في الساحة أمام الدار، اجتمع أهالي laquo;أوزيرraquo; في صفوف ودوائر، تتجه أنظارهم إلى حيث يجلس إدريس ويحيى، كل بجوار عروسه، فوق مسطح خشبي يرتفع عن الأرض بطول رجل، تصعد إليه غوازي سنباط بسلم خشبي إلى اليسار، وإلى اليمين سلم آخر يخص العروسين وأهل الفرح. إلى جانب السلم الأيمن أريكة لها حشايا ومساند من القطن، لعامر وزهرة، وبينهما الحفيدة زهور، أما أمها عائشة فتنتقل بين أخويها وعروسيهما وأبويها، أو تدخل الدار لكي تبكي زوجا لم ير ابنته التي بلغت السادسة، إلى أن ترجوها الخادمة، متوسلة بكل ما تحمله لها من محبة، أن تنسى حزنها وتخرج.
أوصت الخادمة أرباب المزامير والطبول والمغنين والمنشدين بأغنية تحبها عائشة، فتمايلت وقدماها ثابتتان بجوار أمها التي غنت مع الناس، ونزعت طرحتها وربطت بها وسط عائشة. رقصت بخجل، ثم تشجعت حين بارتها الخادمة. غارت زهرة، فصعدت أمام العروسين، وغلبت ابنتها والغوازي.
انزعج عامر لما غابت عنه زهور. طمأنته زهرة إلى أنها تحت عينيها.
غازلها:
ـ في عينيك سحر والله يا شيخة.
ـ شيخة؟!، الله يسامحك. أنا أحسن من الشيخات.
كأنه لم يسمع:
ـ لولا سحر عينيك، لغرت الليلة من العيال.
ـ عيال!، القصير أطول منك.
مال إليها:
ـ لكنك أحلى ست في الفرح.
انتشت وطربت، واشتمت في كلامه اشتهاء. نقرت بسبابتها كفه، في تحذير لطيف:
ـ اتركني في حالي، من الصبح واقفة على رجلي، مهدودة ونفسي أغمض عيني وأنام.
ثم أوسعوا للعروسين طريقا إلى باب الدار.
أغلق باب غرفة على كل زوجين، واستمر الغناء والموسيقى، والغوازي يمنحن الناس رقصات مختارة من تلك التي نالت الإعجاب، طوال الحفل، ويجمعن المال والرغبة في العيون.
أسرع كثيرون إلى عامر والد إدريس ويحيى، فرحين مهنئين، يطمئنون عليه. أبعدهم منصور، وأمر العبدين باصطحابه في خطوات تفصل الأريكة عن باب الدار. ناداهما السيد:
ـ ما عادت داري تسع العبيد.
انزعج العبدان، فأكد لهما أنه أعتقهما، لا وصاية لمخلوق عليهما. خيرهما بين ترك أوزير إلى أي مكان، أو البقاء حتى لو بنى كلاهما دارا. قبلا يديه، قائلين بلا اتفاق:
ـ عبدك يا سيدي.
فجذب يده غاضبا:
ـ لا يبيت في داري عبد!
هتف المنشدون، طلبوا إلى زملائهم عزف نغمة العتق. تراقصت الغوازي بدون مقابل، وزغردت نساء. دعا الرجال أن يحفظ الله سيد أوزير.
بمودة أغاظت عائشة أمها:
ـ مغربية قادرة!
دافعت زهرة عن نفسها، قائلة بزهو:
ـ اسألي والدك يقل لك إنه ما عرف معنى ولا طعم النسوان، إلا مع المغربية!
ظل السطح لعائشة، واستقل أخواها بغرفتين بالدور الأرضي.
