من يعرف الشعب الإيراني جيدا و عن كثب، يعرف مؤكدا بطاقة الصبر الهائلة التي يحملها و بإصراره العنيد على الوصول لهدفه و مبتغاه مهما طال الزمن و بعدت الشقة!!، وتلك الرؤية العامة للشخصية الإيرانية تؤكدها أحداث التاريخ الإيراني القريبة منها و البعيدة، فالشباب الإيراني بمجمله شباب متطلع للمستقبل و طموح يحاول ما أمكنه التواصل مع العالم الخارجي و التأثر و التأثير بما يدور في العالم، كما أن الشخصية الإيرانية تحمل من عناصر الإعتزاز بالنفس لدرجة الغرور الشيء الكثير، لا بل أن أجيال عديدة من الإيرانيين تستغرب مثلا أن لا تعرف بقية شعوب الأرض اللغة الفارسية!!! مثلا، حتى أمثالهم الشعبية و أقوالهم المأثورة تعطي إنطباعا للمراقب بأنهم أصحاب فكر إمبراطوري و دولي!! فمثلا هنالك قول إيراني مأثور يقول بالفارسية:
( أصفهان نصف جيهان، أكر تبريز نبودي )
وترجمته أن مدينة أصفهان هي نصف الدنيا إذا لم تكن مدينة تبريز موجودة!!

هذا الإعتزاز بالنفس و العنصر و الفخر بالثقافة الفارسية و بالتاريخ الإيراني عبرت عنه خير تعبير الحشود المليونية التي خرجت منذ أكثر من ثلاثين عاما و يزيد وهي تهنف بسقوط الشاه الراحل الذي تجمعت ضده وضد نظامه كل قوى المعارضة الإيرانية التاريخية بدءا من مجاهدين خلق وفدائيين إسلام و الجبهة الوطنية القديمة، و ليس إنتهاءا بثوار الحوزة الدينية في قم و أتباع الراحل الخميني، وكانت إيران قد شهدت في نهاية السبعينيات حالة شاملة من الرفض الشعبي لنظام الشاه التغريبي إلى الدرجة التي أنخرطت معها الرأسمالية الوطنية الإيرانية المعروفة بالبازار في جبهة الرفض الثورية مما أدى في النهاية لتحلل النظام البهلوي وخروج الشاه الراحل للمنفى و من ثم الحياة برمتها و عودة آية الله من منفاه و من ثم قيام الجمورية الإسلامية التي كانت في أطوارها ألأولى مهادنة بالكامل مع التيارات الوطنية الأخرى و شهدت الشهور ألأولى من الثورة حرية ليبرالية منقطعة النظير قبل أن يتصارع الثوار و يأكلون بعضهم بعضا و تنشب التصفيات الداخلية المتوحشة و الدموية و التي حسمها التيار الديني الحوزوي المتشدد بالحديد و النار بعد مقاومة شديدة و مكلفة جدا من الفئات الأخرى! خصوصا و أن نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين كان قد قدم خدمة تاريخية مهولة للتيار الديني المتشدد لم يكن يحلم بها حينما أعلن حربه في 22 أيلول / سبتمبر / على إيران مطالبا بإلغاء إتفاق الجزائر الحدودي لعام 1975 و بإعادة ترسيم الحدود البرية و البحرية و بهدف ستراتيجي محوره منع تصدير الثورة الإيرانية للداخل العراقي بعد إنتعاش قوى المعارضة الدينية العراقية المرتبطة بإيران وقتذاك!! و التي عملت بجد من أجل إسقاط النظام العراقي و إقامة البديل الديني على النمط الإيراني!!، و كانت تلك الحرب خدمة ستراتيجية كبرى للتيار المتشدد الذي إستغلها خير إستغلال لتنظيف الجبهة الداخلية الإيرانية من خصومه العقائديين الكثر المنتشرين في مؤسسات الدولة المدنية و العسكرية، لذلك كانت تلك الكلمة المعبرة التي أطلقها الخميني الراحل حينما وصلته أنباء قيام الحرب مع العراق بقولته الشهيرة :
الخير فيما وقع!!

