قراءتي أدبيات 'قصيدة النثر' ، سواء في لحظة ' الريادة' أم تلك التي تلتها، لم تصنع انقلاباً، بين عشية وضحاها، في قصيدتي. احتاج الأمر وقتاً، ليس طويلا.. على أي حال.
هناك حادثة دالة، أستطيع اعتبارها بداية لتململي من ' قصيدة الوزن'. كنت في مطلع عام 1979 أنزل ضيفاً على الشاعر السوري الصديق عادل محمود في دمشق فقرأ لي، على عادة الشعراء، تلك الأيام، بعضا من قصائده، وعندما فرغ من القراءة سألني رأيي في ما سمعت.
كنت ،آنذاك، ما أزال جلفاً لم تهذبني المدينة ولم تبرِ الأيام نتوءاتي الحادة، فقلت له من دون أن يرّف لي جفن: وهل تعتبر هذا شعراً؟
كان عادل محمود أكثر لياقة مني، خصوصاً وأنا ضيفه، فلم لم يوجه إلي لكمة من قبضته القوية.. فقال إنه، بالتأكيد، يعتبر ذلك شعراً. احتجاجي لم يكن منصباً فقط على غياب الوزن في القصائد، بل، أيضا، على النثرية العادية التي تتحلّى بها، فقلت له، بتحدٍ صبيانيّ، أعطني قلماً وورقة لأكتب أمامك مثل هذه القصائد. الغريب في الأمر أن عادل أعطاني، فعلاً، قلماً وأوراقاً، ورحت على طاولة المطبخ التي كنا نجلس إليها أكتب شيئا من وحي المكان نفسه. كان ذلك قريبا جدا من شكل وعالم قصائده التي لا أتذكر، الآن، عما كانت تدور، ولكني أتذكر انني كتبت شيئا يشبه التالي:
ها نحن نجلس على طاولة المطبخ يا عادل محمود.
ندخن ونحتسي شيئاً،
الستائر تهتز رغم ان الرياح
المواتية لم تأت بعد.
الأغرب من ذلك أن عادل محمود لم يعتبر ما كتبته سيئاً، فقد قبضت، بتصوره، على تفاصيل اللحظة الهاربة التي نعيشها. النقاش الذي دار بيننا في الأيام الثلاثة التي بت فيها ببيته بدمشق كان يصدر من جهتين متقابلتين: فقد كان يعتبر أن ما أكتبه من قصائد موزونة هو شعر، ولكنه مقيد، بينما لم أعتبر قصائده شعرا بسبب نثريتها العادية وعريها البلاغي والايقاعي. لم أكن بعيداً عن اليومي والتفصيلي في قصائدي التي تنخرط، باجتهاد، في مدرسة سعدي يوسف، ولكنها لم تكن عارية من الجهاز البلاغي والمجازي والايقاعي الذي يصنع فارقاً، ينبغي الحفاظ عليه، بين الشعر والنثر. الأمر لا يتعلق باليومي. فلو كان كذلك، لما استهجنته، خصوصاً، وأنني أكتبه. لا بد أن الأمر يتعلق، إذن، بشيء آخر، أقصى هذه القصائد من الفردوس الشعري الذي أعرفه. هل هو الوزن؟ هو على الأغلب كذلك، فالقصيدة، تجري على اللسان بسيولة وايقاع منتظم مثلما يمكن تصورهما في الذاكرة. القصيدة، بهذا المعنى، تكتب، تقريبا، مسبقا. جهازها الايقاعي شبه جاهز وليس عليك سوى أن تصب فيه الألفاظ والصور. فلما سمعت قصائد عادل محمود كانت أذني هي التي تستقبل، فتقبل، أو ترفض. وفي هذه الحالة كانت ترفض، لأن ما وقع عليها لم يكن له مرجع منهجي في أرشيفها . كانت الأذن تفرز، تلقائيا، ما هو شعري وما هو غير شعري. الشعري يقع في المطابقة وغير الشعري يقع في المنافرة. وما سمعته كان نافرا.
استطرد، هنا، باستخدام تلك الخبرة مع قصائد عادل محمود لا بوصفها نموذجاً ناجحاً أو فاشلا، في quot;قصيدة النثرquot;، ولكن بوصفها خروج القصيدة، على نحو تام، من الوزن. من الانتظام الايقاعي الذي تستطيع تتبع دفقه ذا الوحدات الموسيقية المتشابهة المتواصلة أو أن تقف على عثراته ونشازاته.
اليومي عنده، لم يكن يشبه اليومي عندي، فهو مسترخ، منسرح، لا يتورع عن استخدام معجم النثر نفسه وأدواته اللتين نصادفهما في مقالة. كانت فكرة استخدام أسماء الاشارة وأحرف العطف وأدوات التشبيه والربط والظروف مزعجة بالنسبة لي. الشعر الجيد، في نظري، آنذاك، هو الذي يتمكن من تفادي تلك الروابط والاتكاءات التي تصل الكلام بعضه ببعض أو تفضي الى شيء من الشرح والوصف. إنه النثر وحده الذي تكثر فيه تلك الروابط وتتخلله فتحيله إلى كلام، أو ما يشبه الكلام، فيما الشعر تصفية للكلام من quot;زوؤانquot; النثر.
عرفت في تلك السفرة، التي كان عنوانها ممدوح عدوان وعلي الجندي اللذان جئت اليهما مسلحا برسالة توصية احتفائية من صديقهما حيدر حيدر في بيروت، اسماء شابة في المشهد الشعري السوري.
