بين شروق الشمس وغروبها يرصد المخرج السعودي الشاب محمد الظاهري قصة صبي ينتمي إلى عائلة فقيرة معدمة من عوائل مدينة الرياض. يتعرض هذا الصبي إلى قمع أُسري وتربوي وجنسي وديني ويتحول في نهاية المطاف الى ضحية تترقب مصيرها المحتوم. يهيمن الصمت على مناخ الفيلم الذي يخوض في قضايا حساسة وجدية لم يتناولها السينمائيون السعوديون على قلتهم مثل ظاهرة أطفال الشوارع الذين يتعرضون للقمع والأذى والاغتصاب وقد ينتهي بهم الأمر الى مصير مجهول كما هو حال الشخصية الرئيسة في الفيلم المميز quot;شروق/غروبquot;.

دبي: تنافس خمسة عشر فيلمًا قصيرًا على جائزة quot;المهر العربيquot; في الدورة السادسة لمهرجان دبي السينمائي الدولي لعام 2009. ومن بين هذه الأفلام سمو الشيخ ماجد بن محمد يسلم الظاهري الجائزة الثالثةالمتنافسة نذكر quot;أحزان اللقلق السعيدquot; لإيلين هوفر بطرس، quot;النشوة في نوفمبرquot; لعايدة الكاشف، quot;تيناquot; لأمجد أبو العلاء، رؤوس دجاجquot; لبسام علي الحرباوي، quot;فاطمةquot; لسامية شرقيوي، quot;نزهةquot; لسابين الشمعة، و quot;شروق/ غروبquot; للمخرج السعودي محمد الظاهري الذي نال جائزة quot;المهر العربيquot; لأفضل فيلم قصير. وقد جاء في قرار تقييم لجنة التحكيم أنها منحت الجائزة لهذا الفيلم quot;وذلك لبساطته وأسلوبه القوي والشجاع في تسليط الضوء على المشاكل التي تواجه الشباب في مجتمعناquot;. كما سبق لهذا الفيلم أن فاز بجائزتين أخريين وهما الجائزة الفضية من مهرجان بيروت السينمائي في أكتوبر الماضي، والجائزة الثالثة لأفضل فيلم خليجي من مهرجان الخليج السينمائي في أبريل الماضي. يا تُرى، ما الذي وجدته لجان التحكيم الثلاث في فيلم quot;شروق/غروبquot;؟ وما سبب منحه هذه الجوائز الثلاث إضافة الى تنويه خاص من مهرجان دبي السينمائي الدولي؟ هل نال هذه الجوائز لثيمته الرئيسة، أم لأداء شخصياته، أم لتقنياته أم لتناوله فكرة مسكوتًا عنها في عالمنا العربي؟ آخذين في الاعتبار أن quot;شروق/غروبquot; هو الفيلم الروائي القصير الأول للمخرج السعودي الشاب محمد الظاهري.
لا شك في أن البساطة التي أشار إليها قرار لجنة التحكيم هي عنصر ملحوظ من عناصر الفيلم الأساسية. فهذا العمل هو الفيلم الأول في رصيد المخرج محمد الظاهري. والبدايات، كما هو معروف، لابد أن تشوبها بعض النواقص والعيوب، غير أن عزاءنا الوحيد يكمن في مواصلة هذا المشروع وتعزيزه بأعمال قادمة نلمس فيها مؤشرات التطور في مجمل مفاصل العمل الفني بدءًا من كتابة النص السينمائي، مرورًا بالمعالجات الفنية، وانتهاءً بالرؤية الاخراجية التي تُختزل في توقيع المخرج نفسه على المادة الفنية المُنهمك فيها. ولكي نجيب على الاسئلة التي طرحناها أمام القارئ الكريم لابد من تتبع بنية القصة السينمائية التي اعتمدها المخرج لتوضيح الخطوط العامة لمشروعه الفني.

