مروان الغفوري: رمضان، 1429 هـ، في نسخة تاريخية جديدة اسمها هذه المرة quot; أبو جعفر المنصور، من الدعوة إلى الدولةquot;. إنتاج قطري متميّز، بإخراج التونسي المميّزquot; شوقي الماجريquot; وحضور كثيف لنجوم الدراما العربية، غير المصرية. حيث اتّكأ العمل إجمالاً على نص تاريخي للمؤرخ المعروف د. علي الصلابي، الذي أشرف بدورِه على خط سير العمل الدرامي العربي من أوله لآخره، كما أشرف على كتابة السيناريو وتدخّل ndash; بحسب مصادر عديدة ndash; في تأكيد بعض مقاطع في النص أو حذفها..
العمل الدرامي، أبو جعفر المنصور، نالَ حظّاً عالياً من رصيد المشاهد العربي، أو مجموع المشاهدة العربيّة، بحسب قناة الإم بي سي، التي تعرض المسلسل. وفي تقديري يمكن عزو جزء من هذا النصيب الوافر من المشاهدة إلى حقيقة أن المسلسل التاريخي، إياه، جاء في توقيت مناسب قررت فيه كل شركات الإنتاج العربية، تقريباً، الاسترخاء قليلاً والتخفف من الحمولة التاريخية التي أصبحت متطلباتها الفنيّة والمالية عالية للغاية. خاصة بعد رفد المشاهد العربي، وترقية ذوقه الفني والنقدي، بنماذج درامية تاريخية عالية القيمة الإبداعية كما فعلت السينما الأمريكية في السنوات الأخيرة في quot; طروادةquot; وquot; الملك آرثرquot; و quot; مملكة الجنّةquot; وquot; 300 سبارطيquot; ؛ وكما فعلت الدراما التلفزيونية السورية في عديد أعمال فنّية لافتة صعّبت من دور من سيأتي من بعد، كما في quot; ملوك الطوائفquot;. حدث هذا بعد أن وصلت الدراما التاريخية المصرية إلى حالة الموت السريري، وهي تصرّ على أن تستمر هكذا في الموت السريري واصفة موتها بالريادة، لتحقق المثل الشعبي اليمني القائل quot; سألوه من حطك شيخ وأنت أعور، قال ما في غيريquot;! وهكذا جاءت لحظة المكاشفة عقب مسلسل quot; ملوك الطوائفquot;، اللحظة شديدة الإيلام. فقد كتب quot; إبراهيم عيسىquot; اعترافاً مصريّاً شجاعاً وبالمانشيت العريض في صدر صحيفة الدستور المصرية: مصر التي فقدت أعزّ ما تملك..
من جديد، يمكن القول بقدر عالٍ من العفوية، أن مسلسل quot; أبو جعفر المنصورquot; يلعب الآنَ منفرداً في الساحة العربية، على طريقة quot; one man showquot;؛ يجبر المشاهد العربي على ترتيب وقته طبقاً لتوقيت قناة الإم بي سي، كما يتدخل في صناعة الفسحة quot;الشبابية والعائليةquot; حيثُ يقرر المسلسل أن تنتهي هذه الفسحة قبل الثاني عشرة ليلاً، فهناك سيطل وجه quot; منذر الرياحنةquot; بقسماته الذئبية الممتعة وهو يتقمص شخصية أبي مسلم الخرساني بنجاح نادر استطاع أن يوحّد بين الشخصيتين للدرجة التي جعلت صديقي يقول: أخشى أن يتعلق غرماء أبي مسلم الخرساني يوم القيامة برقبة منذر الرياحنة ويهوون به إلى النار..
وفي الطرف الآخر من منتصف الليلة الرمضانية سيكون عليك أن تنتظر النقيض التاريخي لأبي مسلم الخرساني، الماكر الأشد قوّة، أبي جعفر منصور. سيسعى بمكر الرجل ودهائه العبقري السوري quot; عباس النوريquot;. عباس النوري هو الممثل الوحيد، وعلى مسؤليتي الشخصية، الذي نجا من quot; كثرة quot; الأخطاء اللغوية والنحوية في المسلسل. قد أبدو فيما بعد متعجّلاً في هذا الحكم حين سأفلت من سيطرة الشخصية الدرامية لـquot; النوريquot; وأكتشف أنه هو الآخر لم ينج من quot; فضيحة اللغةquot; الكبرى التي دوّت في المسلسل ؛ أقول: قد أبدو فيما بعد، وحسب.