وباستثناء نزيه أبو عفش الذي كان يزاوج وقتها، بين quot; قصيدة الوزنquot; وquot;قصيدة النثرquot; ، فإن الشعراء الآخرين الذين التقيت معظمهم في مقهى quot; اللاتيرناquot; الدمشقي، كانوا يكتبون quot; قصيدة النثرquot;: بندر عبد الحميد، رياض الصالح الحسين، حسان عزت، بشير البكر، ويبدو أن quot; قصيدة النثرquot;، ذات النفس الماغوطي البيّن، كانت اكثر انتشارا في سورية مما هي عليه في لبنان الذي كانت تنحو فيه هذه القصيدة، بالمجمل، في اتجاه اللغة والاستبطان والنأي، ما أمكن، عن quot;المؤثرات الخارجيةquot;.
عرفت، وقتها، ان لقصيدة النثر في سورية أسلافاً مغمورين لم نسمع باسمائهم مثل: سليمان عواد، أورخان ميسر، وسليمان عامود ، لكن اسم الماغوط القادم اليهم، بتلك المسحة السحرية التي تضفيها بيروت، عادة، على من يقيم فيها، أو يمر بها مروراً، طغى عليهم. قرأت لاحقاً، بعض أعمال هؤلاء واكتشفت انها اصبحت dated ( متقادمة) حسب التعبير الانكليزي، فيما ظلت قصيدة الماغوط تحظى بتداولية وتأثير لم يقيضا للسابقين عليه في هذا الصدد، ما يعنى أن قصيدة الماغوط، نفسها، بما تضمنته من حرارة وصور وحشية وتماسك بنائي، كانت أساسا في تحولها نموذجا مبكرا لـ quot;قصيدة النثرquot; ، وليس فقط بسبب تعميده بيروتيا من قبل مجلة quot;شعرquot;.
ثمة، إذن، ما يتقادم، وينبو عن ذوق اللحظة الراهنة.
وثمة ما يبقى محتفظا بجاذبية للقراءة والتأثير.. بل والاقتفاء.
وذلك سر من أسرار الشعر العصية، أحيانا، على التفسير.
لاحظت، استطراداً، أن كثيراً من قصائد مجلة quot; شعرquot;، التي صار في امكاني الحصول على اعدادها في بيروت، طاله ذلك quot; التقادمquot;. بدا شعرا متصلبا، خشبيا، بلا نسغ، أو قدرة على تحريك شيء في النفس، فيه كثير من الانشاء والصنعة وقليل من الحياة. وهذا أمر طالما حيرني في الشعر. أقصد كيف تتمكن القصيدة من عبور quot;ذوقquot; لحظتها لتتجاوب مع قراءة وذوق قادمين بعد وقت طويل على كتابتها؟ وكيف تتمكن من الحفاظ على ذلك الشرط الذي نسميه: متعة القراءة؟ ناهيك عن التأثير.
لا أملك جوابا.
لن يعرف أحد فينا، نحن الذين نكتب الشعر اليوم، ما الذي سيبقى من شعره، ما الذي سينجو من التقادم، وما الذي سيقرأ في حينه كأنه كُتبَ اليوم. ما الذي سيتمكن من تغذية تطلب قادم للشعر؟
لا بد أن تلك السفرة الى دمشق وما تخللها من نقاشات وصلت الليل بالنهار حول الشعر والتدخل السوري الطازج في لبنان، قد تركت أثرا عليَّ. ففي ذلك الوقت لم أكن قد عرفت، شخصياً، شعراء quot; الموجة الثانيةquot; من quot; قصيدة النثرquot; اللبنانية، وإن كنت أقرأ بعضهم.
هناك حادثة دالة، أستطيع اعتبارها بداية لتململي من ' قصيدة الوزن'. كنت في مطلع عام 1979 أنزل ضيفاً على الشاعر السوري الصديق عادل محمود في دمشق فقرأ لي، على عادة الشعراء، تلك الأيام، بعضا من قصائده، وعندما فرغ من القراءة سألني رأيي في ما سمعت.
كنت ،آنذاك، ما أزال جلفاً لم تهذبني المدينة ولم تبرِ الأيام نتوءاتي الحادة، فقلت له من دون أن يرّف لي جفن: وهل تعتبر هذا شعراً؟
كان عادل محمود أكثر لياقة مني، خصوصاً وأنا ضيفه، فلم لم يوجه إلي لكمة من قبضته القوية.. فقال إنه، بالتأكيد، يعتبر ذلك شعراً. احتجاجي لم يكن منصباً فقط على غياب الوزن في القصائد، بل، أيضا، على النثرية العادية التي تتحلّى بها، فقلت له، بتحدٍ صبيانيّ، أعطني قلماً وورقة لأكتب أمامك مثل هذه القصائد. الغريب في الأمر أن عادل أعطاني، فعلاً، قلماً وأوراقاً، ورحت على طاولة المطبخ التي كنا نجلس إليها أكتب شيئا من وحي المكان نفسه. كان ذلك قريبا جدا من شكل وعالم قصائده التي لا أتذكر، الآن، عما كانت تدور، ولكني أتذكر انني كتبت شيئا يشبه التالي:
ها نحن نجلس على طاولة المطبخ يا عادل محمود.
ندخن ونحتسي شيئاً،
الستائر تهتز رغم ان الرياح
المواتية لم تأت بعد.