الرؤية الاخراجية
تكشف الحوارات التي نشرتها بعض الصحف الخليجية أن محمد الظاهري مولع برصد الظواهر الاجتماعية في المجتمع السعودي. ومجموعة quot;تلاشيquot;التي ينتمي اليها الظاهري إضافة الى تسعة مخرجين سعوديين آخرين وهم فهد الأسطاء، تركي الرويتع، حسام البنا، عبد المحسن المطيري، محمد الحمود، نواف المهنا، عبد المحسن الضبعان، محمد الخليف، وحسام الحلو. هؤلاء جميعًا يضعون الشأن المحلي في قلب اهتماماتهم الفنية، ويسعون جاهدين الى رصد الظواهر المجتمعية وتحليلها وانتقادها بشدة كما حصل في فيلم quot;شروق/غروبquot; الذي رصد عدة ظواهر سلبية وطرحها بشجاعة قد تبدو نادرة في مجتمع تقليدي محافظ.
من هنا تأتي أهمية كشف المستور، وتعرية المحجوب، والافصاح عن المسكوت عنه. فربما لا يجرؤ العديد من المخرجين على تناول موضوعات من قبيل القهر الأسري والاضطهاد التربوي والقمع الديني بحجة أن هذه الموضوعات هي خطوط حمراء لا ينبغي تجاوزها أو الحديث عنها لأنها تفضح ظاهرة خطيرة مسكوتًا عنها بفعل العادات والتقاليد الاجتماعية التي تشترط عدم نشر هذا الغسيل الممجوج على حبال وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة.

تجليات القمع
يزخر هذا الفيلم بعدد من أشكال القمع المُتعارف عليها، ولكننا سنقتصر الحديث على بعض أنواع القمع التي تجلت بشكل واضح في هذا الفيلم وهي القمع الأسري والديني والتربوي والجنسي والمعرفي. لو تمعنا في المَشاهد الافتتاحية للفيلم على مدى دقيقتين وبضعة ثوان لوجدنا أن التركيزعلى الفقر المدقع للعائلة والذي يمكن معرفته من خلال البيت المتآكل الذي تقطنه هذه العائلة الفقيرة المؤلفة من ثلاثة أشخاص وهم الأب الصامت والأم الأكثر صمتًا والصبي الصغير الذي لم يتحدث إلا لمامًا، ربما لكونه الضحية الكبرى الذي لم يجد ما يقوله إزاء المحنة التي يمّر بها في ظل الظروف القمعية التي يفرضها المجتمع التقليدي على ضحاياه الذين لا يتوفرون على معرفة حقيقية بحقوق الانسان عامة، وحقوق الطفل على وجه الخصوص. فالبيت متآكل من الداخل، وفقير، ومجرد من أشياء ضرورية وكمالية كثيرة. وقد لاحظنا مشهد المغسلة الفقيرة والحمّام الأكثر فقرًا، وغرفة الاستقبال الخالية من مائدة الطعام. إذ شاهدنا أفراد الأسرة وهم يفترشون الأرض وأمامهم وجبة افطار شحيحة مؤلفة من ثلاث بيضات وبعض الخبز وإبريق شاي. الملاحظة الأكثر أهمية ان هناك قطيعة غريبة من نوعها، فالصمت هو سيد الموقف وكأن كل فرد من هذه العائلة غارق في محنته، ومتوحد في عالمه الخاص. وثمة مذياع يبث آية مجتزأة من الآية quot;72quot; من quot;سورة الأنفالquot; وردت على الشكل التالي quot;وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلاّ لقطة من فيلم شروق/غروبعلى قومٍ بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعلمون بصيرquot;. ثم تنتقل الكاميرا الى خارج البيت لتصور مشاهد مدروسة لزقاق موحش وكئيب. فهذا الحي الفقير خالٍ من المارة تقريبًا. الصبي الصغير نراه جالسًا على دكة الباب، غارقًا في صمته ووحدته وربما يأسه المطلق. الحركة اللافتة للانتباه أن الأب حينما يخرج يستل علبة السجائر من جيبه، ويوقد واحدة منها، ينقر بإصبعه على رأس إبنه، وكأن النقر بهذه الطريقة الفجة هي الاسلوب الوحيد الذي يتقنه الأب في التعاطي مع ولده أو فلذة قلبه كما يُفترض. حتى المؤثرات الصوتية شحيحة، موسيقى تشي بالحزن والعزلة والاكتئاب. طوال الطريق الى المدرسة لم ينبس الأب أو الابن ببنت شفة. فالصمت هو لغتهما الوحيدة، ووسيلتهما المثلى للتواصل السلبي. يبدو الابن أكثر استغراقًا في وحدته وكأنه يعرف بأنه ضحية ليس للقمع الأسري حسب، وإنما لسلسلة مدروسة من الضغوطات التي لابد أن يمر بها في البيت والمدرسة والشارع وهيئة quot;المعروفquot;.
