ثمة ظواهر و مؤثرات واضحة إنعكست بشدة في الساحة السياسية و الشعبية العراقية بعد الإحتلال الأمريكي عام 2003 الذي أتاح للمعارضة العراقية السابقة إستلام السلطة على طبق من ذهب، لتكون السلطة البديلة لسلطة نظام صدام حسين التي تهاوت في مهاوي عجزها و فشلها و دكتاتوريتها الخشبية و طبيعتها الفردية التي كسحت بالكامل و أعاقت بالمطلق للأسف العراق بأسره عن الإنفتاح عن العالم وحيث بقي الشعب محصورا ضمن أسوار النظام و في ظل حالة حصار دولي فظيعة و لا نظير لفرادتها في عالمنا المعاصر، لقد عوقبت الملايين من العراقيين بجريرة أفعال و جرائم و موبقات نظام سياسي كان في جميع خطواته يد الغرب الضاربة و أداته الكاسحة في فرض و تقرير العديد من الملفات الإقليمية!

و لكن بما أن ملفات السياسة الدولية لا ترحم المغفلين أبدا وهي ملفات حافلة بصور النفاق و الإنتهازية الفجة و المصلحية المريضة فقد إنقلب القوم على النظام الذي رعوه و حموه و غطوا إنتهاكاته و عتموا على مصائبه لعقود و عقود ثم عادوا من بوابة أخرى لا لينتقموا منه فرديا و يصفوا حساباتهم معه بشكل مباشر بل أشركوا كل الشعب العراقي في جميع صفحات ذلك الإنتقام و تصفية متعلقاته، فكان الحصار الدولي القاسي الذي إرتد وبالا على العراقيين عبر مغادرتهم لخانة التحضر و العودة ليس لخمسين عاما للخلف كما وعد ( الحلفاء )!!

بل لخمسة قرون أخرى، و لتنطلق و تزدهر دعوات الإنغلاق و التعصب و التطرف الديني و المذهبي و العشائري في الشارع العراقي الذي كان منذ أربعينيات القرن الماضي مثالا للعصرنة و التمدن و البحث عن الأفكار و التيارات الجديدة في مختلف مناحي الحياة، فالشعر الحر قد إنطلق من العراق تحديدا و أضاف للأدب العربي إيقاعات و ملامح و صور متغيرة رائعة تجاوزت بكثير كل المحاولات الأدبية الخجولة السابقة وعلى يد العملاقين الراحلين السيدة نازك الملائكة و الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، كما أن كل أفكار التحرر السياسي و الحضاري و الفكري قد إزدهرت في العراق الذي كان ذات يوم قبلة العرب كل العرب لا لتفجير أنفسهم في أسواقه و مساجده و حسينياته بل لنهل العلم و التعلم و تبديد جهل القرون الموروث، بغداد و البصرة و الموصل كانت حواضر الثقافة و الأدب و الإبداع و الإبتكار و الترحيب بكل ما هو جديد، فالحركات اليسارية إنطلقت من العراق، و الحركات القومية العربية كانت ساحتها العراق، و حملات التنوير و التجدد الفكري الديني الإسلامي كان مهدها العراق، وحرية الأديان و العقائد و المذاهب من يهودية و مسيحية و سنية و شيعية وصابئية و إيزيدية و غيرها كانت تطرز خارطة العراق و يفتخر أهل العراق بالتسامح و المودة و مساحات الحب و الإحترام و القبول بين مختلف الفرقاء، كان السني العراقي يزور مراقد أهل البيت الكرام عليهم السلام و كانت دموع أهل السنة تذرف في كل عاشوراء على مصيبة سيدنا الحسين و أهل بيته الأطهار فأولئك لم يكونوا أبدا مادة للتنازع الطائفي المريض بل كانوا قيمة إنسانية و إسلامية عليا، كان الحراك و الصراع السياسي في العراق منشأه إجتماعي محض أي بهدف تحسين ظروف الشعب العراقي قبل أن تنقلب الأوضاع رأسا على عقب بعد موجة الإنقلابات العسكرية و خضوع السلطة و الدولة لأعراف العشيرة ووصول المتخلفين و المتريفين و البدائيين لسدة السلطة وقيادة المجتمع ليفتح صندوق العفاريت على مصراعيه و ليفرز المجتمع اسوأ عصاراته و خلاصاته بعد أن حولت فاشية الحزب الواحد و الرأي الواحد و العشيرة الواحدة و القائد الواحد العراق بأسره لهشيم متفتت، فالفاشية الصدامية عندما أفلست لم تجد بديلا عن اللجوء لناصية الدين و المذهب لتطوعه في خدمة مشاريعها الفاشلة أصلا و المفتقدة للإبداع و التميز و التجديد، فكانت ما يسمى بالحملة الإيمانية الكبرى عام 1994 بعد وصول نظام صدام حسين لنفق مسدود في ظل حصار دولي كان يبدو أبديا و سلطة غاشمة متجبرة حقود لم تكن تأبه بأي شيء سوى بسلامة ( الفوهرر ) و عائلته!، و سلاح الدين بالتحديد هو واحد من أخطر أسلحة الدمار الشامل المعدة لتمزيق الشعوب و هو سلاح ذو حدين يمكن إستخدامه للتطويع و التدجين و بناء الدكتاتورية كما يمكن إستعماله للإبداع و الإنفتاح و التطور، و لكن خيار الفاشية العراقية كان الخيار ألأول وهو كتم الأنفاس من خلال الدين وحيث نجح النظام البائد بمعونة دولية واضحة في بناء اللمسات الجينية الأولى للمجاميع الإرهابية المتعصبة فظهرت تيارات التكفير و السلفية المتوحشة في الجانب السني كما تعاظمت دعوات الغلو و التطرف و اللجوء للخرافات و الغيبيات في الجانب الشيعي و بدأت تتشكل أولى دعامات الصراع الشعبي المستقبلي الذي كانت المعارضة العراقية السابقة غارقة فيه حتى الوحل، فتلك المعارضة عانت بعد عام 1988 و نهاية الحرب العراقية / الإيرانية من فشل و إنهيار كامل خصوصا بعد أن ألقى الإيرانيون سلاحهم و تخلوا عن شعار ( فتح كربلاء ) و إقامة البديل الإيراني الجاهز في العراق و قبلوا بقرار 598 الأممي لوقف الحرب الطويلة الشرسة، فتشظت المعارضة الدينية العراقية بالكامل و توزعت في منافي الأرض فيما بقي القلة القليلة منه يندبون حظوظهم في طهران التي لفظتهم أيضا و أصدرت حكومتها وقتها قوانين قراقوشية ضد اللاجئين العراقيين في إيران تمنع عليهم حقوق العمل و التعليم و حتى الزواج بل منعت الشركات الإيرانية من تشغيل أي عراقي وفرض عقوبات مشددة على من يخالف تلك التعليمات وهي القوانين التي أصدرتها حكومة الرئيس السابق محمد علي خاتمي وقوانين وزير الداخلية الإيراني الأسبق! أما المعارضة العراقية في الشام فكانت إما قومية ضعيفة للغاية أو بعثية مرتبطة بالنظام السوري أصلا و الذي طبع علاقات إقتصادية حينذاك مع نظام صدام أما المعارضة الدينية كالدعوة و أخواتها فقد إكتفت بالحقوق الشرعية و بممارسة التهريب مع لبنان ( الخط العسكري أيام الإحتلال السوري)!