الأغرب من ذلك أن عادل محمود لم يعتبر ما كتبته سيئاً، فقد قبضت، بتصوره، على تفاصيل اللحظة الهاربة التي نعيشها. النقاش الذي دار بيننا في الأيام الثلاثة التي بت فيها ببيته بدمشق كان يصدر من جهتين متقابلتين: فقد كان يعتبر أن ما أكتبه من قصائد موزونة هو شعر، ولكنه مقيد، بينما لم أعتبر قصائده شعرا بسبب نثريتها العادية وعريها البلاغي والايقاعي. لم أكن بعيداً عن اليومي والتفصيلي في قصائدي التي تنخرط، باجتهاد، في مدرسة سعدي يوسف، ولكنها لم تكن عارية من الجهاز البلاغي والمجازي والايقاعي الذي يصنع فارقاً، ينبغي الحفاظ عليه، بين الشعر والنثر. الأمر لا يتعلق باليومي. فلو كان كذلك، لما استهجنته، خصوصاً، وأنني أكتبه. لا بد أن الأمر يتعلق، إذن، بشيء آخر، أقصى هذه القصائد من الفردوس الشعري الذي أعرفه. هل هو الوزن؟ هو على الأغلب كذلك، فالقصيدة، تجري على اللسان بسيولة وايقاع منتظم مثلما يمكن تصورهما في الذاكرة. القصيدة، بهذا المعنى، تكتب، تقريبا، مسبقا. جهازها الايقاعي شبه جاهز وليس عليك سوى أن تصب فيه الألفاظ والصور. فلما سمعت قصائد عادل محمود كانت أذني هي التي تستقبل، فتقبل، أو ترفض. وفي هذه الحالة كانت ترفض، لأن ما وقع عليها لم يكن له مرجع منهجي في أرشيفها . كانت الأذن تفرز، تلقائيا، ما هو شعري وما هو غير شعري. الشعري يقع في المطابقة وغير الشعري يقع في المنافرة. وما سمعته كان نافرا.
استطرد، هنا، باستخدام تلك الخبرة مع قصائد عادل محمود لا بوصفها نموذجاً ناجحاً أو فاشلا، في quot;قصيدة النثرquot;، ولكن بوصفها خروج القصيدة، على نحو تام، من الوزن. من الانتظام الايقاعي الذي تستطيع تتبع دفقه ذا الوحدات الموسيقية المتشابهة المتواصلة أو أن تقف على عثراته ونشازاته.
اليومي عنده، لم يكن يشبه اليومي عندي، فهو مسترخ، منسرح، لا يتورع عن استخدام معجم النثر نفسه وأدواته اللتين نصادفهما في مقالة. كانت فكرة استخدام أسماء الاشارة وأحرف العطف وأدوات التشبيه والربط والظروف مزعجة بالنسبة لي. الشعر الجيد، في نظري، آنذاك، هو الذي يتمكن من تفادي تلك الروابط والاتكاءات التي تصل الكلام بعضه ببعض أو تفضي الى شيء من الشرح والوصف. إنه النثر وحده الذي تكثر فيه تلك الروابط وتتخلله فتحيله إلى كلام، أو ما يشبه الكلام، فيما الشعر تصفية للكلام من quot;زوؤانquot; النثر.
عرفت في تلك السفرة، التي كان عنوانها ممدوح عدوان وعلي الجندي اللذان جئت اليهما مسلحا برسالة توصية احتفائية من صديقهما حيدر حيدر في بيروت، اسماء شابة في المشهد الشعري السوري.
وباستثناء نزيه أبو عفش الذي كان يزاوج وقتها، بين quot; قصيدة الوزنquot; وquot;قصيدة النثرquot; ، فإن الشعراء الآخرين الذين التقيت معظمهم في مقهى quot; اللاتيرناquot; الدمشقي، كانوا يكتبون quot; قصيدة النثرquot;: بندر عبد الحميد، رياض الصالح الحسين، حسان عزت، بشير البكر، ويبدو أن quot; قصيدة النثرquot;، ذات النفس الماغوطي البيّن، كانت اكثر انتشارا في سورية مما هي عليه في لبنان الذي كانت تنحو فيه هذه القصيدة، بالمجمل، في اتجاه اللغة والاستبطان والنأي، ما أمكن، عن quot;المؤثرات الخارجيةquot;.
عرفت، وقتها، ان لقصيدة النثر في سورية أسلافاً مغمورين لم نسمع باسمائهم مثل: سليمان عواد، أورخان ميسر، وسليمان عامود ، لكن اسم الماغوط القادم اليهم، بتلك المسحة السحرية التي تضفيها بيروت، عادة، على من يقيم فيها، أو يمر بها مروراً، طغى عليهم. قرأت لاحقاً، بعض أعمال هؤلاء واكتشفت انها اصبحت dated ( متقادمة) حسب التعبير الانكليزي، فيما ظلت قصيدة الماغوط تحظى بتداولية وتأثير لم يقيضا للسابقين عليه في هذا الصدد، ما يعنى أن قصيدة الماغوط، نفسها، بما تضمنته من حرارة وصور وحشية وتماسك بنائي، كانت أساسا في تحولها نموذجا مبكرا لـ quot;قصيدة النثرquot; ، وليس فقط بسبب تعميده بيروتيا من قبل مجلة quot;شعرquot;.
ثمة، إذن، ما يتقادم، وينبو عن ذوق اللحظة الراهنة.
وثمة ما يبقى محتفظا بجاذبية للقراءة والتأثير.. بل والاقتفاء.
وذلك سر من أسرار الشعر العصية، أحيانا، على التفسير.
لاحظت، استطراداً، أن كثيراً من قصائد مجلة quot; شعرquot;، التي صار في امكاني الحصول على اعدادها في بيروت، طاله ذلك quot; التقادمquot;. بدا شعرا متصلبا، خشبيا، بلا نسغ، أو قدرة على تحريك شيء في النفس، فيه كثير من الانشاء والصنعة وقليل من الحياة. وهذا أمر طالما حيرني في الشعر. أقصد كيف تتمكن القصيدة من عبور quot;ذوقquot; لحظتها لتتجاوب مع قراءة وذوق قادمين بعد وقت طويل على كتابتها؟ وكيف تتمكن من الحفاظ على ذلك الشرط الذي نسميه: متعة القراءة؟ ناهيك عن التأثير.
لا أملك جوابا.
لن يعرف أحد فينا، نحن الذين نكتب الشعر اليوم، ما الذي سيبقى من شعره، ما الذي سينجو من التقادم، وما الذي سيقرأ في حينه كأنه كُتبَ اليوم. ما الذي سيتمكن من تغذية تطلب قادم للشعر؟
لا بد أن تلك السفرة الى دمشق وما تخللها من نقاشات وصلت الليل بالنهار حول الشعر والتدخل السوري الطازج في لبنان، قد تركت أثرا عليَّ. ففي ذلك الوقت لم أكن قد عرفت، شخصياً، شعراء quot; الموجة الثانيةquot; من quot; قصيدة النثرquot; اللبنانية، وإن كنت أقرأ بعضهم.
