أطأ هذه الأرض لأوّلِ مرة. أشعر بالاختلاف. إلا أني، بشكل من الأشكال، أعرف معظم ما أراه هنا. قرأت عنه في روايات مترجمة بأقلام ابناء هذا البلد. عجبا هل أستطيع الوصول إلى العنوان في حقيبتي اليدوية. ازددت تمسكا بها تحت أبطي وحملت باليد اليمنى حقيبة متاعنا بينما آبنتي ذات الخمس سنوات تتشبث بذراعي اليسار. بالتأكيد، لسنا هائمتيْن في العراء. هناك إشارات لا تعدّ ولا تحصى في ممرات وقاعات المطار الفسيحة، لكني عاجزة عن فهم ما تعني. ينطبق عليّ المثل العراقي quot; مثل الاطرش بالزّفةquot;، لابأس. تمكنتُ من الاصطفاف مع غيري في الطابور، بعد أن تفرست في الوجوه، مطمئنة من أنها هي نفسها الهابطة معي من الطائرة في مطار هيثرو بلندن قبل قليل. بعد الانتهاء من استفسارات موظف الجوازات البريطاني، ببعض شق نفس، نجوت منه، منفرجة الاسرار. هرعت بعيدة عنه قدر ما استطيع لأتجنبه، سالمة غانمة. (كان عام 1965 وبريطانيا لا تعقد حاجبيها طويلا بالتفكير العميق عند رؤيتها القادمين من العراق، المفلسين، المقهورين. لم تظهر فظاعة الصورة بعدُ. العراقيون المتواجدون هنا قلائل، فكرة اللجوء السياسي أو الانساني لا تخطر بالبال أو يتحدث بها أصلا بين الافراد.) العيش، اليوم، على مسؤوليتي بمجرد أن أخرج من المطار. على عزيمتي وحكمتي أجد طريقة للوصول إلى مبتغاي.
عوّلتُ على أربع كلمات إنكليزية مهمة في نظري، استقيتها من قاموس (الياس)، هيPlease, thank you, sorry,and,Goodbye, مع ثلاث جمل تبتديء بعبارات الاستفهام الضرورية لأسئلتي. تزودت بها للمعرفة والتفاهم مع من حولي ببريطانيا. لولا أن الناس في قاعة المطار، متسارعين جيئة وذهابا. يحبطون مسعاي في ايقافهم لآستعمالها. كيف أبدأ بسؤالهم عما يدور في ذهني؟ شاهدتُ، صدفة، من بعيد، عتالا للحقائب، متكئا على عربته آملا بانتظار رؤية زبون. اتجهت نحوه مغتبطة. أعطيته العنوان الذي في حقيبتي مبتدئة بالكلمة الاولى التي تعلمتها، Please، المحببة لهم هنا، كما قيل لي، أي quot;من فضلكquot;. لم تتهلل اساريره، كما توقعتُ، بعد سماعه هذه الكلمة الرنانة بحسابي، كونها لم تكن سوى شئ عادي من أجل سؤاله: أين يقع هذا العنوان؟ مع ذلك، ورغم خيبته في رزق يأتيه مني، تحمّلني هذا المسكين وبدا كريما معي. عرف جهلي ومحنتي بصبر إنكليز يشيحون بوجوهم ويصمتون كأبي الهول أثناء الكلام الفارغ، اللافائدة منه، ويعطفون ويساعدون، فقط، الضعيف والمنكوب من الانسان والحيوان. اشار لي بحركات من يديه وعينيه المعبرتين المهتمتين أن أسير بهذا الاتجاه، وكان الطريق المعني الشارع العام. مع ذلك تريثت واقفة قربه، على أمل أن تخرج من بين شفتيه كلمة أخرى مفيدة صالحة لي وإذا به يتفوه بكلمة ( باص). فاضتْ عواطفي تجاهه، التقطتُ أنفاسي، تمنيت مصافحته بعد استعمال كلمة Thank you، طبعا، لشكره مع كثير من المودة والامتنان. اسرعتُ بهذه النفسية المتفهمة المنتعشة التقط حقيبتنا وأشدُ على يد طفلتي لننطلق، كما لو كنت على بصيرة من أمري ودربي. وجدت موقعا لحافلة نقل ركاب قريبة من باب المطار. هيا، هرولنا اليها مسرعتين قبل أن يفوتنا شئ قادم، ناسية أن رقم الحافلة ضروري في مثل حالتنا. لكن لاضطرابي وخوفي صرت أحسّ أن مجرد رؤية باص أحمر أليف يسير، في شوارع لندن، سيرد عليّ روحي وطمأنينتي. يذكرني بما اعتدتُ على الركوب فيه من مواصلات في الماضي ببغداد، عند ذهابي وأيابي من البيت إلى الكلية. جلبت بريطانيا لنا الحافلة الحمراء بعد الحرب العالمية الثانية.