وكان الجميع على الهامش حتى قررت إدارة الرئيس الجمهوري جورج بوش الإبن تنفيذ قانون ( تحرير العراق ) الذي أصدرته إدارة كلينتون الديمقراطية لتتغير الصورة بالمطلق و يمسح الغبار عن المهزومين و النائمين لينخرطوا على إستعجال في موضوع التغيير و ليأكلوا ( الخبزة وهي ساخنة )!!.. وقد حصل ما حصل و لا نرى حاجة لعرض و تكرار مسلسل الأحداث، المهم أن التغيير العراقي الموعود و الذي تم بطرق غير تقليدية بالمرة و بأسلوب جديد في حسم و إدارة الصراع قد فشل في توجيه الأمور صوب الإنفتاح و التطور و تنفيذ الوعود الأمريكية المعسولة و أتاح المجال للعصابات الدينية من مختلف الطوائف و الملل و النحل المدعومة إقليميا أن تعمل في فضاء عراقي فوضوي مفتوح بالكامل على مصاريعه، فبالأمس القريب حدثت فوضى و إزدحام و تدافع و إغلاق شوارع في مدينة البصرة بسبب زيارة أحد الخطباء المذهبيين المعروفين بتطرفه و غلوه و لجوئه للخرافات الغيبية و دعوته الصريحة لتعميم الممارسات المتخلفة ووصفهابالشعائر المقدسة!!

في ظاهرة مؤسفة تدلل على مصادرة المتريفين و عقلية القرية البسيطة لكل المظاهر الحضارية و إلغاء العقل لحساب الخرافة!! فتلك الجماهير الهائجة التي تبكي هائمة على وحهها وهي تنتظر قدوم المخلص و المنقذ و المهدي المنتظر منذ قرون لا تمارس أسلوب التغيير الطوعي الذي يغير أوضاعها بل تنتظر المعجزات و تتشبث بالخرافات و تقدم جهودها بحثا عن الوهم، فهل فكر المتدافعون الذين ينتظرون إستقبال الإمام المنتظر الموعود بتنظيف بيوتهم؟ وهل فكروا بزراعة سجرة واحدة أمام كل بيت ليتحول البلد لحديقة قبل قدوم الإمام!! هل فكروا في تردي الخدمات و إنقطاع التيار الكهربائي و سلسلة الأمراض التي تفتك بهم و يحاولون علاج مشاكلهم بنفسهم و التي لن ينجح في علاجها بالقطع أي فكر غيبي مزعوم؟ الجواب بالقطع سنجده من خلال ردود التكفير و الغلو... فيا أمة ضحكت من ( خرافاتها ) الأمم.

داود البصري

[email protected]