يمكنني أن أستخلص من سفرتي إلى دمشق ولقاءاتي بالشعراء السوريين وتلك المعارضات لقصائد عادل محمود، أن فكرة كتابة قصيدة من دون وزن ليست عملا خارج الشعر، وأن استراقي النظر الى أعمال رواد quot;قصيدة النثرquot; وبعض الذين تلوهم في لبنان، لم يكن بلا ميل، أصيل، عندي لـquot;الانشقاقquot;.
أكثر من ذلك، كشفت لي تلك المعارضات لـ quot;قصيدة النثرquot; التي كتبتها أمام عادل محمود، عن الترابط بين quot;قصيدة النثرquot; والواقع.
بدا يتضح لي أن الواقع ليس، بالضرورة، كبيرا، شاملا صلبا، وإنما يمكنه أن يكون صغيراً، متناهياً، وركيكا، وان القصيدة قد لا تلُّم، بتحليق افتراضي مجنّح، بكل شيء، بل بوسعها أن تنكتب عن شيء معين، أو مطرح صغير لا تبارحه. لم يكن صعبا عليَّ تقبل فكرة أن القصيدة قد تتناول مطبخا وستارته التي تهتز، وربما، صحونه التي في المجلى، فقد كتبت من قبل قصائد فيها أرصفة ومقاه وكراسي قش وصحون من الحمص وسجائر وقمصان واشارات ضوئية، ولكن ذلك حدث في اطار جهاز بلاغي وايقاعي وصوري يفصل، بخط واضح، بين الشعر والنثر.
النثرية التي تستضيف الواقع، أو الحياة اليومية، المتناهية في الصغر أو في العادية و المجانية، هذه النثرية التي لا يشدها عصب كانت هي التي أقلقتني.
كانت القصيدة تبدأ عندي من دندنة ايقاعية، من لحن غامض، ثم يأخذ قوامها يكتسي، تدريجا، لحماً وعظماً وعصباً، فإذا ذهبت هذه الدندنة التي تنطلق، بالضرورة، من وزن معطى، متدارك، متقارب، رمل أيا يكن، فمن أين أبدأ؟ قد لا أكون فكرت بالأمر على هذا النحو الواضح لمفاتيح القصيدة عندي، ولكن، من المؤكد، انني شعرت، على نحو مُبهم، بذلك.
طبعاً، نحن عندما نكتب قصيدة، سواء كانت وزناً أو نثراً، لا نفكر كيف ومن أين تبدأ. ما زال في الشعر، حتى في أكثر حالاته نثرا، ذلك النبض الغامض، ذلك الصدى القادم من بعيد غير مُكّتَنَهٍ، تلك الاشارات التي تلوح لكل بني البشر ولا يعرفون مصدرها، والأسوأ، لا يحسنون استقبالها. ليس الشاعر، على هذا الصعيد، استثناء، لانه ليس نبياً ولا ساحراً ولا لاعب اكروبات.. انه مثل جميع السائرين في مناكبها، لكن ميزته هي في حيازته الأدوات التي بامكانها تحويل تلك الذبذبات الأرضية الطائشة إلى قوام ملموس يدعى القصيدة، والقوام الملموس كان يبدأ دائماً، من قالب ايقاعي معطى. من هناك تبدأ القصيدة، بصرف النظر عن موضوعها، فإذا لم تعد هذه القوالب موجودة، كيف سأكتب قصيدة من دونها؟
هكذا، لم أقرر في الساعة كذا من اليوم الفلاني الموافق لسنة 1979 ميلادية، أن أصبح شاعر quot;قصيدة نثرquot;. فلم يكن الأمر انقلاباً يتطلب اذاعة البيان رقم واحد. لم يطرأ عليَّ أي تغير دراماتيكي يمكن أن يكون دليلا على هذا الانتقال. كنت ما أزال أسكن في الطابق السادس في بناية تقع بمنطقة quot;أبو شاكر من فوقquot; بالطريق الجديدة، ولي الشعر الطويل نفسه والشاربان ذاتهما، أعمل في مجلة quot;الهدفquot; المطلة على quot;كورنيش المزرعةquot;، ومنخرط في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومتزوج، حديثاً، من اللبنانية هند الصاروط.
لا بد أن الأمر حدث على نحو بطيء وتجريبي، بدأ بالاسم، والهوية. إذ أن خربشاتي في quot;قصيدة النثرquot; لم تكن مختلفة، كثيرا، عن القصائد الموزونة، وقد لا يفرق، من لا يعرف الوزن، بينها وتلك المفعَّلة من حيث بنيتها، وتقطيعها، والى حد ما، إيقاعها.
لكن من الواضح أن هذه القصيدة بدأت تقلقني، وتأخذ بالاستيلاء علي، تدريجا، الى حد أنني سارعت إلى اضافة القصائد الثلاث التي ضمها ديواني الأول quot;مديح لمقهى آخرquot; في آخر لحظة، وهي مؤرخة، كما يظهر ذلك في ذيلها، في شهر حزيران(يونيو) 1979، بينما صدر الديوان في الشهر الذي يليه. لم يكن هذا هو الديوان نفسه الذي قرأه حيدر حيدر وسعدي يوسف وزكياه لصديقهما سليمان صبح صاحب دار نشر quot;ابن رشدquot; حديثة العهد في سوق النشر اللبنانية التي قدمت كتبا لافتة ميزتها بسرعة. الاضافة التي لم يعرفها حيدر حيدر وسعدي يوسف كانت في تلك القصائد الثلاث.