في الضحى، صحا عامر، اغتسل وارتدى جلبابه الكشميري وفوقه العباءة، كأنه ذاهب لمقابلة باشا. قبل أن يحتل مكانه دخلت العروسان، تلبس كل منهما حراما من القطيفة فوق الكتفين، ومنديل رأس ورديا. لم يكن بحاجة إلى تفرس أو فطنة، وهما تقبلان يده، واحدة بعد الأخرى، ليعلم أن شعر كلتيهما لم يمسسه ماء، وأن تضفيره عقب الاستحمام يختلف عن تضفيره جافا، خاليا من الحياة.
انتظرت العروسان في صمت أن يصحو الزوجان. بلا اتفاق كانت كلتاهما تراقب القلق البادي على وجه عامر. انتبهتا إلى أنه لم يقرب ما حملتاه من شراب تصنعه العروس في laquo;الصباحيةraquo;. قالتا معا:
ـ اشرب الشربات يا سيدي.
ضحكتا. لم تخف ابتسامته توجسه، تأكد له سبب تأخر سن زواج الشابين، وعدم إلحاحهما على الأمر. أدرك أنها القاصمة. هذى، فنادت زهرة العروسين، فخرجتا إليها، وطبعت كلتاهما قبلة على خدها.
دخلت عليه زهرة، فبادرها مشيرا إلى السماء:
ـ حكمة ربنا!
كاد عامر يخرج من الدار، يحدث بفحولة جده عمران، خير من أشبع زوجاته، ويقسم بليلة أبيه مبروك في طنطه، ويشهر صنائعه. فلماذا أطال الله عمره ليرى البلوى التي خزي منها ولداه، ولهذا يداريان وجهيهما في النوم حتى الضحى.
رأت زهرة أن ينتظر حتى تأتي أم كل عروس، لتسأل ابنتها وتعرف كيف كانت ليلتها. اهتاج عامر، جذب منديل رأسها، طوح شعرها في الهواء. ضرب يده بضفيرتيها، فانتثرت قطرات ماء على وجهيهما.
واصل هذيانه:
ـ عمري والله ما أعرف كم سنة، وأنت أكبر من خمسين سنة، وشعرك مضفور على بلل، وشعر العرايس ناشف!
أسكتته لكي لا تسمع العروسان. زادت ثورته، هامسا بأنهما لا تفهمان شيئا، ولو فهمتا فستكون فضيحة.
سألت زهرة كلتا العروسين على حدة. ثم أبلغت عامر، حذرته أن يجرح مهابة ولديه، أمام زوجتين محظوظتين بالفعل، وإذا صغر أي شاب في عيني زوجته، فلن يسترد هيبة أنكرها أبوه.
***
قدر عامر أن استدعاء عراف أو شيخ من قرية أخرى، أو من المحلة الكبرى، إشاعة خيبة أمله في ولديه، وأن ذهابه حاملا laquo;أثرraquo; كل منهما، إلى العارفين بشوؤن laquo;المربوطينraquo; ليلة الزفاف، سيذيع الحكاية على ألسنة الناس في أوزير.
خرجت زهرة والخادمة، ومعهما laquo;أثرraquo; إدريس ويحيى. في المساء قالت لعامر إنها قصت على الشيخ في سمنود حكاية الشابين، وطرفا من سيرة أبيهما، وجدهما مبروك وأبيه الحاج عمران. طالت الجلسة، وفي النهاية، صارحها بأن الرجولة فرض عين، على كل شاب أن يمارسها في الحياة قبل السرير، وأن على الشابين أن يتحملا مسؤولية تنهي حالة الرخاوة.
أنصت إليها عامر، ثم انفرد بولديه. صارحهما بكلام العراف، واعتذر عن مسؤوليته عما بلغاه، حين جنبهما أي عمل أو شأن يخص أوزير. لامهما لأن أيا منهما لم يبد غيرة من laquo;خليفةraquo;، أو رغبة في تحمل بعض شؤون البلد.
اقترح يحيى إبعاد خليفة وأبيه منصور. تحسر عامر على أنه زرع منصور، ولا يمكنه اقتلاعه مرة واحدة.