في المدرسة تبدأ آلية القمع التربوي. فالمعلم لا يفعل شيئًا سوى التلقين وإنزال العقوبات الصارمة بالتلاميذ الذين لم يحفظوا عن ظهر قلب بعض القصائد التقليدية، فيما ينهمك بقية التلاميذ بتمرير الصور الملونة العارية لبعض النساء الفاتنات. ولأن الصبي المقموع أسريًا لم يحفظ القصيدة جيدًا لذلك نراه يبرّد يده في ماء مغسلة الحمّام علّه يخفف من أوار النار الملتهبة في عروقها. أما التلميذ الآخر الذي يتبول في المغسلة كنوع من الاحتجاج والتمرد على القوانين المدرسية فإنه يعرض يديه المحمرتين والمتضررتين جراء الضرب المبرح على زميله المقموع لكي يوحي لنا بأن القمع التربوي ظاهرة عامة ولا تقتصر على تلميذ دون آخر. وفي طريق العودة من المدرسة الى البيت نكتشف أن نشرات الأخبار لا تعدو أن تكون نوعًا آخر من القمع الذي تمارسه المحطات الإذاعية العربية التي تجلد مستمعيها بنمط ممل من الأخبار المتشابهة والمتكررة التي تكشف هشاشة المواطن العربي وضعفه إزاء خصمه الاسرائيلي، تمثيلاً لا حصرًا.
حينما يعود الصبي الصغير من المدرسة لا يذهب إلى البيت كي يدرس أو يمارس حياته الطبيعية، بل يأتي به والده الى نقطة الاشارة الضوئية الواقعة قرب أحد الجسور لكي يزاول عمله المسائي في بيع المناديل والعطور على أصحاب السيارات المارة من هناك. وكأن الشارع قد اصبح ملاذه الأول والأخير، فحينما يجوع يُخرج زوادته من حقيبته ليسد بها رمقه، ويطفئ غائلة الجوع. وحينما يهدّه التعب ينام متكئًا على دكات الشارع الاسمنتية. فالطفل لا يعرف حقوقه وواجباته في مثل هذه المجتمعات التقليدية التي تحوله في نهاية المطاف الى ضحية أو شخص منحرف في أفضل الأحوال. تمامًا كما حصل لهذا الصبي الذي وجد نفسه أمام شاب مثلي أدْخله في زاوية محتجبة عن الأنظار ومارس معه الجنس مغتصبًا إياه في مشهد مؤلم يثير الشفقة حقًا، ويكشف عن حجم التقصير المروّع لبعض الآباء إزاء أبناءهم الذين أصبحوا ضحايا لأنهم لا يعرفون حقوقهم الطبيعية التي تضمن لهم حياة آمنة وسعيدة. المشكلة أن هيئة quot;المعروفquot; لا تقبض على الجاني الذي يظل طليقًا، بينما تلاحق الضحية وتقبض عليها لكي تمارس نوعًا آخر من القمع السلطوي المتمثل بالبوليس الديني حيث نرى أحدهم وهو يلاحق الجاني الذي يهرب بسيارته وحينما ييأس منه يلاحق الضحية الذي ينجو أول الأمر، لكننا نراه في خاتمة المطاف وهو يُحشَر في جوف السيارة ويُقاد الى هيئة quot;المعروفquot; لكي يقمع من جديد، ويتعرض للضرب المبرح من قبل البوليس الديني الى أن يدلي برقم هاتفه المنزلي حيث يتم الاتصال بوالديه وإخبارهم بحالة الاغتصاب التي تعرض لها من قبل جانٍ لا يزال حرًا طليقًا.