أما نثرية هذه القصائد فقد تكون في عدم حذف وتصفية ما كنت أعتبرته، قبلا، لأسباب ايقاعية وجمالية صرفة، لغوا، أو حشوا، أو اتكاء عاجزا على لوازم تضعف البناء الشعري. وعندما أقول إن الانتقال كان تدرجاً وتداخلا مع قصيدتي السابقة فذلك لأن اللحظة نفسها لم تكن، بعد، حبلى بدعاوى quot;قصيدة النثرquot; النضالية الحاسمة. كان التنظير الأول لقصيدة النثر الذي قام على بعض أفكار أدونيس ومقدمة quot;لنquot; لأنسي الحاج وترجمة فصل من كتاب الفرنسية سوزان بيرنار وبعض الشذرات المتفرقة في مجلة quot;شعرquot; وغيرها، قد نأى عن كتابة تلك اللحظة، ولعله لم يتمكن من وضع محددات للكتابة اللاحقة.
وعندما بدأ شعراء الموجة الثانية من quot;قصيدة النثرquot; اللبنانية، الذين كانوا على بعد فراسخ قليلة من بيتي في quot;الطريق الجديدةquot;، بالكتابة، لم يصدروا من بيان ولا دعاوى نظرية حاسمة. بل، على الاغلب، من ضجر حيال دعاوى quot;الحداثةquot; وquot;الهدمquot; أو من جلجلة النشيد وفخفخة اللغة، وربما من موقف مضاد لما هو سائد شعريا وسياسيا.
كان هناك انبثاق تلقائي لهذه المجموعة، من دون بيان معلن وبلا منبر محدد تتمحور حوله. البيان كان هو القصائد نفسها والعروض النقدية التي ترافق صدور أعمال جديدة، أما المنبر فقد كان متوزعاً بين صحيفة اليسار (السفير) وصحيفة يمين الوسط (النهار) ، فضلا عن منابر أقل تأثيراً وانتشاراً.
كانوا، أصلاً، قلة وسط قصيدة فلسطينية ـ لبنانية وطنية لها الصوت الأعلى في الساحة. لم يكن الفلسطينيون، وحدهم، يكتبون قصيدة quot;الثورةquot; وقصيدة فلسطين، بل فعل اللبنانيون كذلك، وكانت الظاهرة اللبنانية الأبرز هي quot;شعراء الجنوبquot; الذين كتبوا، أيضا، قضية الجنوب وقضية فلسطين وقضية القومية العربية واستدعاء الجانب المتمرد من التراث، وقد اجتمعوا، معا، على صفحات مجلة quot;الآدابquot; في أواخر عصرها الذهبي. كان للحلف السياسي الفلسطيني اللبناني شعره وشعراؤه، لكن الانصاف يقتضي القول إن بعض اللبنانيين، حتى وهم منخرطون في معمعان القضية الوطنية والقومية، تحلوا بشيء من الانضباط العاطفي والشغل على القصيدة، ميّز أبرز اسمائهم عن نظرائهم الآخرين، باستثناء محمود دوريش بشعريته الفذة التي كانت تفرده على حدة وسط quot;الهدير الجماجميquot; لشعر الساحة.
بالامكان، أيضا، المراهنة على أن شاعرين شابين كزكريا محمد وغسان زقطان، وهما أقرب أصدقائي في الساحة والقادمان بعدي، بقليل، الى بيروت، سيحافظان على خشبة خلاص توصلهما الى أرضٍ ما بعد أن ينحسر الهدير. وقد فعلا.
ليس quot;شعراء الجنوبquot;، مع ذلك، كتلة واحدة، ولم يكن صعبا تبين الفوارق بين قصائدهم، فقد كان واضحاً أن لحسن العبد الله لغة هادئة وصوتا خفيضا واحتفاء بالصورة والمشهد، فيما تحلى محمد علي شمس الدين بشعرية قوية قادرة على التفرع والتشعب في أكثر من اتجاه، كما تمكن ملاحظة دقة الفاظ قصيدة جودت فخر الدين، وقرب شوقي بزيع من اليومي وصوره الملموسة، وليس صدفة، أن يواصل هؤلاء الكتابة بعد انحسار الموجة وأن يبقى ذكرٌ حسنٌ لمن توقف منهم ( حسن العبد الله، مثلا).
شعراء القصيدة الوطنية الفلسطينية ـ اللبنانية كانوا عربا، أيضا، وكانوا أكثر ممن أحصيت. إذ يكفي تصفح مجلات وصحف المرحلة لتطالع رهطا كبيرا من كتاب تلك القصيدة، ولكن، شأن كل الموجات والمراحل الكتابية، لم يواصل الكتابة إلاَّ قلة.
هذا استطراد طويل. والقصد منه القول إن اختيار قصيدة خارج النظام التفعيلي، وبالضرورة، بعيدا عن هدير القصيدة الوطنية، كان خيارا هامشيا بامتياز. انه كتابة على الهامش المتروك لا المتن المكتظ.
ولعل في الأمرquot; شجاعةquot; أيضاً عبر عن اعجابه بها محمود درويش لكاتب هذه السطور، لاحقاً، بالقول: شجاعتكم تكمن في تخليكم عما هو مؤكد ومضمون شعرياً لصالح خيار غير مؤكد ولا مضمون على هذا الصعيد.
أكثر من ذلك، كشفت لي تلك المعارضات لـ quot;قصيدة النثرquot; التي كتبتها أمام عادل محمود، عن الترابط بين quot;قصيدة النثرquot; والواقع.
بدا يتضح لي أن الواقع ليس، بالضرورة، كبيرا، شاملا صلبا، وإنما يمكنه أن يكون صغيراً، متناهياً، وركيكا، وان القصيدة قد لا تلُّم، بتحليق افتراضي مجنّح، بكل شيء، بل بوسعها أن تنكتب عن شيء معين، أو مطرح صغير لا تبارحه. لم يكن صعبا عليَّ تقبل فكرة أن القصيدة قد تتناول مطبخا وستارته التي تهتز، وربما، صحونه التي في المجلى، فقد كتبت من قبل قصائد فيها أرصفة ومقاه وكراسي قش وصحون من الحمص وسجائر وقمصان واشارات ضوئية، ولكن ذلك حدث في اطار جهاز بلاغي وايقاعي وصوري يفصل، بخط واضح، بين الشعر والنثر.