يستمر المسلسل - باقتدار لافت - في لمّ شتاتنا أمام شاشة الإم بي سي. وبالرغم من أنه كان بمقدور المسلسل أن ينحاز أكثر إلى مصلحة الهامشي، كما فعل النص الدرامي، وربما التاريخي، نفسه حين انحاز في جزء كبير من الحكاية ومن مشاهد التمثيل إلى مصلحة حضور رجل الهامش القوي quot;المولى، أبي مسلم الخرسانيquot;. إلا أنه أضاع هذه الفرصة الفنّية تماماً. في الواقع، سيبدو هذا المولى سيداً يصنع الحدث ويفضّه، وليس هامشيّاً، وسيتحول من الهامشي إلى المركزي شديد الفاعلية بسرعة محضة ؛ بيد أن روعةً ما كانت ستصب في صالح المحصلة النهائية للمسلسل فيما إذا قرر المنتجون تسمية المسلسل: أبو مسلم الخرساني، في الدعوة إلى الدولة. بدلاً عن quot; أبي جعفر المنصورquot;. دعونا نقترح مثل هذا الاقتراح لإخراج الدراما من إسار التاريخ الذي انحاز لحكاية الأمير وترك حكاية quot; المواطن البسيطquot; للحكواتي. كان بمقدور الدراما التاريخية، بل من لزوميّات حركتها الفاعلة، أن تمنح المغمور الصفحة الأولى، أن تبتدئ به فاتحة النص، وأن تبتعد عن الأمير الذي ملأ التاريخ باسمه، بغلمانه، بنزواته، حتى في حروبه. ففي الحرب يموت الآلاف بينما يتذكر التاريخ ndash; ومثله الدراما العربية ndash; فقط كيف أن الأمير نظر إلى دماء الناس ورؤوسهم ثم قال بتأفف: يبدو أنه ليس لشمس هذا اليوم من مغيب. هذه العبارة وردت على لسان عبد الله بن علي، عم المنصور، في معركة شرسة هزمه فيها quot; المولى أبو مسلم الخرسانيquot;. لقد فعل هوميروس النقيض تماماً، فمنذ أول سطر في إلياذته.، كان هناك أخيليس.
الحكواتي العربي، هو الآخر، حاول في لحظةٍ ما أن ينحاز لمصلحة إنهاء المرويّة بتفوق المقتول، الضحية ـ المهمش، كما فعل في سرده لقصة مقتل سعيد بن جبير على يد الحجاج. الأخير، الحجاج، لم يعش بعد مقتله لأكثر من14 يوماً، كما تقول المسرودة اللفظية، قضاها في كوابيس: مالي ولسعيد بن جبير. ومات في الأخير بتأثير لعنة المقتول، لينتصر quot; المواطن quot; على الأمير..
في المسلسل، ستسمع على نحو متكرر لأكثر من مرّة ذلك المولى وهو يصرخ أمام مستشاره quot; أبي إسحاقquot;: متى سأضع قيود المولى؛ وهو ما يعني أن ثمّة حاجة درامية ملحّة لفك قيود هذا المولى، لتغطية غربته التاريخية، من خلال منحه امتياز العنوان: أبو مسلم الخرساني، في الدعوة إلى الدولة.. أو أي اقتراح آخر لا يزيح أبا مسلم الخرساني من حيّز العنوان. ثمّة تشابه وتقابل بين شخصية أبي مسلم الخرساني، كما في العمل الدرامي quot; أبو جعفر المنصورquot;، وفي القصة التاريخية ذاتها، وشخصية أخيليس، في الإلياذة التي جسّدتها على نحو بديع شخصية quot; براد بيتquot; في فيلم طروادة. لا يبدو أن العاملين على إنتاج المسلسل كانوا على وعي تام بها.