تنهد، وقال:
ـ للدمامل جزء مقرف، سطحي، لو كشطته يا يحيى، أو خدشته بظفرك يدميك. علينا بالصبر والحكمة، حتى يطرد الجسم قيح الدمل، لما تتكون طبقة جديدة في الجلد.
هز إدريس رأسه، وقرأ في سره آية من القرآن:
ـ القصاص، نقتل الظالم وأنا كفيل به.
انكمش عامر:
ـ القصاص مني قبل منصور. أمنت له وفرطت في البلد، وهو خان الأمانة.
جامله يحيى:
ـ ولما انتبهت، كان اللجام فلت منك.
تحمس إدريس لما عزم عليه. بحث عن بلطة، ونهره أبوه:
ـ الحكاية صعبة. وجود منصور هم ثقيل على القلوب، وقتله هم أكبر. لو قتلته تحترق أوزير، ولا يبقى فيها حجر على حجر.
أشار إدريس إلى أهمية أن يثق الناس بقدرته على حمايتهم، بفتح البوابة مثلا أمامهم بعد صلاة العشاء، للخروج والسمر على القهوة البحرية بعد إعادة بنائها. أضاف يحيى:
ـ أوزير القرية الوحيدة الخالية من القهاوي.
هز أبوه رأسه:
ـ قل الخالية من الحياة!
قال إدريس:
ـ من بكرة نبني القهوة البحرية.
أتاهم نداء المؤذن. قال إن الطاعون ظهر في سمنود والمحلة، وحذر الخروج من البلد، ولو إلى السوق، حتى زوال الغمة. ذكر بأن إمام الجامع روى أن النبي قال laquo;إذا ظهر الطاعون بأرض فلا تدخلوها. وإذا ظهر بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منهاraquo;.
غافلهم إدريس. انتشى بنصر سيظفر به غدا. سرت في دمائه سخونة لا يستطيع معها الانتظار. في الغرفة سألته العروس:
ـ تتعشى؟
لم يرد. أحست بابتسامته في الضوء الواهن. أعادت السؤال، وهو ينزع حلبابه.
ـ الليل طويل.
أمسك بضفيرتيها من الخلف، ونهاها عن الرجوع. تقدمت إلى السرير، والضفيرتان في يديه كحبليين في سرج فرس. سألها عما إذا كانت جوعى، وهي لم تجب. كانا يهذيان. تساءل النشوان، وهو يواصل الطعن: أهذا هو الطاعون الذي يطعن به؟
ثم فرد جسده، وداعب زوجته بثقة:
ـ المنادي تكلم عن طاعون في سمنود. الطاعون كان هنا، فوق السرير.
تناولا العشاء، واستعادا النشوة والهذيان.
في الصباح، اغتسل إدريس. فرحت به زهرة، وقبلته:
ـ وشك ولا القمر يا نور عيني.
أتى أبوه، ضمه إليه. لم يسأل عن شيء:
ـ أصبحت حفيد عمران بحق!
انتظروا يحيى وزوجته، تأخرا كثيرا، مثل زوجة إدريس.
دخلت زهرة على عروس إدريس. صرخت فقفزت إليها الخادمة. خرجت زهرة تستغيث، وتحسست الخادمة العروس، كان ترتدي قميصا شفافا، وعيناها تحتفظان بالكحل. لم تصدق أنها فارقت، فنادتها:
قومي استحمي والبسي هدومك
وتمايلي في الدار حلاها طولك
اقتحمت عائشة وعروس يحيى الغرفة. علا نحيبهما، ولم تفعلا شيئا. همت كلتاهما بالفرار من وجه الموت، مع رجوع زهرة، أغمضت عيني النائمة، وارتمت في حضن الخادمة:
ـ ماتت؟
احتوتها الخادمة. أحاطتها بذراعيها، واهتز جسداهما قليلا، كأنهما ثمرة ناضجة ستسقط في حجر صائد الأرواح. واصلت الخادمة عديدها:
ياللي بياضك من بياض الروم
حمرة خدودك جوخة المخدوم
أقبلوا وملأوا الغرفة. بكى إدريس لأول مرة. أقسم ألا يصلي، رفع سبابتيه إلى السماء، سائلا بغضب:
ـ تكافئني بموتها؟!