النثرية التي تستضيف الواقع، أو الحياة اليومية، المتناهية في الصغر أو في العادية و المجانية، هذه النثرية التي لا يشدها عصب كانت هي التي أقلقتني.
كانت القصيدة تبدأ عندي من دندنة ايقاعية، من لحن غامض، ثم يأخذ قوامها يكتسي، تدريجا، لحماً وعظماً وعصباً، فإذا ذهبت هذه الدندنة التي تنطلق، بالضرورة، من وزن معطى، متدارك، متقارب، رمل أيا يكن، فمن أين أبدأ؟ قد لا أكون فكرت بالأمر على هذا النحو الواضح لمفاتيح القصيدة عندي، ولكن، من المؤكد، انني شعرت، على نحو مُبهم، بذلك.
طبعاً، نحن عندما نكتب قصيدة، سواء كانت وزناً أو نثراً، لا نفكر كيف ومن أين تبدأ. ما زال في الشعر، حتى في أكثر حالاته نثرا، ذلك النبض الغامض، ذلك الصدى القادم من بعيد غير مُكّتَنَهٍ، تلك الاشارات التي تلوح لكل بني البشر ولا يعرفون مصدرها، والأسوأ، لا يحسنون استقبالها. ليس الشاعر، على هذا الصعيد، استثناء، لانه ليس نبياً ولا ساحراً ولا لاعب اكروبات.. انه مثل جميع السائرين في مناكبها، لكن ميزته هي في حيازته الأدوات التي بامكانها تحويل تلك الذبذبات الأرضية الطائشة إلى قوام ملموس يدعى القصيدة، والقوام الملموس كان يبدأ دائماً، من قالب ايقاعي معطى. من هناك تبدأ القصيدة، بصرف النظر عن موضوعها، فإذا لم تعد هذه القوالب موجودة، كيف سأكتب قصيدة من دونها؟
هكذا، لم أقرر في الساعة كذا من اليوم الفلاني الموافق لسنة 1979 ميلادية، أن أصبح شاعر quot;قصيدة نثرquot;. فلم يكن الأمر انقلاباً يتطلب اذاعة البيان رقم واحد. لم يطرأ عليَّ أي تغير دراماتيكي يمكن أن يكون دليلا على هذا الانتقال. كنت ما أزال أسكن في الطابق السادس في بناية تقع بمنطقة quot;أبو شاكر من فوقquot; بالطريق الجديدة، ولي الشعر الطويل نفسه والشاربان ذاتهما، أعمل في مجلة quot;الهدفquot; المطلة على quot;كورنيش المزرعةquot;، ومنخرط في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومتزوج، حديثاً، من اللبنانية هند الصاروط.
لا بد أن الأمر حدث على نحو بطيء وتجريبي، بدأ بالاسم، والهوية. إذ أن خربشاتي في quot;قصيدة النثرquot; لم تكن مختلفة، كثيرا، عن القصائد الموزونة، وقد لا يفرق، من لا يعرف الوزن، بينها وتلك المفعَّلة من حيث بنيتها، وتقطيعها، والى حد ما، إيقاعها.
لكن من الواضح أن هذه القصيدة بدأت تقلقني، وتأخذ بالاستيلاء علي، تدريجا، الى حد أنني سارعت إلى اضافة القصائد الثلاث التي ضمها ديواني الأول quot;مديح لمقهى آخرquot; في آخر لحظة، وهي مؤرخة، كما يظهر ذلك في ذيلها، في شهر حزيران(يونيو) 1979، بينما صدر الديوان في الشهر الذي يليه. لم يكن هذا هو الديوان نفسه الذي قرأه حيدر حيدر وسعدي يوسف وزكياه لصديقهما سليمان صبح صاحب دار نشر quot;ابن رشدquot; حديثة العهد في سوق النشر اللبنانية التي قدمت كتبا لافتة ميزتها بسرعة. الاضافة التي لم يعرفها حيدر حيدر وسعدي يوسف كانت في تلك القصائد الثلاث.
أما نثرية هذه القصائد فقد تكون في عدم حذف وتصفية ما كنت أعتبرته، قبلا، لأسباب ايقاعية وجمالية صرفة، لغوا، أو حشوا، أو اتكاء عاجزا على لوازم تضعف البناء الشعري. وعندما أقول إن الانتقال كان تدرجاً وتداخلا مع قصيدتي السابقة فذلك لأن اللحظة نفسها لم تكن، بعد، حبلى بدعاوى quot;قصيدة النثرquot; النضالية الحاسمة. كان التنظير الأول لقصيدة النثر الذي قام على بعض أفكار أدونيس ومقدمة quot;لنquot; لأنسي الحاج وترجمة فصل من كتاب الفرنسية سوزان بيرنار وبعض الشذرات المتفرقة في مجلة quot;شعرquot; وغيرها، قد نأى عن كتابة تلك اللحظة، ولعله لم يتمكن من وضع محددات للكتابة اللاحقة.
وعندما بدأ شعراء الموجة الثانية من quot;قصيدة النثرquot; اللبنانية، الذين كانوا على بعد فراسخ قليلة من بيتي في quot;الطريق الجديدةquot;، بالكتابة، لم يصدروا من بيان ولا دعاوى نظرية حاسمة. بل، على الاغلب، من ضجر حيال دعاوى quot;الحداثةquot; وquot;الهدمquot; أو من جلجلة النشيد وفخفخة اللغة، وربما من موقف مضاد لما هو سائد شعريا وسياسيا.