أخيليس الذي عاش في الهامش، يقتل ويصطاد ويتمرّن، يتقاطع مع quot; أبو مسلمquot; الذي عاش بالجوار من المركز على نحو شديد الهامشية، الأول صنع نفسه مركزاً، والثاني صنعته الأقدار السريّة في المركز، دون أن تبرر لنا دراما المسلسل سر اختيار الإمام العباسي لأبي مسلم ليكون قائد الجيش، بعيداً عن التبرير السياسي بوصفه خراسانيّاً بمقدوره أن يجلب قلوب الموالي. بيد أن الإلياذة ستنتصر في الأخير لأخيليس على الأمير quot; هيكتورquot; وهو ما لن يفعله المسلسل التاريخي quot; أبوجعفر المنصورquot;. فالمنصور ndash; الأمير- سيتخلّص من المولى quot; أبي مسلمquot; منهياً حياته كـquot; مولىquot;، وهو ما سيؤكده الأخير في آخر مشهد يسجّله. فهاهو يتأهب لأن تكون آخر كلماته أمام الخليفة quot; البطل صاحب امتياز الثروة والسلطة quot;: مولاي، ادّخرني لأعدائك. سيموت أبو مسلم وهو يقول للملك ndash; الأمير quot; يا مولايquot; وسيموت أخيليس وهو يحرق طرواده، بلد الملوك والأمراء، ويقتل الأمراء والملك نفسه، وسيقتله سهم أحمق يصيب رباط قدمه من الخلف: رباط أخيليس، كما يسمى في علم التشريح. وفي لحظة موته ستنام في حضنه ابنة أخ الملك برايام. هل أفسد الالتزام الشديد بالنص التاريخي انشغال الدراما بتتبع ما هو فنّي؟ لنعُد إلى البداية: يقال أن د. الصلابي تدخّل كثيراً!
وبعيداً عن هذه المقاربات، فثم شيء آخر شديد الأهمية في معرض الكتابة عن العمل الدرامي quot; أبو جعفر المنصورquot;.. إنه اللغة!
ففي الوقت الذي تفاخرت به الدراما التاريخية السورية بقدرتها على ضبط إيقاع اللغة، بحسبان المجتمع السوري صدى للخطاب العروبي الرسمي وأن اللغة إحدى تجليات هذا الصدى، إلا أن شيئاً ما أساء إلى هذا الإدعاء الحميد. لقد امتلأ المسلسل بـ quot;سلسلة، متتاليةquot; من الأخطاء اللغوية والنحوية على نحو صادم، وأحياناً خادش للعمل الفني في العمق. فأبيات شعرية كثيرة يتم الاستشهاد بها وهي مليئة بالكسور. لا أشك لحظةً واحدةً في أن الكسور يقف وراءها كاتب السيناريو، كما يتحمل جزء من وزرها المؤرخ الصلابي، لأني أخشى أن يكون هو من أوردها مكسورة في نصّه التاريخي، الوثيقة التي اعتمد عليها المسلسل في تحركاته اللفظية، كما يفعل كثيرٌ من المؤرخين في تعاملهم مع الشواهد الشعرية. حضرت اللغة بصورة هزيلة كثيرة القروح، فالقائد يصرخ quot; أين جند العباسيون!quot; والجندي ينادي quot;اخلعوا بيعة مروان ابنَ! محمدquot; والمرأة تناجي quot; زال ملكُ بنو! أميةquot;، وأبو مسلم يقول quot; سأقتل أبو جعفرquot;، والفقهاء يحدّثون الناس من على المنابر: نقض العباسيين عهودهم للمسلمون.. و أبو دلامة يحاكي مقتل أبي مسلم أمام الخليفة: إن أهلَ الغدرِ آباءك! الكردُ!.. وهكذا، متتالية من الأخطاء النحوية واللغوية تكاثرت إلى الحد الذي جعلني أراها أمامي على شاشة التلفزيون تعشو مثل سرب من الذباب!
وإذا ما حاولنا فهم الأسباب التي أدّت إلى إنتاج هذه المشكلة اللغوية، التي تورّط فيها المسلسل، فيبدو لي أن الثقة الزائدة التي انتابت المنتجين والاستسهال الذي جعلهم يستنكفون عن إعادة تصوير المشاهد التي يخطئ فيها الممثل quot; على صعيد اللغةquot; وشعور فريق الإنتاج والإخراج بعدم الحاجة لمراقب لغوي جاد كانت سبباً في خفض القيمة الفنّية لعمل تاريخي استحضر فترة زمنية فاصلة في التاريخ الاسلامي من خلال quot; لغة ذلك الزمنquot; دون أن يقوم بواجب الرعاية المستحقة لتلك النزيلة الحميمة، اللغة. مرّة أخرى، سأعزو هذه الفضيحة إلى غياب المنافس الدرامي، المصري تحديداً. وهو ما سيعني على المدى القريب سقوط هذا اللاعب، المنتج والمخرج والممثل وكاتب السيناريو ndash; طاقم المسلسل، في فخ الاستسهال والواحديّة كما سقط من قبله اللاعب المصري وخرج عن المنافسة. هل أصبح الوقتُ مواتياً لظهور لاعب آخر في حقل quot;الدراما التاريخيةquot; يستفيد من سقوط أباطرة المشهد الراهن بسبب لعنة اللغة والوقوع في فخ الاستسهال وغياب المنافس؟ أتساءل فقط.
