محمد سامي البوهي: قصيدة النثر أو القصيدة (الخرساء) كان هذا عنوان كتاب الشاعر(أحمد عبد المعطي حجازي) الصادر عن مجلة دبي الثقافية-نوفمبر2008، وقد جاء موضوع الكتاب كما هو مبين؛ ليكمل قضية قديمة يجددها الكاتب بين الفينة والأخرى ليذكرنا ببطولاته، مضيفاً إلى تاريخ معاركه معركة هي مستهلكة ومبتذلة، ولم تعد تضيف للمثقف العادي ما يثيره أو يثريه، حتى ولو مجرد متعة التفرج، فقصيدة النثر هي ماضية في طريقها، وشعراء قصيدة النثر لم يصابوا بانقراض، بل هم في تزايد مستمر، فلكل وجهة نظره التي من حقه أن يدلي بها ما دامت لا تخرج عن إطار اللياقة، وأصول الحوار، وهذا ما أكده الكاتب في مقدمة كتابه المراوغة، والتي صرح فيها بعدم اعتراضه على ما يكتب تحت مسمى (قصيدة النثر) ولكنه من ناحية أخرى يبدي اعتراضه على هذا النوع من الكتابة التي تحمل هذا الاسم الغريب على حد قوله، عارضاً لوجهة نظر المؤيدين الذين أرادوا أن يميزوا بين الشعر والنظم، ممثلاً للسان حالهم بألفية ابن مالك التي جاءت موزونة مقفاة، ولكنها لا تمس الشعر في شيء، وقول الشاعر الإنكليزي إليوت quot;إنه ما من شاعر يستطيع أن يكتب قصيدة تأخذ مداها ما لم يكن أستاذاً في النثر quot;، ثم يسحبنا دون أن نشعر لصالة أخرى يعرض فيها وجهة نظره المغايرة، مدللاً بالأمثلة على حق الشاعر في استعمال أدوات وعناصر لا يحق للناثر أن يستخدمها، كالوقوف على الحركة، والترخيم، والتقديم والتأخير وغيرها، متناسياً المرونة والاحتواء التي تميز لغتنا العربية وآدابها عن غيرها من اللغات، وقد أدخلها الساحة على سبيل المقارنة والاستشهاد غير المدعوم بحجة قاطعة، فيقول في ختام المقدمة quot;أتساءل في النهاية : إذا كانت قصيدة النثر لا تزال في الآداب الأوروبية التي خرجت منها استثناء، فكيف تكون في الأدب العربي؟.جاء الفصل الثالث يحمل عنواناً مستفزاً(القصيدة الخرساء)، وانطلاقاً من هذا العنوان حاولت الاقتراب من منطق الكاتب، باحثاً عن وجهته النقدية المقنعة، فلست في صدد الدفاع عن قصيدة النثر، بل أنا مجرد قارئ يسعى إلى الاقتناع، فوجدت منطقه منطقا ذاتيا، أحادي الاتجاه، قدم له وبرهنه، كمن نصب نفسه، متهماً، ومحامياً، وقاضياً في الوقت ذاته ، فيصل بنا إلى تبريرات لمقدمات صنعها مسبقاً، فيقول مفسراً لما أسماه (القصيدة الخرساء):quot;المشكلة الكبرى في لغتنا الفصحى أنها لغة نقرأها بعيوننا، ولا نكاد ننطقها بألسنتنا؛لأننا لا نتعامل بهاquot;ومن ثم كانت النتيجة النهائية من وجهة نظره بأن قصيدة النثر هي ثمرة من ثمار هذا الصمت فيقول في نهاية هذا الفصل: quot;قصيدة النثر إذاً ثمرة من ثمار الصمت الذي أصبنا به، فنحن خرس لا نقول ولا ننشدquot;والسؤال الآن لمَ خص قصيدة النثر وحدها بهذا الخرس، رغم أنها وحدة لا تنفصل عن باقي أجناس الأدب العربي؟