كان هناك انبثاق تلقائي لهذه المجموعة، من دون بيان معلن وبلا منبر محدد تتمحور حوله. البيان كان هو القصائد نفسها والعروض النقدية التي ترافق صدور أعمال جديدة، أما المنبر فقد كان متوزعاً بين صحيفة اليسار (السفير) وصحيفة يمين الوسط (النهار) ، فضلا عن منابر أقل تأثيراً وانتشاراً.
كانوا، أصلاً، قلة وسط قصيدة فلسطينية ـ لبنانية وطنية لها الصوت الأعلى في الساحة. لم يكن الفلسطينيون، وحدهم، يكتبون قصيدة quot;الثورةquot; وقصيدة فلسطين، بل فعل اللبنانيون كذلك، وكانت الظاهرة اللبنانية الأبرز هي quot;شعراء الجنوبquot; الذين كتبوا، أيضا، قضية الجنوب وقضية فلسطين وقضية القومية العربية واستدعاء الجانب المتمرد من التراث، وقد اجتمعوا، معا، على صفحات مجلة quot;الآدابquot; في أواخر عصرها الذهبي. كان للحلف السياسي الفلسطيني اللبناني شعره وشعراؤه، لكن الانصاف يقتضي القول إن بعض اللبنانيين، حتى وهم منخرطون في معمعان القضية الوطنية والقومية، تحلوا بشيء من الانضباط العاطفي والشغل على القصيدة، ميّز أبرز اسمائهم عن نظرائهم الآخرين، باستثناء محمود دوريش بشعريته الفذة التي كانت تفرده على حدة وسط quot;الهدير الجماجميquot; لشعر الساحة.
بالامكان، أيضا، المراهنة على أن شاعرين شابين كزكريا محمد وغسان زقطان، وهما أقرب أصدقائي في الساحة والقادمان بعدي، بقليل، الى بيروت، سيحافظان على خشبة خلاص توصلهما الى أرضٍ ما بعد أن ينحسر الهدير. وقد فعلا.
ليس quot;شعراء الجنوبquot;، مع ذلك، كتلة واحدة، ولم يكن صعبا تبين الفوارق بين قصائدهم، فقد كان واضحاً أن لحسن العبد الله لغة هادئة وصوتا خفيضا واحتفاء بالصورة والمشهد، فيما تحلى محمد علي شمس الدين بشعرية قوية قادرة على التفرع والتشعب في أكثر من اتجاه، كما تمكن ملاحظة دقة الفاظ قصيدة جودت فخر الدين، وقرب شوقي بزيع من اليومي وصوره الملموسة، وليس صدفة، أن يواصل هؤلاء الكتابة بعد انحسار الموجة وأن يبقى ذكرٌ حسنٌ لمن توقف منهم ( حسن العبد الله، مثلا).
شعراء القصيدة الوطنية الفلسطينية ـ اللبنانية كانوا عربا، أيضا، وكانوا أكثر ممن أحصيت. إذ يكفي تصفح مجلات وصحف المرحلة لتطالع رهطا كبيرا من كتاب تلك القصيدة، ولكن، شأن كل الموجات والمراحل الكتابية، لم يواصل الكتابة إلاَّ قلة.
هذا استطراد طويل. والقصد منه القول إن اختيار قصيدة خارج النظام التفعيلي، وبالضرورة، بعيدا عن هدير القصيدة الوطنية، كان خيارا هامشيا بامتياز. انه كتابة على الهامش المتروك لا المتن المكتظ.
ولعل في الأمرquot; شجاعةquot; أيضاً عبر عن اعجابه بها محمود درويش لكاتب هذه السطور، لاحقاً، بالقول: شجاعتكم تكمن في تخليكم عما هو مؤكد ومضمون شعرياً لصالح خيار غير مؤكد ولا مضمون على هذا الصعيد.
الموجة الثانية
في نهاية السبعينات بدأت تتخلق كوكبة من شعراء الموجة الثانية لـquot;قصيدة النثرquot; في أحشاء اللحظة السائدة. كان معظم هؤلاء يقيمون، أو يلتقون، في منطقة quot;الحمراquot;، ولم أكن قد تعرفت، بعد، إلا على واحد منهم هو بسام حجار الذي كان يعمل وقتها في صحيفة quot;النداءquot; لسان حال الحزب الشيوعي اللبناني.
لا أتذكر كيف تعرفت ببسام. ولكن لا بد أن يكون ذلك اثر نشر قصائد لي في الصفحة الثقافية لـquot;النداءquot; أو غيرها من الصحف اللبنانية، فقد كان المتبرمون من شعر اللحظة السائدة، يجمعهم، لهذا السبب بالذات، نوع من الحلف غير المعلن. أتذكر انني كنت التقي بسام حجار، على الواقف، تقريبا، بالقرب من مقهى quot;الجندولquot; على كورنيش المزرعة حين أكون قد فرغت من عملي في مجلة quot;الهدفquot; ويكون هو في طريقة الى quot;صيداquot; التي لم يغادرها، على ما أظن، الى اليوم.
كان بسام حجار أول شعراء هذه الموجة الجديدة من quot;قصيدة النثرquot; اللبنانية الذين تعرفت اليهم شخصيا، بينما كنت أقرأ لعباس بيضون وبول شاؤول وحمزة عبود، وحسن الشامي ومحمد أبي سمرا وعبده وازن وعقل العويط ووديع سعادة.
وما إن صدر ديواني الأول quot;مديح لمقهى آخرquot; (1979) حتى كان موضع احتفاء منهم، فقد كتب عنه، بعض هؤلاء بتقريض خالص، وفي ذلك العام صدر أيضا العمل الشعري الأول لبسام حجار quot;مشاغل رجل هاديءquot; ولاقى حفاوة بالغة من نفس العصبة أيضا.
لم تؤسس تلك المجموعة ولادة الموجة الثانية لقصيدة النثر، اللبنانية فحسب، بل أسست ظاهرة، لم تكن موجودة، على هذا النحو، من قبل: الشعراء النقاد.
