يعجب المرء عندما ينظر الى الإتفاق الإستراتيجي الذي يربط الحزبين الرئيسيين في إقليم كردستان منذ عام 2005 ومازال ساري المفعول لحد الان.

فمن يقرأ التاريخ السياسي الكردي بإمعان يجد أن هذان الحزبان كانا دائما في صراع مرير على السلطة في كردستان،تحول ذلك الصراع في مراحل عدة من تاريخ كردستان الحديث الى حد إراقة أنهار من الدماء بينهما، أولها إنشقاق جناح المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني عام 1964 بزعامة السيدين إبراهيم أحمد وجلال طالباني عن الحزب الذي كان يقوده الزعيم الراحل الملا مصطفى البارزاني والد السيد مسعود بارزاني الحليف الحالي لطالباني، وثم إنضمام ذلك الجناح الى صف الحكومة العراقية وتشكيل قوات شبه نظامية لمحاربة ذلك الحزب حتى إعلان إتفاقية آذار عام 1970.


وثم تجدد الصراع المسلح بين الحزبين منذ بدايات الثورة الكردية الجديدة المندلعة في جبال كردستان والذي إمتد من عام 1975 الى عام 1986 عندما نجحت إيران في تحقيق المصالحة بين الزعيمين، وصولا الى القتال الداخلي الذي تجدد مرة أخرى عام 1994 وإنتهى عام 1998 بتوقيع إتفاقية سلام بين الحزبين تحت رعاية الولايات المتحدة، وهو القتال الذي أودى بحياة الآلاف من بيشمركة الطرفين.

هذا الصراع الدامي بين الحزبين الذي صبغ التاريخ الكردي بالدم، وأطاح بتعاطف ودعم شعوب وحكومات العالم للقضية الكردية ولمظلومية الشعب الكردي، والذي وصل الى حد سكوت العالم عن جرائم الإبادة الشاملة التي كان نظام صدام حسين يقترفها ضد هذا الشعب، تحول ذلك الصراع الدامي الى صراع سياسي ما زالت آثاره واضحة على قيادات وقواعد الحزبين.

فبرغم التحالف القوي الذي يجمع الحزبين منذ توقيع إتفاقهما الإستراتيجي، ودخولهما بقائمة موحدة في جميع الإنتخابات التي تلت ذلك ومنها الإنتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة، ولكن ذلك لم يمنع الحزب الديمقراطي الكردستاني من توجيه إتهامات الى الإتحاد الوطني لإعتقاد بأن معظم أعضائه وأنصاره لم يصوتوا لصالح ترشيح بارزاني لرئاسة الإقليم في الإنتخابات الأخيرة ؟!.
ورغم عدم الجهر بهذه الإتهامات علنا ولكن أحاديث من هذا القبيل تدور في الأروقة السياسية وفي المجالس الخاصة بكردستان، لهذا يتحدث الكثيرون عن ظهور مشكلة في تداول السلطة بين الحزبين.


فبعد صدور تصريحات عدة حول تسليم رئاسة حكومة الإقليم الى الإتحاد الوطني في السنوات الأربع القادمة إثر فوز القائمة الكردستانية التي تمثل الحزبين الحليفين في الإنتخابات، وبعد أن أعلن الرئيس طالباني بذاته قبل أيام من بدءالإنتخابات، بأن الإتحاد الوطني سيقود الحكومة القادمة، وأن المرشح لها هو الدكتور برهم صالح، تروج اليوم تكهنات بعدم تنازل بارزاني عن قيادة الحكومة القادمة، ورغم أن الزعيمين لم يتطرقا البتة الى هذا الموضوع، وبرغم أن المكتب السياسي للحزبين يؤكدان مرارا أن هذا الأمر سابق لأوانه، ولكني لا أعرف كيف يطرح طالباني إسم برهم صالح مرشحا لرئاسة الحكومة المقبلة من دون أن يكون الحزبان قد إتفقا على ذلك مسبقا.

على كل حال لقد وصفت في مقالات سابقة الإتفاق الإستراتيجي بين الحزبين بـquot; زواج المصلحةquot;، لأني أرى وقد يشاطرني الكثيرون الرأي بأن هذا التحالف الإستراتيجي بين الحزبين لا معنى له البتة، فهما حزبان عريقان ولهما شعبية طاغية وسط الشارع الكردي منذ عشرات السنين، وهما حزبان قويان لهما جذور عميقة على أرض كردستان، وبذلك فهما ليسا بحاجة الى مثل هذا التحالف الذي أراه متعارضا تماما مع مفهوم الديمقراطية الذي يقوم على أساس التنافس والتداول السلمي للسلطة.