هدأته الخادمة:
ـ ارحم نفسك يا ابني، أنت موحد الله وحافظ القرآن.
سمعوا المؤذن يعلن موت أولى ضحايا الطاعون، قبل أن يعرف الناس بموت العروس. احتشدت في جنازتها القرية، سد الزحام الشوارع، من باب الدار إلى جامع سيدي عمران حيث أقيمت صلاة الجنازة.
غاب عن المشيعين وجه إدريس.
شاهدوه فوق الفرس، يشق الجموع، غير مبال بالناس، مخلفا وراءه غبارا يستقيم أو يلتوي مع تراب الطريق.
أمام القبر، بكى عامر ابنه، وزوجة لم تهنأ به إلا ساعة. ساعدوه على الوقوف. رفع رأسه إلى السماء، فسقطت العباءة. سأله: لماذا؟. ثم استغفر الله، وأعاد العتاب:
ـ البنت ماتت، والولد المتقي قارئ القرآن مسه الجنون. حكمتك يا رب العدل!
ـــــــــــ
[email protected]
مشاهد من رواية تصدر الأسبوع القادم في القاهرة عن الدار المصرية اللبنانية
أوصت الخادمة أرباب المزامير والطبول والمغنين والمنشدين بأغنية تحبها عائشة، فتمايلت وقدماها ثابتتان بجوار أمها التي غنت مع الناس، ونزعت طرحتها وربطت بها وسط عائشة. رقصت بخجل، ثم تشجعت حين بارتها الخادمة. غارت زهرة، فصعدت أمام العروسين، وغلبت ابنتها والغوازي.
انزعج عامر لما غابت عنه زهور. طمأنته زهرة إلى أنها تحت عينيها.
غازلها:
ـ في عينيك سحر والله يا شيخة.
ـ شيخة؟!، الله يسامحك. أنا أحسن من الشيخات.
كأنه لم يسمع:
ـ لولا سحر عينيك، لغرت الليلة من العيال.
ـ عيال!، القصير أطول منك.
مال إليها:
ـ لكنك أحلى ست في الفرح.
انتشت وطربت، واشتمت في كلامه اشتهاء. نقرت بسبابتها كفه، في تحذير لطيف:
ـ اتركني في حالي، من الصبح واقفة على رجلي، مهدودة ونفسي أغمض عيني وأنام.
ثم أوسعوا للعروسين طريقا إلى باب الدار.
أغلق باب غرفة على كل زوجين، واستمر الغناء والموسيقى، والغوازي يمنحن الناس رقصات مختارة من تلك التي نالت الإعجاب، طوال الحفل، ويجمعن المال والرغبة في العيون.
أسرع كثيرون إلى عامر والد إدريس ويحيى، فرحين مهنئين، يطمئنون عليه. أبعدهم منصور، وأمر العبدين باصطحابه في خطوات تفصل الأريكة عن باب الدار. ناداهما السيد:
ـ ما عادت داري تسع العبيد.
انزعج العبدان، فأكد لهما أنه أعتقهما، لا وصاية لمخلوق عليهما. خيرهما بين ترك أوزير إلى أي مكان، أو البقاء حتى لو بنى كلاهما دارا. قبلا يديه، قائلين بلا اتفاق:
ـ عبدك يا سيدي.
فجذب يده غاضبا:
ـ لا يبيت في داري عبد!
هتف المنشدون، طلبوا إلى زملائهم عزف نغمة العتق. تراقصت الغوازي بدون مقابل، وزغردت نساء. دعا الرجال أن يحفظ الله سيد أوزير.
بمودة أغاظت عائشة أمها:
ـ مغربية قادرة!
دافعت زهرة عن نفسها، قائلة بزهو:
ـ اسألي والدك يقل لك إنه ما عرف معنى ولا طعم النسوان، إلا مع المغربية!