جوانب أخرى من هذا العمل الدرامي لم أستطع استيعابها تماماً. فهناك شخصيات درامية جرى الزج بها في أتون الحدث الفنّي دون أبسط تبرير درامي. كل ما في الأمر أن المؤرخ، فيما يبدو لي، أصرّ على أن يجري استحضار شاعر لا يعرفه أحد ndash; ولا حتى المؤرخ نفسه ndash; قال في بني أمية قولاً حكيماً عن quot; كيف تسقط الدول حين تظلمquot; و quot; كيف أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجابquot; وألح على ترك هذه quot; اللطيفةquot; في ذهن المشاهد كصورة من صور توزيع مهام العمل الفنّي، هذه المرّة باتجاه إنتاج العبرة والعظة. وفي عملية الاستحضار هذه ستقف امرأة لا تظهر غير مرة واحدة في جزء من الدقيقة في كل المسلسل لتسأل رجلاً يشاركها نفس فترة الحضور فيرد عليها بثلاثة أبيات من الشعر، ثم يختفيان إلى الأبد، وكأنهما صاحبا دواود عليه السلام quot; إذ تسوّرا المحرابquot;! هذه الكبوة تكرّرت على أكثر من شكل، وفي أكثر من مناسبة. وهو أمر بمقدوري أن أعزوه إلى وجود روايات تاريخية جانبية خارجة عن نص د. الصلابي، استساغها كاتب السيناريو وطاقم الإنتاج ولم يرفض الصلابي وجودها، أو ربما أوردها هو في نصه التاريخي كهوامش أو حكايات على هامش خيط الحكاية الأساسي. وهو ما يعني إقحامها قسراً في دوّامة الخيط الحكائي حيث ستبرز على شكل نتوءات ميّتة أخشى ndash; إن كنتُ فعلاً أخشى ndash; أن يكون قد تم استيرادها لكي تطيل عمر العمل الفنّي.
بدأت الدعوة العباسية في خراسان، هكذا قال العمل الفنّي. لكنه في الوقت الذي كان يقول لنا فيه عبر العباسيين أنفسهم بأنهم يخشون عسكر الأمويين، ويختبئون في الجحور والمغارات، إلا أننا اكتشفنا أنهم ينتصرون على العباسيين في خراسان، مرو، ويطردون الأمير الشاعرquot; نصر بن سيّارquot; إلى حدود خراسان حيثُ سيموت هناك على نحو غريب. وها إنهم يتأهبون لدخول الكوفة! ياللسرعة! وعلى طول حلقاته الأولى لم يساعدنا العمل الدرامي في تخيّل نمو القدرة العباسية السريّة، حجم الاتباع، انتشارهم الجغرافي وحجم هذا الانتشار، دور العلويين الحقيقي فيه. فإذا كانت الدعوة تنمو في السرّ دون علم بني أمية، ولا جندهم، فليست من المهارة الفنّية أن تنمو هذه القدرة وهذه الدعوة بعيداً عن أبصارنا نحن أيضاً.. نحن المشاهدين الذين نقسمُ أننا لم نكن ننوي إخبار بني أميّة بذلك. لقد استنفد العمل الدرامي جزءً كبيراً من وقته في المقولات، وهو ما يعني أن أولى حلقاته قد تمّت بميزانية quot; خيط جزمة Shoe string budgetquot; كما يقول الأمريكان.
وبمناسبة كلمة quot; استنفد quot; التي وردت أعلاه، فقد كان لافتاً قول أبي جعفر المنصور، على لسان عباس النوري، وهو يتحدث عن شركائه العلويين: لقد بدأ صبري quot;ينفذquot;، وهو يقصد quot; ينفدquot;. ألم أقل أنني سأتراجع عن مديحي لدور quot; النوريquot; بعد وقت قصير! لو أني أحصيت الأخطاء اللغوية والنحوية والشعرية في هذا المسلسل لتجمّعت على هذه الصفحة مثل النمل. بيد أن حالي وحالها كان كحال الصيّاد المسكين quot; خراشquot; الذي تكاثرت الضباء عليه، فلم يدرِ ما يصيد، ولعلّه عاد بلا صيد.
