برع من الأكراد رجالٌ أفذاذ، تركوا بصماتهم على التأريخ، في مجالات شتى. وساهموا مساهمة كبيرة في ظل الدولة الإسلامية، على الصعيد السياسي والعلمي والثقافي. فخرج من بين الكُرد إبن صلاح الشهرزوري، الحافظ العراقي، صلاح الدين الأيوبي، إبن خلكان، إبن تيمية، إبن الأثير، الدينوري، أبو الفداء، إبن شداد، إبن فضلان، والجزري والمئات من شخصياتٍ خدمت منطقتنا وحضارتنا خدمات جليلة وعظيمة.

عانى الكُرد، والفئات الأخرى ظلم الدولة الآشورية، فقام الميدييون الكُرد، في عام 612 ق.م بإقتحام نينوى، بمساعدة البابليين، وقضوا على الدولة الآشورية التي لم تقم لها بعد ذلك قائمة. وما يجري اليوم من نزاع وقتال بين العنصريين الراكبين موجة القومية العربية والكُردية، فهو ليس صراعاً بين الشعبين الكُردي والعربي، بل هو فساد وشرّ بين أناسٍ منسلخين من هذا التراث، ولا يمثلون الروح الحقيقية للتأريخ الذي شارك في صنعه الكُرد والعرب والترك والأمازيغ والفرس والفئات الأخرى. وعلينا أن نسجل هنا أن المسيحيين الآشوريين والكلدان والسريان، وغيرهم أيضاً، مسيحيين وطوائف أخرى، جزءٌ من هذا التأريخ، وساهموا في صناعته ببراعة.

زرياب إسمٌ كبير في التأريخ الشرقي والغربي، على صعيد الفن والموضة. فتراثه الذي أثر في الأندلس أيّما تأثير، أصبح بمرور الزمن مصدر إلهام وإقتباس للفن الأوروبي على مرّ العصور.

ولد زرياب (معناه ماء الذهب في اللغة الكُردية)، في مدينة الموصل عام 777م. وهو علي بن نافع المكنّى بـ أبو حسن، مولى المهدي الخليفة العبّاسي. تتلمذ على يد إسحق الموصلي الموسيقي الشهير (كان كرديّاً يهودياً متأسلماً). تعلّم زرياب فنون الموسيقى والغناء من إسحق وبرع كثيراً. قضى زرياب نشأته وهو فتى، في بغداد الرشيد، عاصمة الدولة العباسية.

مرّة يطلب هارون الرشيد من إسحق، أن يأتيه بمغنٍ جديد عذب الصوت، فاصطحب إسحق زرياباً معه إلى مجلس الرشيد. فبدأ زرياب الغناء قائلاً: أيها الملك الميمون طائره، هارون راح إليك الناس وابتكروا. فأدخل بذلك سروراً وبهجة كثيرين في نفس الرشيد، فأكرم الرشيد زرياب، وأوصى إسحاقاً برعايته والإهتمام به.

لم يلق هذا التكريم إعجاب إسحق، بل تسبب في نمو الحسد في نفسه تجاه زرياب. لم يمر وقت كثير حتى بادر إسحاق بالعداء نحو زرياب، وهدده بالقتل أو ترك بغداد!

كان ذلك كارثة كبيرة حلّت بزرياب. فهو الذي وجد كل تكريم و رفاه و طيب، من بغداد التي أحبها بكلّ جوارحه، وهو القريب من الخليفة والأمراء. لكنه كان أمام مكائد إسحاق وحسده يقف حائراً، تنقلب بهجته غمّاً وخوفا!

في ذاك الزمن لم تكن في العالم سوى مركزين للحضارة، هما بغداد العبّاسيين، وقرطبة الأمويين. لذلك لم يفكر زرياب بالعودة إلى الموصل، التي لم تكن المكان الذي يجد فيه ضالته.

ترك زرياب بغداد والألم يعصر قلبه. إتجه غرباً يمضي نحو مصر، فإلى المغرب، حتى عبر الأندلس.

قصد زرياب قرطبة، مختبراً حظه العاثر في باحة قصرها الأموي، عند عبدالرحمن الثاني إبن الحكم إبن عبدالرحمن الداخل. فكتب إليه يستأذن الأمير (كانت قرطبة عاصمة للأمارة الأموية وتحولت إلى خلافة في زمن عبدالرحمن الناصر)، فرحب به الأمير عبدالرحمن الثاني. بدأ زرياب بالغناء وعزف الموسيقى، فأدهش عبدالرحمن الذي أحبه وقرّبه إليه، حتى صار جزءا من حاشية الأمير بقرطبة. بدا زرياب محظوظاً هذه المرة، فلم يكن بصحبة إسحاق حتى يسحق فرحته!

