كنت أمني النفس وأنا في طريقي الى بغداد لحضور مراسم عزاء وفاة شقيقتنا أن أرى تغييرآ حقيقيآ قد حدث لهذه المدينة التأريخية العريقة بعد عهود من الأهمال والتخريب المتعمد خاصة في فترة حكم نظام البعث وما تلاه، فبعد أن وطأت أقدامنا أرض مطار بغداد أستبشرت خيرآ من لمسة الحداثة التي يشهدها المطار والذي يمثل واجهة من واجهات العراق، وكان لافتآ أن أجراءآت الدخول تمت بسلاسة وبدون أية عوائق تذكر، فلا رشوة ( كما كان يشاع وكما هوموجود في بعض مطارات الدول المجاورة للعراق، حيث أصبحت الرشوة نظامآ معمولآ به في أغلب المطارات العربية وكأنه نوع من أنواع الضرائب أو ثمن إضافي يٌحصل من المسافرين يضاف على ثمن الفيزا وسمات الدخول)، ولا فوضى حيث كل شئ مرتب ونظيف فقُلت في نفسي بأن ما تبثه قناة الفضائية العراقية الرسمية و (التي أثرى الكثير من مدرائها وبعض العاملين فيها ثراءآ فاحشآ )من أخبار عن تقدم في الوضع الأمني والأقتصادي ومستوى الخدمات المقدم للمواطنين صحيحآ، لكن ما أن أبتعدت سيارة التاكسي التي أستأجرتها أمتارآ قليلة عن محيط المطار حتى أصبت بالصدمة والشعور بالمرارة وخيبة الأمل من الوضع الكارثي الذي تعيشه بغداد، فأكوام النفايات في أركان شوارعها أصبحت من شواخص هذه المدينة العريقة (فلا وجود يذكر لأمانة بغداد المنهمكة ببناء الأرصفة ومن ثم تخريبها)، والأختناقات المرورية في تقاطعاتها الرئيسية علامة من علاماتها عدا عن نقاط التفتيش الكثيرة والتي أضافت عبئآ جديدآ على كاهل أهلها علاوة على مشاكلها المزمنة من نقص في الخدمات وخاصة المياه والكهرباء، فبُنى بغداد التحتية وباقي محافظات العراق تعاني من أنهيار شبه كامل في كافة المجالات وعلى رأسها الجانب الصحي الذي يشهد تراجعآ مخيفآ والذي كنت شاهد عيان على تدني مستوى الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين،فشحة الدواء سمة غالبة في أغلب مستشفيات العراق،ومستوى الخدمات المقدمة للمواطنين فيها مثير للقلق ولا يرتقي الى مستوى أدنى الطموحات،فالأوساخ حتى في ردهاتها وأقسامها المهمة والتدخين يتم فيها بصورة شبه علنية أضافة الى الفوضى وعدم التنسيق بين أقسام الأدارات في المستشفيات العراقية، حيث يتطلب الحصول على تقرير طبي أو حتى شهادة وفاة جهدآ مضنيآ وعملآ شاقآ دؤوبآ، والسؤال الذي يفرض نفسه هو أين دور وزارة الصحة ووزيرها؟ وأين دور الرقابة التي يجب أن تمارسها على المستشفيات والمرافق الصحية التابعة لها، أما فيما يتعلق بالجانب الأمني فقد ثبت بما لا يقبل الشك بأن بناء دولة حديثة في العراق في الوقت الحاضر أمرآ بعيد المنال نسبيآ وذلك للأسس الخاطئة التي أقيمت عليها العملية السياسية برمتها بعد سقوط النظام السابق، فنظام المحاصصة ما زال قائمآ على أشده وما يسمى بالأحزاب العراقية ما هي إلا عبارة عن مافيات تتصارع فيما بينها على النفوذ والثروة حيث التصفيات الجسدية تتم بصورة ملحوظة بين ميليشيات هذه الأحزاب لا يتناولها الأعلام في أغلب الأحيان.
أن الترويج الذي تمارسه بعض القنوات الفضائية والأجهزة الأعلامية الأخرى التابعة للذين يسيطرون على الوضع في العراق عن نسب أعمار منجزة لمشاريع سيتراتيجية ما هي إلا أوهام الهدف منها التغطية على الفشل في إدارة الدولة وتوفير الخدمات البسيطة للمواطنين، فخلال ست سنوات على التغيير باع العراق نفطآ ما قيمته أكثر من 176 مليار دولار تبخرت نتيجة الفساد الأداري والمالي الغير مسبوق حيث صُنف العراق من قبل بعض المنظمات الدولية المرموقة بأنه من أكثر الدول فسادآ في العالم.
حقيقة الأمر لم أرى في بغداد ما يًسر النفس ويستحق الفخر والأشادة ويشجع المهاجرين العراقيين على العودة الى بلادهم فالطبقية في أصبحت على أشدها بين العراقيين ولا مجال لجسر هوتها حاليآ،ولا ملامح لإعادة أعمار أو ترميم لبٌنى تحتية مدمرة إلا ما ندر، الشئ الملفت فقط والمثير للأنتباه هو زيادة في عدد السيارات الفارهة الحديثة التي يقودها المتخمون،وسيارات مظللة لما يسمى بالمسؤولون محاطين بحمايات لا يحترمون أبسط قواعد المرور وليس لهم علاقة أو معرفة بأبسط قواعد الأخلاق والتعامل الأنساني مع المواطنون،وكأن صدام عاد من جديد بوجوه متعددة، فلا صولة للقضاء على الفساد الأداري والمالي، ولا خطط لمكافحة الروتين والبيروقراطية المقيتة ولا خطط لأستخدام الأنظمة المعلوماتية الحديثة للحد من الفوضى وإيجاد تنسيق بين مختلف الدوائر والإدارات، فوزارات مثل النفط، والكهرباء، والتعليم العالي، والخارجية، والموارد المائية تحتاج الى أجتثاث جذري وليس الى رقابة أو بعض العمليات التجميلية لتسويق بعض من الذين سقطت الأقنعة عنهم وتعروا نتيجة ما أقترفوه من مخالفات خطيرة بحق هذا الشعب المنهك.