إذاً لو قسنا هذا المنطق العجيب على باقي الأجناس؛لخلصنا إلى أن جميع أنواع الشعر خرساء، باستثناء الشعر العامي، وجميع أنواع النثر أيضاً هي خرساء، فمطلوب منا إذاً أن نضع أمام أفواهنا مكبرات للصوت أثناء ممارستنا القراءة لتصبح آدابنا ومنها قصيدة النثر آداباً ناطقة. من الغريب أن أزج بجنس أدبي يميزني، ويمنحني قيمة عالية برتبة شاعر وأضعه في المواجهة مع جنس أدبي آخر برتبة الند، بمعركة هي خاسرة في جولتها الأولى، وهذا ما تشير إليه الخلفيات الماضية بداية من العصر العباسي الأول حينما شهد الشعر محاولات للتغيير بدأها (بشار ابن برد) و حتى الآن، وسرعان ما ينصهر الحديث ببوتقة القديم، حتى يصبح الحديث قديماً ببزوغ الأحدث، ولم يستطع أحد على مر العصور التدخل لإيقاف تلك الدورة الحتمية عند حد معين، وتلك هي الكأس نفسها التي شرب منها (حجازي)، عندما خرج العقاد مندداً بشعر الحداثة، وشعرائها، أمثال (صلاح عبد الصبور)، ( حجازي)واضعاً عليه تأشيرته الشهيرة (يحال على لجنة النثر)، وذلك ليبعده عن لجنة الشعر الذي كان مقرراً لها بالمجلس الأعلى للفنون والآداب في مصر آنذاك، وقد خصص الكاتب الفصل السادس(شرف لا أدعيه، وتهمة لا أنكرها) ليرد على من يزعم بأن موقفه من قصيدة النثر شبيه بموقف العقاد من الشعر الجديد، خصوصاً أنه يجلس الآن في مكان العقاد نفسه رئيساً للجنة الشعر، وأخذ يسرد واقعة مهرجان دمشق للشعر الذي دعي إليه هو و(عبد الصبور) من قبل المجلس الأعلى للفنون والآداب، فأرسل العقاد ليوسف السباعي في دمشق مهدداً بالاستقالة إذا سمح لهم بإلقاء أشعارهم الجديدة، وبالطبع رضخ السباعي للتهديد، فالعقاد هو العقاد زعيم زعماء الثقافة الجديدة، وذلك على حد قوله، فعاد حجازي للقاهرة غاضباً، ونظم قصيدة في هجاء العقاد نشرها في جريدة quot;الأهرامquot;، والغريب في الأمر أنه لم ينظمها على طريقة الشعر الجديد الذي ينتهجه، ويدافع عن وجوده، بل نظمها بالبحور التقليدية التي لا يتسامح العقاد في الخروج على قاعدة من قواعدها، ويعبر حجازي عن أسفه وخجله الآن لأنه في سورة من سورات غضبه آذى هذا الرجل العظيم، ولكنه يعود ليثبت عدم تطابق موقفه بموقف العقاد رغم التشابه بينهما لأن كل ثورة لابد أن تصير في النهاية إلى نظام وإلا فهي لم تحقق شيئاً، وهذا هو وجه التشابه الذي يقره من وجهة نظره، فقد ثار العقاد على شعراء عصره لأن أشعارهم جاءت باردة لا روح فيها، ومع ظهور (الرومنطيقيون) تحولت ثورته إلى ذوق عام، وهو وشعراء جيله ثاروا على العقاد، وأثبتوا للناس أن الشاعر يستطيع أن يتحرر من الأوزان التقليدية ويكتب شعراً جديداً، أما عدم التطابق فقد برره باختلاف موقفه الآن، عن موقف العقاد الذي بشر بالشعر الحر أو الشعر المرسل ثم حاربه، واعتبره نثراً، أما هو فلم يتحمس قط لقصيدة النثر، ولم يغير فيها رأيه إلى الآن، لأنه لم يجد النموذج الذي يقنعه بأنها شكل من أشكال الشعر، ويختتم (حجازي) متمادياً في خوض منطقه الغريب بقوله quot;ولنفرض في النهاية أني أكرر العقاد، فمن ذا الذي يكررني؟!quot;.
قاص وباحث مصري مقيم بالكويت