فقد بدا أن النقد السائد، وهو بمعظمه، صورة في المرآة للقصيدة السائدة، غير قادر على فهم ما جاءت به هذه القصيدة من جماليات مغايرة، فضلا عن كونه غير متعاطف معها. لا النقد الذي انبثق من مجلة quot;شعرquot;، بكل نواياه الحسنة تجاه التجديد، كان بمقدوره أن يفعل ذلك، ولا النقد الذي يرتاب، أساساً، بنسبة هذه القصيدة الى الشعر العربي، فما كان من الشعراء إلا أن أخذوا على عاتقهم أمر قراءتها نقديا والتنظير لشعريتها في مواجهة الهجوم عليها.
وسيعبّر بسام حجار، سنين بعد ذلك، عن إرث اللحظة النقدي قائلا: quot;ورثنا، الى نقد كل شيء، نقد الشعر، او بيان وظائفه وغاياته الخ.. فأدركنا، في وعي حائر، ان لا وجود لنقد الشعر ولما هو شعري، وما يوجد، بالفعل، هو قارئ الشعر، فالأحرى، أن تطرح اسئلة الشعرية في صيغ أخرى على القارئ الغُفل، شبيهناquot;.
لم يكن النقد، إذن، سوى جزء من إرث quot;ينقدquot; كل شيء، ولكنه، ينتهي، الى نقد لا شيء، لأن النقد لم ينفرد انفراد الأشياء، بل يرد بوعي مطمئن، تماما، لأدواته ومقاصده، المنفرد والسائب الى المجموع والصف.
نقد كهذا، لا تقع القصيدة التي تطلع من بين الشقوق والتصدعات في مرماه، فهو لم يرها، وإن رآها، فهي ليست أكثر من هرطقة أو صدى للترجمة.
ولا أظن أن ظاهرة شعرية عربية أنتجت نقدها من داخلها كما فعلت هذه الموجة، الأمر الذي صار تقليدا لبنانيا ما عتم أن عمّ الساحة العربية.
لا أتذكر كيف تعرفت ببسام. ولكن لا بد أن يكون ذلك اثر نشر قصائد لي في الصفحة الثقافية لـquot;النداءquot; أو غيرها من الصحف اللبنانية، فقد كان المتبرمون من شعر اللحظة السائدة، يجمعهم، لهذا السبب بالذات، نوع من الحلف غير المعلن. أتذكر انني كنت التقي بسام حجار، على الواقف، تقريبا، بالقرب من مقهى quot;الجندولquot; على كورنيش المزرعة حين أكون قد فرغت من عملي في مجلة quot;الهدفquot; ويكون هو في طريقة الى quot;صيداquot; التي لم يغادرها، على ما أظن، الى اليوم.
كان بسام حجار أول شعراء هذه الموجة الجديدة من quot;قصيدة النثرquot; اللبنانية الذين تعرفت اليهم شخصيا، بينما كنت أقرأ لعباس بيضون وبول شاؤول وحمزة عبود، وحسن الشامي ومحمد أبي سمرا وعبده وازن وعقل العويط ووديع سعادة.
وما إن صدر ديواني الأول quot;مديح لمقهى آخرquot; (1979) حتى كان موضع احتفاء منهم، فقد كتب عنه، بعض هؤلاء بتقريض خالص، وفي ذلك العام صدر أيضا العمل الشعري الأول لبسام حجار quot;مشاغل رجل هاديءquot; ولاقى حفاوة بالغة من نفس العصبة أيضا.
لم تؤسس تلك المجموعة ولادة الموجة الثانية لقصيدة النثر، اللبنانية فحسب، بل أسست ظاهرة، لم تكن موجودة، على هذا النحو، من قبل: الشعراء النقاد.
فقد بدا أن النقد السائد، وهو بمعظمه، صورة في المرآة للقصيدة السائدة، غير قادر على فهم ما جاءت به هذه القصيدة من جماليات مغايرة، فضلا عن كونه غير متعاطف معها. لا النقد الذي انبثق من مجلة quot;شعرquot;، بكل نواياه الحسنة تجاه التجديد، كان بمقدوره أن يفعل ذلك، ولا النقد الذي يرتاب، أساساً، بنسبة هذه القصيدة الى الشعر العربي، فما كان من الشعراء إلا أن أخذوا على عاتقهم أمر قراءتها نقديا والتنظير لشعريتها في مواجهة الهجوم عليها.
وسيعبّر بسام حجار، سنين بعد ذلك، عن إرث اللحظة النقدي قائلا: quot;ورثنا، الى نقد كل شيء، نقد الشعر، او بيان وظائفه وغاياته الخ.. فأدركنا، في وعي حائر، ان لا وجود لنقد الشعر ولما هو شعري، وما يوجد، بالفعل، هو قارئ الشعر، فالأحرى، أن تطرح اسئلة الشعرية في صيغ أخرى على القارئ الغُفل، شبيهناquot;.
لم يكن النقد، إذن، سوى جزء من إرث quot;ينقدquot; كل شيء، ولكنه، ينتهي، الى نقد لا شيء، لأن النقد لم ينفرد انفراد الأشياء، بل يرد بوعي مطمئن، تماما، لأدواته ومقاصده، المنفرد والسائب الى المجموع والصف.
نقد كهذا، لا تقع القصيدة التي تطلع من بين الشقوق والتصدعات في مرماه، فهو لم يرها، وإن رآها، فهي ليست أكثر من هرطقة أو صدى للترجمة.
ولا أظن أن ظاهرة شعرية عربية أنتجت نقدها من داخلها كما فعلت هذه الموجة، الأمر الذي صار تقليدا لبنانيا ما عتم أن عمّ الساحة العربية.
فصل من كتاب بعنوان 'طريق الشعر والسفر' صدر في بيروت عن دار رياض الريس هذه الايام.
التعليقات