في العرض أعلاه، أردت أن أقول كلمتي حق في المسلسل.. الأولى له، والثانية عليه. لو أنّ هناك ثالثة فستكون بكل تأكيد عليه أيضاً، وهو ما أقوله الآن بلا رغبة حقيقية في تدوينه.
العمل الدرامي، أبو جعفر المنصور، نالَ حظّاً عالياً من رصيد المشاهد العربي، أو مجموع المشاهدة العربيّة، بحسب قناة الإم بي سي، التي تعرض المسلسل. وفي تقديري يمكن عزو جزء من هذا النصيب الوافر من المشاهدة إلى حقيقة أن المسلسل التاريخي، إياه، جاء في توقيت مناسب قررت فيه كل شركات الإنتاج العربية، تقريباً، الاسترخاء قليلاً والتخفف من الحمولة التاريخية التي أصبحت متطلباتها الفنيّة والمالية عالية للغاية. خاصة بعد رفد المشاهد العربي، وترقية ذوقه الفني والنقدي، بنماذج درامية تاريخية عالية القيمة الإبداعية كما فعلت السينما الأمريكية في السنوات الأخيرة في quot; طروادةquot; وquot; الملك آرثرquot; و quot; مملكة الجنّةquot; وquot; 300 سبارطيquot; ؛ وكما فعلت الدراما التلفزيونية السورية في عديد أعمال فنّية لافتة صعّبت من دور من سيأتي من بعد، كما في quot; ملوك الطوائفquot;. حدث هذا بعد أن وصلت الدراما التاريخية المصرية إلى حالة الموت السريري، وهي تصرّ على أن تستمر هكذا في الموت السريري واصفة موتها بالريادة، لتحقق المثل الشعبي اليمني القائل quot; سألوه من حطك شيخ وأنت أعور، قال ما في غيريquot;! وهكذا جاءت لحظة المكاشفة عقب مسلسل quot; ملوك الطوائفquot;، اللحظة شديدة الإيلام. فقد كتب quot; إبراهيم عيسىquot; اعترافاً مصريّاً شجاعاً وبالمانشيت العريض في صدر صحيفة الدستور المصرية: مصر التي فقدت أعزّ ما تملك..
من جديد، يمكن القول بقدر عالٍ من العفوية، أن مسلسل quot; أبو جعفر المنصورquot; يلعب الآنَ منفرداً في الساحة العربية، على طريقة quot; one man showquot;؛ يجبر المشاهد العربي على ترتيب وقته طبقاً لتوقيت قناة الإم بي سي، كما يتدخل في صناعة الفسحة quot;الشبابية والعائليةquot; حيثُ يقرر المسلسل أن تنتهي هذه الفسحة قبل الثاني عشرة ليلاً، فهناك سيطل وجه quot; منذر الرياحنةquot; بقسماته الذئبية الممتعة وهو يتقمص شخصية أبي مسلم الخرساني بنجاح نادر استطاع أن يوحّد بين الشخصيتين للدرجة التي جعلت صديقي يقول: أخشى أن يتعلق غرماء أبي مسلم الخرساني يوم القيامة برقبة منذر الرياحنة ويهوون به إلى النار..
وفي الطرف الآخر من منتصف الليلة الرمضانية سيكون عليك أن تنتظر النقيض التاريخي لأبي مسلم الخرساني، الماكر الأشد قوّة، أبي جعفر منصور. سيسعى بمكر الرجل ودهائه العبقري السوري quot; عباس النوريquot;. عباس النوري هو الممثل الوحيد، وعلى مسؤليتي الشخصية، الذي نجا من quot; كثرة quot; الأخطاء اللغوية والنحوية في المسلسل. قد أبدو فيما بعد متعجّلاً في هذا الحكم حين سأفلت من سيطرة الشخصية الدرامية لـquot; النوريquot; وأكتشف أنه هو الآخر لم ينج من quot; فضيحة اللغةquot; الكبرى التي دوّت في المسلسل ؛ أقول: قد أبدو فيما بعد، وحسب.
