـ Rouge states، والخارجة عن الطور الأمريكي، تطبيقاً لعدالة موؤودة، وتمثل في النهاية انتقائية التعامل بين دولة غنية، وأخرى، فقيرة، وجيب استراتيجي، وآخر منسي لا أحد يعبأ، أو يعول به كما حصل في جيب الإثنية التاميلية الذي يقبع في مكان قصي وناء لا فائدة تجنى من وراء صرف دولار أممي واحد عليه، وليذهب مع هذا الانكشاف الأممي النفاقي الصاعق الأخير، إلى الجحيم كل ذاك الخطاب المزيف عن حقوق الإنسان، واحترام مواثيق دولية، وحديث آخر فضفاض ومخادع عن تطبيق القانون الدولي، في بؤر الصراع الكوني.

إنها حروب الفقراء المنسية، التي لا تعني شيئاً للعدالة الدولية.

نضال نعيسة

[email protected]