أسس زرياب مدرسة للموسيقى، يعلّم فيها الناس فنون الغناء والموسيقى. وقام بإبتكارات جديدة في عالم الغناء والألحان. فهو أول من إبتكر الموشحات الأندلسية. جعل مضراب العود من قوائم النسر بدلاً من الخشب. وهو الذي وضع قواعد لتعليم الغناء للمبتدئين، وابتكر الغناء بالنشيد قبل النقر. وأدخل مقامات جديدة في الغناء لم تكن معروفة قبله. والأهم من ذلك هو أول من أضاف الوتر الخامس إلى العود.

لم تقتصر موهبة زرياب، على الموسيقى والغناء فحسب. بل كان يروي القصص والأساطير، وحكايا الملوك والخلفاء، فتجمع الناس حوله وتعلقوا به وأحبوه. ثم إن زرياباً أدخل في الأندلس موضة الملابس، على أن لكل فصل لباسه، ولكل مناسبة أزياء مختلفة. ثم نشر فكرة التنوع في الطبخ والأطعمة. وهذه الأمور معروفة في التأريخ الأندلسي.

لا شك أن أوروبا كانت تعيش في الظلمات في عصور سميت بـ (عصور الظلام). مع العلم أن أندلس كانت مركزاً حضارياً كبيراً في تلك الحقبة. لكن العنصرية الأوروبية، كما هي واضحة، لم تعتبر مرحلة الأندلس عصراً للنهضة والتنوير!

ففي مكتبة قرطبة كان هناك نصف مليون كتاب، ما عدا المكتبات الشخصية للأمير ورجال الدولة والعلماء. وكانت الشوارع مبلّطة بالحجر، وتستضاء ليلاً بالأنوار، وترفع قماماتها. واقترب عدد السكان من المليون.

وبالطبع وفي ظل إهتمام الأمير والدولة بزرياب، انتشرت فنون الموسيقى والغناء في كل البلاد، وبمرور الزمن انتقل هذا التراث، إلى أوروبا التي تقرّ اليوم (في ما يبدو كمصالحة مع الذات والتأريخ) بهذا العرفان والشكر للأندلس، ولزرياب في ما يخص فنون الموسيقى والغناء والموضة.

وفي الواقع لا يبدو ذلك غريباً على العالَم الكُردي، الغني جداً بالفن الغنائي والموسيقي، الذي أثّر في فنون الشعوب المجاورة على مرّ الزمن.

وهناك بالطبع نظريات، تتحدث عن صناعة الآلات الأولى للموسيقى في منطقة كُردستان، أو بلاد ما بين النهرين. على أننا يجب أن ندرك، أن جميع شعوب المنطقة ساهمت في إغناء الفن والأدب في منطقتنا. وهذا يدلّ أن شعوبنا في ما مضى، لم تكن تتعامل بعقلية العداوة والإلغاء تجاه بعضها البعض. بل وكما لاحظنا، أن زرياب الكُردي نال مقاماً كبيراً لدى خلفاء عرب من عباسيين وأمويين. ولو كانت القومية معياراً ثابتاً وحيداً للوجود، لما حكم صلاح الدين الكُردي هذه الشعوب، وكذلك سلاطين التركمان والأتراك، والفرس، والأمازيغ إلى جانب العرب أنفسهم.

من المؤكد أن الفن والأدب، يستطيعان أن يلعبا دوراً كبيراً في تقريب شعوبنا، وإذابة مشاعر التصلب والعنصرية التي تضعفهم وتشوّه صورتهم، وتهدر طاقاتهم في التخلف والإنتحار الذاتي!

زرياب، عَلمٌ كبير من أعلام الفن الشرقي العظيم. فهو في كُرديته، يجسد شخصية منطقتنا في خلال حضارة عظيمة، نستطيع أن نرمم بها جسور التواصل بين أنفسنا، بعضنا البعض، وبيننا وبين الغرب، لنعيد الكثير من العقلانية المفقودة إلى حياتنا!

رحل زرياب إلى عالم الخلود في عام 845م، وترك خلفه تراثاً كبيراً، مهّد لبروز الفن الأوروبي الذي ازدهر عبر قرون.

علي سيريني

[email protected]