سيدة جالسة قربنا بانتظار الحافلة، قعدنا جنبها. حانت مني التفاتة ليديها فوجدت أظافرها مطلية باللون الأخضر الفاقع. دهشت، ثم أطرقت للمنظر. بدأ شعوري يتكون منذ تلك اللحظة أن الناس أحرار هنا، حتى في صبغ أجسادهم بما يحلو لهم من تشوهات بالنسبة لمقاييسنا. على أية حال، نسيتُ المرأة كلية بعد دقيقة. صعدنا الحافلة التي وصلت لموقع الانتظار. كان مشوارنا، على ما يبدو، طويلا، خصوصا بعد أن أرشدنا أحد الجالسين الراغبين في مساعدتنا، كي نأخذ حافلة أخرى. بدأ يكتب رقم الحافلة لنا على قصاصة أخرجها من حقيبة صغيرة متعاطفا مع منظرنا الحائر. منبها اياي بالاشارات في نفس الوقت للتفاهم. لحسن الحظ،، معظم الجالسين في الحافلة التفتوا علينا، بسبب لغطنا، وإذا بأحدهم ينبري مؤكدا بالاشارات أيضا، إنه سينزل في المحطة التي أريدها ولذا علينا أن ننتظر معه وننزل مرة أخرى لنأخذ الحافلة المطلوبة. نبقى في مكاننا، أشار لي، عدة مرات مؤكدا. هكذا اعتمدنا عليه في ترحالنا وسيرنا بخطواتنا التالية لنلتحق به في الحافلة الثانية.
أخيراً، عند الوصول، ووقوف الحافلة، وأنا حريصة على طفلتي أكثر من حرصي على حقيبة متاعنا، تبرع هذا الشخص الطيب بحمل حقيبتنا كي يخفف عني العناء. أوصلنا للعنوان، مشكورا، في دار يسكن فيها زوجي وقد سبق أن ألححت عليه كي يغادر العراق قبل ما يقرب من سنة على أمل أن ألتحق به بعدئذ.
4/7/1965
استيقظنا صباحا مبكرين، على زقزقة عصافير تأتي من شباك وحيد في الغرفة الصغيرة المؤجرة لزوجي. بقينا في الفراش نكمل أحاديثنا عن العراق، الأهل، الاصدقاء، النقود طبعا، حاجتنا للتفتيش عن مسكن خاص بنا، كون صاحبة الدار التي آوتنا وأطعمتنا البارحة تتبع القانون البريطاني الذي لا يسمح لها بتأجير غرفتها إلا لساكن واحد. أطنب زوجي في مدحها والثناء على حسن سيرتها ولم أكن بحاجة لذلك خصوصا إذا ما تذكرت معاملتها لنا البارحة، من دون لغة، ولا معرفة سابقة، لكن هذا لم يمنعها من أن تتولى حمايتنا وتفتح بابها لتدخلنا غرفة الجلوس عندها. قدمت عشاء لنا إلى أن عاد زوجي من الخارج في العاشرة ليلا، متفاجئا برؤيتنا ولم يكن يعلم باليوم والساعة بالضبط لوصول طائرتنا لصعوبة الاتصالات الهاتفية به، حينها، وهو لا يملك هاتفا خاصا به في غرفته.
23. 12. 1965
أرى اكتظاظ المتسوقين في المخازن والاسواق. ازدانت الشواع بالزينة والمصابيح الملونة والبيوت باشجار عيد الميلاد المتألقة بالاضواء. فهمت أنهم بصدد الاحتفال بأعياد رأس السنة الميلادية الجديدة. أصرّت ابنتي، وهي الآن طالبة بالمدرسة حسب نظام التعليم هنا والذي يحتم على الوالدين ارسال ابنائهم اليها ابتداء من سن الخامسة، راغبة أن نشتري لنا شجرة عيد ميلاد في بيتنا، كغيرنا، لتزيّنها مثل صديقاتها ورفيقاتها في المدرسة.