نعم.. لقد كان الخميني وقتئذ مدركا لكل كلمة يقولها و يعنيها، فمساحة إيران الشاسعة كانت من الناحية التعبوية الصرفة تعني القدرة على إمتصاص أي هجوم و توغل عسكري عراقي مهما بلغت قوته، ثم أن حشد الروح الوطنية و القومية الإيرانية و إنهاء حالة الإنقسام الداخلي أمور لا تأتي إلا من خلال التحديات المباشرة وحيث إشتغلت الماكنة الإعلامية و التعبوية النفسية للنظام الديني الإيراني الجديد لتعلن أن تلك الحرب المفروضة هي حرب ضد الإسلام في إيران و ضد التشيع أيضا متناسين أن الطرف الآخر هو مسلم أيضا و أن غالبية جنود الخصم هم من الشيعة أيضا!! و لكن كانت للروح القومية الإيرانية المغلفة بأطر العقيدة الدينية و المذهبية فعلها الفاعل، وحيث تفرغ النظام بالكامل لقمع المخالفين و تصفيتهم بشراسة، وكان أولهم الرئيس ألأول للجمهورية المنتخب أبو الحسن بني صدر الذي هرب و غادر إيران بمعية قائد حركة مجاهدين خلق السيد مسعود رجوي !

كما أن المعارضين بدورهم لم يقصروا في أداء ( الواجب ) و نجحوا في قتل و إصطياد أعداد مهمة من القيادات الإيرانية الجديدة و حتى التاريخية فقتلوا المفكر مرتضى مطهري مثلا و أغتالوا العديد من الكوادر و منهم قيادات الحزب الجمهوري الإسلامي و على رأسهم آية الله بهشتي و الشيخ علي منتظري أحد قيادات دعم حركات التحرر في العالم في النظام الجديد، كما نجحوا في قتل رئيسي الجمهورية و الوزراء رجائي و باهنر عام 1981، كما كانت جبهات الحرب مع العراق تشهد تسخينا هائلا و خسائر بشرية مروعة، إضافة لإنتكاسات عسكرية و حيث قتلت في خريف 1981 القيادة العسكرية الإيرانية بكاملها في حادث طائرة في مدينة عبادان في الأحواز!!

