تسقط الدكتاتورية! أو بالفارسية ( مرك بر دكتاتور )!! كان واحدا من أبرز الشعارات التي هنف بها المتظاهرون في شوارع العاصمة الإيرانية طهران وهم يحتجون بحدة و شراسة على ما أعتبروه مهزلة كبرى للعملية الديمقراطية الشكلية في جمهورية الملالي و آيات الله الذين لم يستطيعوا التخفي طويلا خلف ( شادور ) الديمقراطية الشكلية التي حرصوا على التمسك بها لثلاثة عقود كاملة، فبعد ثلاثين عاما على تصاعد شعار ( مرك برشاه ) في ذات الشوارع و كذلك ( مرك بر أمريكا و إسرائيل و بقية العالم )!!

دارت الدوائر لنسمع نفس الشعار الصادح وهو يلوح بوجوه و تسمعه آذان القيادة الدينية الحاكمة في طهران التي وصلت على ما يبدو لنهاية الطريق في مواجهة المستجدات و مطالبات التغيير، فإنفلات الفوضى الراهنة في الشارع الإيراني و التداعيات التي أعقبتها و حملات القمع المفرط و الإعتقالات الشاملة و الجاهزة على ما يبدو لجميع المعارضين ( المخمليين ) لم تأت كظاهرة إعتيادية بعد الإحتجاجات التي أثارها أتباع المرشح الخاسر في الإنتخابات الرئاسية و هو السيد مير حسين موسوي، فمنصب رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو مجرد منصب شكلي بحت!

و تلك الحقيقة عرفت و فضحت منذ هروب الرئيس الأول للجمهورية وهو الدكتور أبو الحسن بني صدر عام 1981 ثم توالي الرؤساء بدءا من محمد علي رجائي و من ثم الولي الفقيه الحالي نفسه علي خامنئي و مرورا برئاسة هاشمي رافسنجاني ثم خاتمي قبل أن يتسنم المنصب الشرفي محمود أحمدي نجاد بشطحاته و سياساته المثيرة للجدل داخليا و خارجيا، ما حصل و يحصل في الشارع الإيراني هو تعبير واضح عن حالة التململ و الضيق و إنسداد الأفق بل و الإفلاس المستقبلي التام للشعوب الإيرانية وهي تحكم بأساليب دكتاتورية مقنعة و ملفوفة بقفازات من حرير فارسي موشى!!

ووفق ديمقراطية رثة و فاضحة تفضح أكثر مما تخفي!!، و الصراع بين المتشددين المحافظين و الإصلاحيين الثائرين حاليا بعد إنتهاء الهدنة الطويلة و إنكفاء التعايش المر هو صراع من أجل التغيير و لو بوتائر محدودة للغاية، ففترة الإنفتاح التي شهدتها مرحلة رئاسة الرئيس الأسبق السيد محمد علي خاتمي و التي إستمرت لثمانية أعوام إعتبارا من عام 1997 كانت مرحلة إعلانية أكثر منها مرحلة تغييرية!! فلم يتغير شيء أبدا من معالم دولة الولي الفقيه الثيوقراطية الدينية و التي هي مصاغة أصلا وفقا لنظرية مذهبية ودينية مستبدة ( الولي الفقيه ) التي نفض عنها الراحل أية الله الخميني الغبار لتكون صيغة حكم و سلطة في إيران أنهت معها كل الطروحات الوطنية و القومية المعروفة في الساحة الإيرانية و أعادت النظام السياسي من إستبداد شاهاني بشري لعرش ملك الملوك الراحل إلى شاهانية دينية مذهبية يكون فيها ( نائب الإمام المنتظر ) هو الإمبراطور الحقيقي و هو الذي بيده المصير!! وهو الذي يقرر ما يكون أو سوف يكون!! وهو إستبداد لا يختلف عن نظيره الشاهاني المنقرض في شيء إلا في إضفاء القداسة الدينية المقرونة بالقمع الشامل لكل المخالفين ولو كانوا من قادة المؤسسة الدينية الشيعية الإيرانية ذاتها كما كان مصير آية الله حسين علي منتظري الذي أقصاه الخميني عن نيابته ليعيش على الهامش منذ أكثر من عشرين عاما!!

أو كما حصل مع الراحل آية الله كاظم شريعتمداري الذي بقي رهين محبسه المنزلي في ( قم ) حتى وفاته..! و غيرهم الكثير!، فتاريخ الشعوب الإيرانية و رموزها القيادية قد تم إختزاله بالكامل في سلطات الولي الفقيه و الذي يشغله حاليا السيد علي خامنئي الذي كان أحد أتباع الخميني و إماما لجمعة طهران و لم يكن أبدا من طبقة ( آيات الله العظام ) ثم تقلد رئاسة الجمهورية ليرحل الخميني عام 1989 و لتدور ماكنة المشاورات و لتسفر مشاورات ( السقيفة ) في طهران و بمناورات من الشيخ هاشمي رافسنجاني رجل النظام القوي عن إنتخاب الخامنئي لخلافة الخميني و يكون الولي الفقيه الجديد الجامع للشرائط و نائبا بالتالي للإمام المنتظر..!!