وكان بإمكان الحزبين أن يخوضا الإنتخابات البرلمانية بقوائم منفردة، ومن يحصل على الأكثرية يحق له أن يدير السلطة، ويبقى الآخر كقوة معارضة داخل البرلمان، وبذلك كانت العملية الديمقراطية ستستقيم أكثر وتسير في مسارها الصحيح، أما تشكيل هذا التحالف quot; المسخ quot; وفي ظل ظروف مستقرة في كردستان التي زال عنها شبح الدكتاتورية في ذلك الوقت، فقد كان الهدف منه بإعتقادي هو تفرد الحزبين بإدارة برلمان وحكومة كردستان خصوصا مع نزول مليارات الدولارات سنويا الى إقليم كردستان من بغداد، وهنا كانت الطامة الكبرى في غرق الإقليم بفساد عظيم في ظل غياب صوت المعارضة الحقيقية، فجميع الأحزاب الكردستانية الأخرى لم تستطع طوال السنوات الماضية من تشكيل قوة معارضة فاعلة ضد الحزبين لا داخل البرلمان ولا حتى على الصعيد الإعلامي.

لقد كان عقد الإتفاق الإستراتيجي بين الحزبين خطأ إستراتيجيا اَلحق ضررا كبيرا بالقضية الكردية وبتجربة حكومة الإقليم من خلال تشويه صورة الكيان الكردي الذي غرق في الفساد حد الأذقان بالمحافل الدولية، وذلك بسبب غياب صوت المعارضة وتفرد الحزبين بقيادة الإقليم بمؤسساته التشريعية والتنفيذية على هواهم ووفقا لمصالحهم الحزبية الضيقة، وثناه الإتحاد الوطني بخطأ أكبر عندما جدد تحالفه مرة أخرى مع حزب بارزاني على حساب التحالف مع حركة التغيير في الإنتخابات الأخيرة، مما أدى به الى دفع ثمن غال بخسارة معقله الرئيسي وهي محافظة السليمانية، مما أضعف موقف الإتحاد الوطني حتى مع حليفة الإستراتيجي وهو حزب بارزاني..

كان الأولى بالإتحاد الوطني أن يتحالف مع حركة التغيير لمنافسة حزب بارزاني،، وكان من شأن هذا التحالف بين رفاق الأمس أن تضمن للإتحاد الوطني فوزا سهلا في الإنتخابات البرلمانية الأخيرة على غريمه التاريخي، وبهذه الحالة كانت الديمقراطية ستستقيم وتستقر أكثر في الإقليم..

لقد خرج السيد نوشيوان مصطفى قائد حركة التغيير من قيادة الإتحاد الوطني لعدم السماح له بتنفيذ مشروعه الإصلاحي الذي كان يهدف الى تجديد الحزب وتطهيره من العناصر الفاسدة، وواجه لذلك حملة شرسة من بقية التكتلات الحزبية داخل الإتحاد الوطني ما أدى الى خسارة موقعه داخل تنظيمات الإتحاد الوطني، خصوصا بعد أن نجحت التكتلات الحزبية الأخرى في الإطاحة به. ومن الغريب حقا أن يرفع تحالف الحزبين الإتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني في قائمتهم الإنتخابية نفس شعارات الإصلاح والتجديد التي سبق وأن حورب السيد نوشيروان بسببها، ولكن بعد ماذا، بعد أن وقعت الطامة الكبرى ووقع الفأس في الرأس ؟؟!!.

ومع كل ذلك أعتقد بأنه ما زالت هناك فرصة أخيرة أمام الإتحاد الوطني لتدارك وضعه وترتيب بيته الداخلي قبل فوت الأوان، ففي حال أصر حليفة الإستراتيجي على عدم تسليم رئاسة الحكومة إليه، وتمسكه بقيادة الحكومة القادمة وضرب كل تعهداته عرض الحائط، ينبغي على الإتحاد الوطني أن يتحالف مع حركة التغيير التي تساندها الأحزاب الكردستانية الأربع الأخرى بقيادة الإتحاد الإٍسلامي، فكما يقال فإن السياسة هي فن الممكنات، وأن هناك قاعدة أساسية وهي أنه ليس في السياسة صداقات أو عداوات دائمة، بل هناك مصالح دائمة، ومن هذا المنطلق أعتقد بأن مصلحة الإتحاد الوطني تستدعي في حال حرمانها من فرصة رئاسة الحكومة، أن تعمل على كسب حركة التغيير ومن معه لتشكيل تحالف قوي يضمن له الحصول على قيادة الحكومة المقبلة، فالسلطة في كردستان تختزل عادة فيمن يقود الحكومة، وهي الوسيلة الوحيدة ليتمكن الإتحاد الوطني من إستعادة شعبيته في الداخل، ويسهم بالتالي في إغناء المسيرة الديمقراطية في كردستان ووضعها في مسارها الصحيح من خلال الخروج من تحت عباءة تحالفات مشبوهة، ونشر مفهوم جديد لتداول السلطة في كردستان، وليس إحتكارها من قبل قوة سياسية واحدة ذات لون واحد والذي لم يجن منها الشعب غير المزيد من المعاناة والتلاعب بمقدراته.

شيرزاد شيخاني

[email protected]