المهم أن ( الخير ) الذي تحدث عنه الخميني قد حدث فعلا فتمت تصفية الجيش من المعارضين و الإنقلابيين المحتملين وحل الحرس الثوري أو الباسداران حديث التكوين تدريجيا ليكون الذراع ألأمني و العسكري للنظام الديني و قبضته الضاربة في الشارع، و أنحسرت المعارضة للخارج تلحس جراحها و أنهارت بالكامل كل مؤسسات و بقايا النظام القديم لصالح جماعة ( خط الإمام ) الذين و ببراعة إستغلوا أصوات و مشاعر ملايين البسطاء و القرويين و المحرومين في بناء النظام الجديد الذي عبأ الموارد الإيرانية للحرب و عمد لإطالة أمدها أكثر مما ينبغي بعد أن إستوعب و أمتص قوة الزخم الأولى، ليباشر بتنفيذ المرحلة الثانية وهي صد الهجوم و القيام بالهجوم المضاد و تنفيذ الخطوات ألأولى لآيديولوجيا التبشير عبر الإصرار على إسقاط نظام صدام حسين في العراق و إقامة البديل الإسلامي وهو ما مدد الحرب لستة أعوام أخرى إعتبارا من صيف 1982 و التي إنسحب الجيش العراقي من العمق الإيراني خلالها بعد سلسلة الهزائم و الإنتكاسات في عبادان و الشوش و ديزفول ثم المحمرة في مايو 1982 لينكفأ الفعل العسكري العراقي و يتحول لحالة دفاع دموي مكلف إستمر حتى عام 1988، حين تكفلت الترتيبات الدولية و الإقليمية بإنهاء تلك الحرب التي فقدت معناها و جدواها بعد أن تحولت لحرب منسية و إستنزافية مهولة، و لكن النظام الإيراني خرج من تلك الحرب برغم خسائرها المهولة موحد الصفوف، فارضا آيديولوجيته المعلنة بدولة الولي الفقيه التي إستطاعت الإستمرار بعد رحيل مؤسسها الخميني صيف عام 1989 لتستمر الكوادر التي بناها حتى اليوم، و لتشهد إيران لحظة الحقيقة و مجابهة بناء الواقع الميداني و إستحقاقاته و المتغيرات الداخلية و الدولية و نمو فئات شابة جديدة متشربة بأحلام وطنية و مادية كبرى و بأسئلة هائمة وحائرة لم يستطع النظام الإجابة عليها بالكامل و لا تلبية متطلباتها، فحالة الإسترخاء ليست كحالة الحرب! إذ أنها تخرج كل العيوب و المثالب دفعة واحدة، وإذا كانت الحربتخفي تحت ضجيج مدافعها كل الأخطاء و المصائب، فإن حالة السلام تحتاج بالتالي لمشاريع بناء و تنمية و مواجهة الغزو اليقافي و الفكري بما هو أكبر من لغة الشعارات الدينية أو العويل الديني و المذهبي، إيران اليوم غير إيران الأمس!

فذلك من طبائع الأمور و مقتضيات الأحوال، كما أن حجم المتغيرات الهائلة في الكون قد فرض منطقه، فالعالم الشيوعي قد أضحى في خبر كان، و العولمة الثقافية و الفكرية و الإنفتاح اللامحدود وثورة المواصلات لعبت دورها الفاعل في تكوين جيل إيراني جديد يبحث عن الحداثة و لكنه لا يجد في النهاية سوى نفس العبارات و الصيغ و الأفكار التي كانت تتردد طيلة أكثر من أربعة عشر قرنا ماضيات!، يريد الشعب التمتع بثروته الوطنية فيما نظامه لا زال يعيش على إيقاعات الماضي و يبدد الثروة الوطنية في دعم المغامرات و الأنصار في العالم و الإقليم، ثورة الشباب الإيراني اليوم لم تأت من أجل عيون موسوي أو رضائي أو كروبي.. فهؤلاء هم إمتداد للنظام نفسه و جزءا فاعلا من مكوناته التاريخية، و إفرازا حقيقيا له، و لكنهم يبحثون عن ماهو أبعد من هؤلاء، يبحثون عن التغيير التدريجي و الهاديء و الناعم الذي سيفرضه الزمن كما يعتقدون دون الحاجة لثورات دموية و لنافورات جديدة من الدم!! وهو حلم كما نرى بعيد المنال رغم أنه ليس بالمستحيل أبدا!، و لكن قاطرة التغيير قد دخلت في سكتها وهي ستصل حتما لوضع جديد قد لا تكون صيغته النهائية معروفة بالكامل، و لكنها في طور التشكيل، الإفراط في القمع السلطوي لن يؤدي لأي نتيجة، بل سيعقد الأمور و يدخل إيران في متاهات لا نهاية لها و عوامل الإنفجار لدى الشعوب الإيرانية من غير الفرس متوفرة!

و الدولة الثيوقراطية الدينية في إيران في سبيلها للتحلل لا محالة لأنها ببساطة مخالفة للمنطق و لسنة التاريخ و لمبدأ التطور الطبيعي و التدريجي للشعوب.. إيران تتشكل من جديد كما هو العالم من حولها و ثورة الشباب الإيراني هي الفاصلة الأولى في عصر التغيير القادم الكبير.

داود البصري
[email protected]