لن أنسى منظر أول شجرة عيد ميلاد في بيتنا. كيف ابتهجنا برؤيتها عندنا وسرور ابنتنا الخيالي الذي أتاح لها أن تفرح كغيرها من الاطفال. صعدت سيدة الدار المؤجرة لشقتها في بيتها لنا، والتي كانت تسكن في الطابق السفلي ويداها محملة بهدايا لعب لابنتنا بالمناسبة، مع دعوة لنا كي نزورها صباح يوم عيد كرسمس بعد يومين. سألتنا وهي خارجة من بيتنا، بعد توديعنا:
-هل أنتم مسيحيون؟ اعتقدتكم اسلاما.
تساءلت حين شاهدت شجرة عيد الميلاد مضاءة، عندنا، أثناء خروجها. أجبتها، طالبة من زوجي أن يترجم ردي من أجل الدقة:
-نحن مسيحيون في أعياد المسيحيين، ومسلمون في أعياد المسلمين، أما إذا تحاربا فنحن لسنا من هؤلاء ولا هؤلاء.
7/6/ 1967
تعلّم اللغة الانكليزية مثل تعلّم السباحة. يوم أغرق باليّم، ومرة أخرى أنجو بإعجاز. أتجنب لقاء صاحبة البيت كي لا أضطر للحديث معها وأحرج بالاخطاء. آكتشفت هذه المرأة، بفطنة يقظة، حالتي فأعطت زوجي مذياعا عتيقا مهملا عندها حين ذهب لدفع الايجار الشهري. سررت كثيرا به ووضعته في المطبخ، استمع الى إذاعة إنكليزية يسمونها كما قيل لي العمة لشدة حرصها على إرضاء جميع السكان المتكلمين بهذه اللغة في كل أنحاء العالم ويطلق عليها ألـ B.B.C. بدأنا نجلب صحيفة يومية كل يوم أقرأ فيها أخبار منطقة الشرق الاوسط برمتها. أُتابعها بحرص وكأنني أتحدث مع أحدهم يعرفني. ملتجئة اليها لشدة عزلتي.
فترة متعبة قلقة، حصلت قبل شهر حرب الايام الستة بين العرب واسرائيل. استمعت للاذاعات العربية وهي تهدر بالكذب على المستمعين، علمتني أن أتحفظ عليها، بعدئذ. ليس هناك من يتحدث العربية إلا نادرا ولا أعثر على مواد غذائية معتادة عليها تأتي من تلك البلدان، متأسفة وكئيبة في التسوق من المخازن. تتكدس في معظمها معلبات وبضاعة مثلجة، تنتشر البطاطة والجزر واللهانة بشكل ممل، مزعج، أما منظر الدجاج الابيض المعلق المذبوح في مخازن اللحم فيسبب لي صدّ شهية للأكل.
21. 1. 1969
في الطريق، وأنا عائدة للبيت شاهدت مخزن بائع للصحف وقد وضع على لوحة اعلانات دكانه صحيفة اليوم. كانت صحيفة مسائية خطّ على صفحتها الأولى عنوان ضخم: quot; إعدام في الساحة العامة ببغداد quot;. وقفت قربها وقلبي يدق فزعا. تبين بعد أن اشتريتها منه أن هؤلاء المعلقين على أعواد المشانق بالساحة العامة، متهمين بالعمالة وهم خونة للعراق. معظمهم من كبار التجار ومن الصناعيين. قرأت الصحيفة وحدي مستعينة بالقاموس الموجود قربي على منضدة المطبخ حيرى. شعرت بالخجل من منظر جمهرة العراقيين المتفرجين عليهم كمعرض للزهور و كنزهة في الهواء الطلق للاستمتاع.
