هلْ تذوقْتَ طَعمَ المدينةِ وهي تنَزْفُ
انها قهوةٌ مرةٌ
وباردةٌ مثل يدٍ في الشتاء
هل شاركتها البكاءَ على مَنْ رحَلْوا
ولم يوَصدَوا خلفهم الابوابَ
هل مسَحَتَّ دمَعَها
هلْ نطَقتْ اسمَهْا
هل تذكرتَها.
بغداد.
حيث السَماءُ غيمةُ ارواحٍ
والاجسادُ مسافةٌ بين عبوتين
ونهرُها الذي كان يروي حكايةً عن مدينةِ العشقِ والبساتينِ
طفتْ على سطحهِ الاشلاءُ
والحانوتيُ يسجلُ ارقاماً ويحُصي
تسعة وتسعون قضوا في ظروفٍ غامضةٍ
ووروا الثرى في احتفالٍ مهيبٍ بكربلاء
ويعيد الكرةَ مرةً ومرتين والف
في بغدادَ
الشوارعُ بلا نساءٍ
والمقاهي بلا مدمنيها
والسفنُ التي حطتْ سرقتْ مني رياحي
في بغدادَ، الظلامٌ ينسدلُ سريعاً
كستارةٍ تجرُها ارملةٌ
اطفأتْ سراجَهَا
لتركنَ المدينةُ في هدوءٍ يلفُهُ سوادٌ شيَعَّها مساءً
ففي بغداد.
السوادُ كلُ الالوانِ حينَ ترتبكُ وترتجفُ وتخافُ
.
****
في بغدادَ
كان الخليفةُ قد بنى بيوتاً لله اكثرَ من بيوتِ الفقراءِ
واعطى جواريه قصوراً عند ابواب المدينة
ووهب غلمانه ذهباً
فاصبحوا تجارها
والفقراء ظلوا يستفيئون بجدرانِهم الطينِ
ويخَيطوُن رداءهم من غيمةِ السماءِ
لا قلاعَ في بغدادَ الا للخليفة
ولا ثمةَ بساتين الا له
و لا انهرَ تجري الا بامره.
****
هل تذكرتها..
خيمةٌ كنا نقولُ بلا اوتادٍ.
لكن ارضها دمٌ اكثرُ لزوجةً من إسفلْتِها.
هل تذكرتها أمْ حَسْبتَّ أنَّ الزمانَ ألقى على وجهها خماراً اسودَ
وظننتَّ أنها غَيرُها.
هي تلكَ
حين تتكئُ على جدرانها يَعْلقُ الشعرُ بكفِكَ
يُزهرُ ظُلْكَ في أزقتِها لو مشيتَّ
ام تخيلتَّ
انها يوماً جالسةٌ في ظلِ جدارٍ وحيدةً لمْ توصدْ نوافذها حين مرتْ العاصفةْ.
تنتظرُ القطافَ
أم تخافْ
أن تتهجى أبجديتها
او تغسلَّ وجهَهَا
وقد ثنى النهر ركبته في خاصرِتها بانتظارِكَ
****
في بغدادَ
بينما تغزلُ الأمُ صُوفَها سجادةً لصلاتِك
ينمو كلُ تمرِ الأرض في جسدٍ
متكئٍ على عمودٍ بشارعِ الرشيدِ بانتظارِ حافلةٍ من طابقين
طلّتْ صبيةٌ برأسِها من نافذتها الاخيرةِ
صوبَ معهدِ الموسيقى
تسمع صوتَ الموجةِ وهي تضربُ اعمدةَ جسر الشهداءِ
****
هل تذكرتها؟، منذُ أربعٍ ونحنُ نسيرُ معاً إليها
بعيدين لكنَّ خُطاي تحاذي خُطاكَ وهي تجانبنا
ولا نتقاطعُ
سوى بالرماد الذي اعتلى مرافقنا
كذبنا عليها مراراً
وكأن الزمان مطرٌ على جمرتنا
وحديثنا دفٌ الشتاء
وصَمتنا ناي لمسائنا
هل تذكرتها
لم يك غيرها حين ارتبكت انوي مصافحتك
*************
هل تذكرَتها
لم يعدْ ثمةَ وردٌ في طريقِها ولا نخيلُ
لأن من ذهبوا نسّونا
ومن أتوا نسونا
في كثافة الاشياء التي فاضت فراغاً طويلا
هل تذكرتها..؟
كانت بلاداً للخصوبة ِ
تمرق البرتقالة من شرقها صوب نهرها دارّاً من الشمال
وصلُصُالها صارَ القصيدةَ التي لمْ أكتبْهُا بعدُ
وأنا أفتشُ ما وراء المدى عنها
وما وجدت اليها سبيلا
*************
في بغدادَ، النساءُ ينتظرنَّ منك ما تنتظرُهُ أمُكَ، أن تعود سالماً، وتُحكمَ قُفْلَ البابِ خلفك وأن تُجيدَ لعبة التحديق في الظلامِ..
أغمض عينيك في دجاها ترَ سقفاً ابيضَ وبضعَ قطراتٍ من الندى وخيلاً تخبُ وتجرُ خلفها عرباتِ صبيةٍ من الرصافة يعبرون جسر الاحرار بحثاً عن العلبِ الفارغةِ في الكرخِ.
هل غفوتَّ؟.
إن الاحلامَ صارت جزءٌ من الماضي بعد أن تلاشى حلمُ المدينةِ في يدينا.
وجاءت الكلاب خلف الكلاب التي تركت النهرَ والمقبرة.
هل غفوتَّ أمْ مازلتَّ تجيد لعبة التحديق في الظلامِ
كل شيء مباحٌ لخيالِكَ
إلا خلاصك.
أغمض عينيك بوسعهما وأركض في المدينة وكأن شيئاً لم يُصْبها
لا جدار من الكونكريت يضيق المدى عليك
ولا عربات الهمفي تسحقُ خطوك
ولا دوي الان الا النبض في صدرك
ولا سيارة مفخخة تفززك من نومك الآني
هل تذكرتها؟
كتبَ الزمان لعزلتها دهورا طويلة؟
أم كلانا غريبٌ في هذا المكان؟
وكتبَ الزمانُ أن نتنفسَ ظلامها
منكفئين على اسوارها كلما تهدمتْ.