بدأ الفيلم بمشهد لثلاث نوافذ مضاءة وانتهى بنافذتين مضاءتين يقبع خلفهما ضحية لا يعرف أبسط حقوقه الانسانية الأمر الذي يكشف حجم القمع المعرفي الذي ينضاف الى سلسلة آليات القمع التي تتعرض لها الطفولة في عالمنا العربي الذي يخضع لاشكاليات المجتمع المحافظ ذي العادات والتقاليد الاجتماعية المتخلفة عن ركب الأمم المتحضرة.

الرؤية الفكرية
ينطوي هذا الفيلم على رؤية فكرية واضحة لمخرج الفيلم ومؤلفه ومنتجه محمد الظاهري الذي وضع نصب عينيه المجتمع السعودي راصدًا ومحللاً بعضمحمد الظاهري يحمل بيديه جائزة المهر العربي والتنويه الخاصالعادات والتقاليد الاجتماعية التي يراها بالية ولا تتماشى مع روح العصر. الملاحظ أن أحداث الفيلم تقع في مدينة الرياض، فهي مسقط رأس المخرج، والنافذة التي يتطلع من خلالها الى العالم. ولو دققنا في محاور البحث التي ركز عليها المخرج لوجدناها شديدة الحساسية، فلا غرابة أن تثير ردود فعل أغلبها سلبي وبعضها إيجابي. ومرّد التركيز على الجانب السلبي متأتٍ من quot;مشهد الاغتصابquot; الذي لم يظهر منه إلاّ جانب مُبتسر يهيمن فيه صوت الجاني أولاً ثم الألم المكبوت للضحية ثانيًا. وربما لهذا السبب لم يُعرض هذا الفيلم المملكة العربية السعودية بحجة تصوير فعل الاغتصاب أولاً وكون الضحية صبي سعودي أو ابن مواطن مقيم على أرض المملكة لأن الفيلم لم يكشف عن هويتة هذه الأسرة التي أبتليت بفقرها وجهلها، وأخيرًا بالمحنة التي ستعصف بها لأننا موقنون تمامًا بالقرار الذي سيتخذه الأب الجاهل والمتخلف بعد أن يستمع للمكالمة الهاتفية المرتقبة من قبل بوليس هيئة quot;المعروفquot; الذي سيخبره صراحة بأن ابنه قد تعرض للاغتصاب من قبل جانٍ هارب عن وجه العدالة. ربما يكون السبب الثاني لمنع عرض هذا الفيلم في أيٍ من مدن المملكة العربية السعودية هو النقد اللاذع الذي وجهه المخرج لآلية القمع التربوي المتمثلة بإنزال أقسة أشكال العقاب البدني على التلاميذ الذين لم يؤدوا واجباتهم المدرسية على أكمل وجه. أما الأسباب الأخرى التي منعت عرض هذا الفيلم فهي النقد الأسري الذي وجهه المخرج الى العائلات والأسر التي تنتهك أبسط حقوق الطفولة حينما تترك أبناءها يعملون في الشوارع العامة بغية تأمين بعض النقود على حساب طفولتهم المُضاعة.
نخلص الى القول إن هذا الفيلم الجريء يكشف عن شجاعة مخرجه ومؤلفه الذي وضع مجتمعه السعودي على طاولة التشريح مُنتقدًا نقاط الضعف الموجودة لديه ليس بهدف التشهير، وإنما بغية الإصلاح وتقويم الرؤية المعوجة والارتقاء بالانسان العربي الى المكانة التي يستحقها عن جدارة.