و لتجري مياه عديدة تحت كل الجسور و ليتغير شكل العالم بالكامل تقريبا فيماظل النظام الإيراني على جموده العقائدي مع بروز أجيال إيرانية شابة وطموحة كما هو معروف عن النفسية الإيرانية ترنو للتغيير و تتطلع له ولو من خلال لعبة إدارة السلطة للصراع الداخلي، و الإنتخابات الرئاسية هذه المرة رغم محدودية نتائجها المستقبلية كانت تعكس و بشدة مخاوف التيار المتشدد في القيادة الإيرانية التي طالت كثيرا خطوط مواجهاته الداخلية و الخارجية في ظل الإصرار الرسمي على المضي قدما في المشروع النووي و التورط في الصراعات الإقليمية في العراق و لبنان و الخليج العربي وحتى تخوم الصحراء المغربية، و التيار المحافظ المتشدد يعلم تماما بنتائج فقدان السيطرة على خيوط السلطة و يعلم أيضا بما فعل غورباتشوف في تاريخ الإتحاد السوفياتي السابق و الراحل، و يعلم أيضا بأن الثورة المخملية الهادئة التي تقشر القيادات المتطرفة لا محل لها من التطبيق في إيران الثائرة المتمسكة بالمنهج المتشدد خصوصا في ظل رئيس كأحمدي نجاد لا يتردد أبدا عن القول بأن ( يد الإمام المهدي المنتظر الغائب هي التي تحكم إيران )!!

ورغم إحتجاج الكثير من القيادات الدينية الإيرانية ذاتها على هذه التصريحات الخرافية إلا أن للولي الفقيه رأيه الخاص و المؤيد لذلك!! فالقضية قضية سلطة و تحكم قبل أي شيء آخر!! و أمام السلطة و في سبيلها تتهاوى كل الممنوعات و تطوع كل الأساطير!! و خطاب نجاد موجه بالتالي لطبقة الفقراء و المحرومين و القرويين البسطء وهم بطبيعة الحال الغالبية في إيران فأهل المدن رغم أرتفاع صوتهم إلا أنهم من الناحية الحسابية الرقمية المجردة أعداد لا تقارن بأفواج البسطاء الذين يستهويهم الخطاب الخرافي الممزوج بمعاناتهم و إعتقاداتهم الغيبية وأصوات هؤلاء في حالة عدم حدوث تزوير هي التي حسمت الموقف الإنتخابي!!، و لكن الغريب و العجيب في الملف الإيراني الملتهب هو أن جميع أطراف الصراع الساخن الدائر حاليا قد خرجت من عباءة الثورة و النظام الحالي، فالسيد مير حسين موسوي كان رئيسا للوزراء في أعقد و أصعب فترة من تاريخ النظام وهي فترة الحرب مع العراق و فترة قمع المعارضة بالقوة المفرطة!!، كما أن السيد محسن رضائي هو إبن بار للنظام وكان قائدا مؤسسا للرس الثوري و خاض بحماس غمار الحرب مع العراق و كان يدعو أيضا لفتح القدس عن طريق كربلاء!! و إقامة النظام الديني المذهبي الإسلامي في العراق!!

أما الشيخ مهدي كروبي فهو إبن للمؤسسة الفقهية الحوزوية وهو آية من آيات الله!!، أي ان وصول أحد من هؤلاء لسدة الرئاسة لن يغير الموقف السياسي و المنهجي في إيران أبدا!! ومع ذلك فقد حسم الولي الفقيه أمره مبكرا و بوضوح وأنحاز لصالح أحمدي نجاد الذي وصف إعادة إنتخابه بالعيد الكبير!!، الشيء المؤكد هو أن صندوق العفاريت قد فتح في طهران!!، و إن طريق التغيير قد تعبد بالدماء الشابة التي سالت في شوارع طهران، و إن النظام الإيراني الحالي تلقى صفعات حقيقية م الأجيال الشابة التي نشأت في عهده و لم تعرف نظاما سواه!! و مع ذلك فقد إنتفضت وهي إنتفاضة لن تكون مجرد هبة عابرة و حماس فجائي بل أنها تحمل معها إرهاصات كبيرة لمتغيرات بنيوية و مستقبلية واضحة، فمفاجآت إيران أكبر مما هو متوقع دائما، و النظام الإيراني في النهاية سيكون أمام واقع جديد سيضطر معه لتقليل نشاطاته الخارجية و الإلتفات لمعالجة خروق الداخل و ثقوبه الواسعة، فالخطر الماحق قد تشكل، و الحناجر التي هتفت ضد نظام الشاه و أسقطته قبل ثلاثة عقود قد عاد الأحفاد لصقلها من جديد.. إيران فوق قمة بركان هائج و التغيير قادم لا محالة شاء الولي الفقيه أم أبى.. وسقوط الدكتاتورية الدينية مسالة وقت ليس إلا.. فتلك سنة الكون.. و لن تجدوا لسنته تبديلا..!.

داود البصري
[email protected]