ظل السطح لعائشة، واستقل أخواها بغرفتين بالدور الأرضي.
في الضحى، صحا عامر، اغتسل وارتدى جلبابه الكشميري وفوقه العباءة، كأنه ذاهب لمقابلة باشا. قبل أن يحتل مكانه دخلت العروسان، تلبس كل منهما حراما من القطيفة فوق الكتفين، ومنديل رأس ورديا. لم يكن بحاجة إلى تفرس أو فطنة، وهما تقبلان يده، واحدة بعد الأخرى، ليعلم أن شعر كلتيهما لم يمسسه ماء، وأن تضفيره عقب الاستحمام يختلف عن تضفيره جافا، خاليا من الحياة.
انتظرت العروسان في صمت أن يصحو الزوجان. بلا اتفاق كانت كلتاهما تراقب القلق البادي على وجه عامر. انتبهتا إلى أنه لم يقرب ما حملتاه من شراب تصنعه العروس في laquo;الصباحيةraquo;. قالتا معا:
ـ اشرب الشربات يا سيدي.
ضحكتا. لم تخف ابتسامته توجسه، تأكد له سبب تأخر سن زواج الشابين، وعدم إلحاحهما على الأمر. أدرك أنها القاصمة. هذى، فنادت زهرة العروسين، فخرجتا إليها، وطبعت كلتاهما قبلة على خدها.
دخلت عليه زهرة، فبادرها مشيرا إلى السماء:
ـ حكمة ربنا!
كاد عامر يخرج من الدار، يحدث بفحولة جده عمران، خير من أشبع زوجاته، ويقسم بليلة أبيه مبروك في طنطه، ويشهر صنائعه. فلماذا أطال الله عمره ليرى البلوى التي خزي منها ولداه، ولهذا يداريان وجهيهما في النوم حتى الضحى.
رأت زهرة أن ينتظر حتى تأتي أم كل عروس، لتسأل ابنتها وتعرف كيف كانت ليلتها. اهتاج عامر، جذب منديل رأسها، طوح شعرها في الهواء. ضرب يده بضفيرتيها، فانتثرت قطرات ماء على وجهيهما.
واصل هذيانه:
ـ عمري والله ما أعرف كم سنة، وأنت أكبر من خمسين سنة، وشعرك مضفور على بلل، وشعر العرايس ناشف!
أسكتته لكي لا تسمع العروسان. زادت ثورته، هامسا بأنهما لا تفهمان شيئا، ولو فهمتا فستكون فضيحة.
سألت زهرة كلتا العروسين على حدة. ثم أبلغت عامر، حذرته أن يجرح مهابة ولديه، أمام زوجتين محظوظتين بالفعل، وإذا صغر أي شاب في عيني زوجته، فلن يسترد هيبة أنكرها أبوه.
***
قدر عامر أن استدعاء عراف أو شيخ من قرية أخرى، أو من المحلة الكبرى، إشاعة خيبة أمله في ولديه، وأن ذهابه حاملا laquo;أثرraquo; كل منهما، إلى العارفين بشوؤن laquo;المربوطينraquo; ليلة الزفاف، سيذيع الحكاية على ألسنة الناس في أوزير.
خرجت زهرة والخادمة، ومعهما laquo;أثرraquo; إدريس ويحيى. في المساء قالت لعامر إنها قصت على الشيخ في سمنود حكاية الشابين، وطرفا من سيرة أبيهما، وجدهما مبروك وأبيه الحاج عمران. طالت الجلسة، وفي النهاية، صارحها بأن الرجولة فرض عين، على كل شاب أن يمارسها في الحياة قبل السرير، وأن على الشابين أن يتحملا مسؤولية تنهي حالة الرخاوة.
أنصت إليها عامر، ثم انفرد بولديه. صارحهما بكلام العراف، واعتذر عن مسؤوليته عما بلغاه، حين جنبهما أي عمل أو شأن يخص أوزير. لامهما لأن أيا منهما لم يبد غيرة من laquo;خليفةraquo;، أو رغبة في تحمل بعض شؤون البلد.