23. 6. 1970
وقفت حذو السياج مع جارتي القبرصية، بعد أن اشترينا بيتا صغيرا في ضواحي لندن فيه حديقة حاولت زرعها بنباتات تذكرني بمنطقة الشرق الاوسط،. استعنتُ بجارتي القبرصية وزوجها الذي كان فلاحا في قبرص قبل تشريدهما وهجرتهما إلى بريطانيا. بدأت تنمو، بعد فترة، شجرة متسلقة للعنب جميلة حسناء. كذلك أعطياني، في الخريف الماضي، ساقا من فرع غصن لشجرة توت عندهما ليصبح الغصن متجذرا، عندي، مستندا على عصا منتصبا كشجرة فارعة الطول تحظى بالاحترام. أخبراني أن هناك أملا كبيرا في أنها ستثمر هذا العام. امتلأت بالغبطة والاعتزاز. تصادقنا أنا والجارة. كنا نقف نتحادث ساعة أو أكثر، عبر السياج. نتذكر وطننا فنشعر بمأساة تنغّص علينا حياتنا ونشاطاتنا في الحديقة. ذكراه تمنعنا من التمتع كلية بجمال ربيع لندن وانقشاع شتائها الكئيب الطويل وبهجة ما ينمو في حديقتنا من مزروعات. قالت لي يوما وكانت متألمة من وطنها المقسم وشعبها المهدد بالعنف لتنهي كلامها متألمة قبل أن نعود ألى داخل بيوتنا منكسفتين: quot; كم يكتشف الانسان من اشياء للخلاص من أمراض فتاكة كالكوليرا والسل والجدري وغيرها، لكنه لم يتمكن، حتى الآن، من اكتشاف شيء للقضاء على العنف والحروبquot;.
1.11. 1970
اجتزت آختبار امتحان سياقة السيارة. أستطيع الآن أن آخذ ابنتي، التي صار عمرها عشر سنوات، إلى المدرسة أو لزيارة صديقاتها البعيدات. كنا مرة في الطريق نصغي للمذياع اثناء السير، فاجأتني بالسؤال:
-ماما ما معنى الـ IRA
بعد أن سمعت المذيع وهو يتحدث عنها، أجبتها:
-هذه منظمة الجيش الجمهوري الايرلندي يحارب بريطانيا، كما تسمعين. لا يقبلون أن يدخلوا في مناقشة سياسية بدل الصراع المسلح والقتل والتفجيرات.
- ولماذا يتحاربون؟
- اوه، قصة طويلة، يريدون انضمام ايرلندا الشمالية إلى دولة ايرلندا الجنوبية لأنها مثلهم كاثوليك، ولكن يعيش معهم في الشمال اسكتلنديون لا يقبلون الانضمام إلى الجنوب، مفضلين البقاء مع بريطانيا لأنها مثلهم بروتستانت.
نظرتُ إلى وجهها في الخلف بمرآة السيارة امامي، نظرة خاطفة لإرى ردود أفعالها بعد شرحي. هل استوعبت الفكرة ترى؟ فهمتْ ما أعني؟ أرى عينيها تنظران إلى لا شئ. صمتتْ تهضم الفكرة، باعتقادي. بروتستانت، كاثوليك، ايرلندا الشمالية، ايرلندا المستقلة. مفردات طارئة على قاموسها البرئ. لا يخطر ببال الطفل استعمالها. أردت أن اطمئنها فقلت:
-بالمناسبة، كلهم متشابهون، معظمهم بيض وشقر وعيون ملونة. لا يوجد أي اختلاف في اشكالهم.
-كيف عرفوا، إذن، أنهم مختلفون؟
- أحدهم قال لهم ذلك.
-هؤلاء مضحكون.
قالتْ مشيحة بوجهها، متطلعة لرؤية الطريق عبر نافذة السيارة. حالها حال أي انسان قبل أن يتلوث بالتعصب على مهل. لا يمكن معرفة متى تصبح ابنتي متعصبة أيضا. قضية لا تفهم الآن.
( بعد ثلاثين سنة، كما نعرف، قال جيري آدم، الناطق الرسمي باسم الجيش الجمهوري الايرلندي: quot;إنه وقت للسلام وللمحادثة quot; في الشهر السادس من عام 2005 ).*
* المداخلة التي أُلقيت في الملتقى الدولي الأول للكتاب العرب في المهجر بالجزائر العاصمة من تأريخ 24. 6. إلى 29. 6.2007، بمناسبة كون الجزائر هي العاصمة الثقافية العربية لهذا العام. إشرفت على فعاليات الملتقى وزارة الثقافة والمكتبة الوطنية الجزائرية مع المركز العربي للأدب الجغرافي- أبو ظبي ndash; لندن.
التعليقات