اقترح يحيى إبعاد خليفة وأبيه منصور. تحسر عامر على أنه زرع منصور، ولا يمكنه اقتلاعه مرة واحدة.
تنهد، وقال:
ـ للدمامل جزء مقرف، سطحي، لو كشطته يا يحيى، أو خدشته بظفرك يدميك. علينا بالصبر والحكمة، حتى يطرد الجسم قيح الدمل، لما تتكون طبقة جديدة في الجلد.
هز إدريس رأسه، وقرأ في سره آية من القرآن:
ـ القصاص، نقتل الظالم وأنا كفيل به.
انكمش عامر:
ـ القصاص مني قبل منصور. أمنت له وفرطت في البلد، وهو خان الأمانة.
جامله يحيى:
ـ ولما انتبهت، كان اللجام فلت منك.
تحمس إدريس لما عزم عليه. بحث عن بلطة، ونهره أبوه:
ـ الحكاية صعبة. وجود منصور هم ثقيل على القلوب، وقتله هم أكبر. لو قتلته تحترق أوزير، ولا يبقى فيها حجر على حجر.
أشار إدريس إلى أهمية أن يثق الناس بقدرته على حمايتهم، بفتح البوابة مثلا أمامهم بعد صلاة العشاء، للخروج والسمر على القهوة البحرية بعد إعادة بنائها. أضاف يحيى:
ـ أوزير القرية الوحيدة الخالية من القهاوي.
هز أبوه رأسه:
ـ قل الخالية من الحياة!
قال إدريس:
ـ من بكرة نبني القهوة البحرية.
أتاهم نداء المؤذن. قال إن الطاعون ظهر في سمنود والمحلة، وحذر الخروج من البلد، ولو إلى السوق، حتى زوال الغمة. ذكر بأن إمام الجامع روى أن النبي قال laquo;إذا ظهر الطاعون بأرض فلا تدخلوها. وإذا ظهر بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منهاraquo;.
غافلهم إدريس. انتشى بنصر سيظفر به غدا. سرت في دمائه سخونة لا يستطيع معها الانتظار. في الغرفة سألته العروس:
ـ تتعشى؟
لم يرد. أحست بابتسامته في الضوء الواهن. أعادت السؤال، وهو ينزع حلبابه.
ـ الليل طويل.
أمسك بضفيرتيها من الخلف، ونهاها عن الرجوع. تقدمت إلى السرير، والضفيرتان في يديه كحبليين في سرج فرس. سألها عما إذا كانت جوعى، وهي لم تجب. كانا يهذيان. تساءل النشوان، وهو يواصل الطعن: أهذا هو الطاعون الذي يطعن به؟
ثم فرد جسده، وداعب زوجته بثقة:
ـ المنادي تكلم عن طاعون في سمنود. الطاعون كان هنا، فوق السرير.
تناولا العشاء، واستعادا النشوة والهذيان.
في الصباح، اغتسل إدريس. فرحت به زهرة، وقبلته:
ـ وشك ولا القمر يا نور عيني.
أتى أبوه، ضمه إليه. لم يسأل عن شيء:
ـ أصبحت حفيد عمران بحق!
انتظروا يحيى وزوجته، تأخرا كثيرا، مثل زوجة إدريس.
دخلت زهرة على عروس إدريس. صرخت فقفزت إليها الخادمة. خرجت زهرة تستغيث، وتحسست الخادمة العروس، كان ترتدي قميصا شفافا، وعيناها تحتفظان بالكحل. لم تصدق أنها فارقت، فنادتها:
قومي استحمي والبسي هدومك
وتمايلي في الدار حلاها طولك
اقتحمت عائشة وعروس يحيى الغرفة. علا نحيبهما، ولم تفعلا شيئا. همت كلتاهما بالفرار من وجه الموت، مع رجوع زهرة، أغمضت عيني النائمة، وارتمت في حضن الخادمة:
ـ ماتت؟
احتوتها الخادمة. أحاطتها بذراعيها، واهتز جسداهما قليلا، كأنهما ثمرة ناضجة ستسقط في حجر صائد الأرواح. واصلت الخادمة عديدها:
ياللي بياضك من بياض الروم
حمرة خدودك جوخة المخدوم
أقبلوا وملأوا الغرفة. بكى إدريس لأول مرة. أقسم ألا يصلي، رفع سبابتيه إلى السماء، سائلا بغضب:
ـ تكافئني بموتها؟!
هدأته الخادمة:
ـ ارحم نفسك يا ابني، أنت موحد الله وحافظ القرآن.
سمعوا المؤذن يعلن موت أولى ضحايا الطاعون، قبل أن يعرف الناس بموت العروس. احتشدت في جنازتها القرية، سد الزحام الشوارع، من باب الدار إلى جامع سيدي عمران حيث أقيمت صلاة الجنازة.
غاب عن المشيعين وجه إدريس.
شاهدوه فوق الفرس، يشق الجموع، غير مبال بالناس، مخلفا وراءه غبارا يستقيم أو يلتوي مع تراب الطريق.
أمام القبر، بكى عامر ابنه، وزوجة لم تهنأ به إلا ساعة. ساعدوه على الوقوف. رفع رأسه إلى السماء، فسقطت العباءة. سأله: لماذا؟. ثم استغفر الله، وأعاد العتاب:
ـ البنت ماتت، والولد المتقي قارئ القرآن مسه الجنون. حكمتك يا رب العدل!
ـــــــــــ
[email protected]
مشاهد من رواية تصدر الأسبوع القادم في القاهرة عن الدار المصرية اللبنانية
سعد القرش:
نال بكالوريوس الإعلام من كلية الإعلام، جامعة القاهرة 1989، ومنذ عشرين عاما، ينشر مقالات ودراسات في النقد الأدبي والسينمائي، في صحف ومجلات منها: سطور، الفن السابع، وجهات نظر، الفنون، أدب ونقد، الثقافية.
له كتاب quot;مفهوم الهوية في السينما العربيةquot;، ومجموعتان قصصيتان: (مرافئ للرحيل) 1993 و(شجرة الخلد) 1998. وثلاث روايات أخرى هي: (حديث الجنود) 1996، و(باب السفينة) 2002، و(أول النهار) 2005.
نشرت دراسات عن أعماله بأقلام نقاد منهم: د. فيصل دراج، فريدة النقاش، د. جورج جحا، د. سيد حامد النساج، د. أيمن بكر، خيري عبد الجواد، د. نهلة عيسى، عاطف سليمان، فتحي أبو رفيعة، د. عزة هيكل، مفلح العدوان، بهيج إسماعيل، حسين عيد.
نال بكالوريوس الإعلام من كلية الإعلام، جامعة القاهرة 1989، ومنذ عشرين عاما، ينشر مقالات ودراسات في النقد الأدبي والسينمائي، في صحف ومجلات منها: سطور، الفن السابع، وجهات نظر، الفنون، أدب ونقد، الثقافية.
له كتاب quot;مفهوم الهوية في السينما العربيةquot;، ومجموعتان قصصيتان: (مرافئ للرحيل) 1993 و(شجرة الخلد) 1998. وثلاث روايات أخرى هي: (حديث الجنود) 1996، و(باب السفينة) 2002، و(أول النهار) 2005.
نشرت دراسات عن أعماله بأقلام نقاد منهم: د. فيصل دراج، فريدة النقاش، د. جورج جحا، د. سيد حامد النساج، د. أيمن بكر، خيري عبد الجواد، د. نهلة عيسى، عاطف سليمان، فتحي أبو رفيعة، د. عزة هيكل، مفلح العدوان، بهيج إسماعيل، حسين عيد.
التعليقات