يستمر المسلسل - باقتدار لافت - في لمّ شتاتنا أمام شاشة الإم بي سي. وبالرغم من أنه كان بمقدور المسلسل أن ينحاز أكثر إلى مصلحة الهامشي، كما فعل النص الدرامي، وربما التاريخي، نفسه حين انحاز في جزء كبير من الحكاية ومن مشاهد التمثيل إلى مصلحة حضور رجل الهامش القوي quot;المولى، أبي مسلم الخرسانيquot;. إلا أنه أضاع هذه الفرصة الفنّية تماماً. في الواقع، سيبدو هذا المولى سيداً يصنع الحدث ويفضّه، وليس هامشيّاً، وسيتحول من الهامشي إلى المركزي شديد الفاعلية بسرعة محضة ؛ بيد أن روعةً ما كانت ستصب في صالح المحصلة النهائية للمسلسل فيما إذا قرر المنتجون تسمية المسلسل: أبو مسلم الخرساني، في الدعوة إلى الدولة. بدلاً عن quot; أبي جعفر المنصورquot;. دعونا نقترح مثل هذا الاقتراح لإخراج الدراما من إسار التاريخ الذي انحاز لحكاية الأمير وترك حكاية quot; المواطن البسيطquot; للحكواتي. كان بمقدور الدراما التاريخية، بل من لزوميّات حركتها الفاعلة، أن تمنح المغمور الصفحة الأولى، أن تبتدئ به فاتحة النص، وأن تبتعد عن الأمير الذي ملأ التاريخ باسمه، بغلمانه، بنزواته، حتى في حروبه. ففي الحرب يموت الآلاف بينما يتذكر التاريخ ndash; ومثله الدراما العربية ndash; فقط كيف أن الأمير نظر إلى دماء الناس ورؤوسهم ثم قال بتأفف: يبدو أنه ليس لشمس هذا اليوم من مغيب. هذه العبارة وردت على لسان عبد الله بن علي، عم المنصور، في معركة شرسة هزمه فيها quot; المولى أبو مسلم الخرسانيquot;. لقد فعل هوميروس النقيض تماماً، فمنذ أول سطر في إلياذته.، كان هناك أخيليس.
الحكواتي العربي، هو الآخر، حاول في لحظةٍ ما أن ينحاز لمصلحة إنهاء المرويّة بتفوق المقتول، الضحية ـ المهمش، كما فعل في سرده لقصة مقتل سعيد بن جبير على يد الحجاج. الأخير، الحجاج، لم يعش بعد مقتله لأكثر من14 يوماً، كما تقول المسرودة اللفظية، قضاها في كوابيس: مالي ولسعيد بن جبير. ومات في الأخير بتأثير لعنة المقتول، لينتصر quot; المواطن quot; على الأمير..
في المسلسل، ستسمع على نحو متكرر لأكثر من مرّة ذلك المولى وهو يصرخ أمام مستشاره quot; أبي إسحاقquot;: متى سأضع قيود المولى؛ وهو ما يعني أن ثمّة حاجة درامية ملحّة لفك قيود هذا المولى، لتغطية غربته التاريخية، من خلال منحه امتياز العنوان: أبو مسلم الخرساني، في الدعوة إلى الدولة.. أو أي اقتراح آخر لا يزيح أبا مسلم الخرساني من حيّز العنوان. ثمّة تشابه وتقابل بين شخصية أبي مسلم الخرساني، كما في العمل الدرامي quot; أبو جعفر المنصورquot;، وفي القصة التاريخية ذاتها، وشخصية أخيليس، في الإلياذة التي جسّدتها على نحو بديع شخصية quot; براد بيتquot; في فيلم طروادة. لا يبدو أن العاملين على إنتاج المسلسل كانوا على وعي تام بها.
أخيليس الذي عاش في الهامش، يقتل ويصطاد ويتمرّن، يتقاطع مع quot; أبو مسلمquot; الذي عاش بالجوار من المركز على نحو شديد الهامشية، الأول صنع نفسه مركزاً، والثاني صنعته الأقدار السريّة في المركز، دون أن تبرر لنا دراما المسلسل سر اختيار الإمام العباسي لأبي مسلم ليكون قائد الجيش، بعيداً عن التبرير السياسي بوصفه خراسانيّاً بمقدوره أن يجلب قلوب الموالي. بيد أن الإلياذة ستنتصر في الأخير لأخيليس على الأمير quot; هيكتورquot; وهو ما لن يفعله المسلسل التاريخي quot; أبوجعفر المنصورquot;. فالمنصور ndash; الأمير- سيتخلّص من المولى quot; أبي مسلمquot; منهياً حياته كـquot; مولىquot;، وهو ما سيؤكده الأخير في آخر مشهد يسجّله. فهاهو يتأهب لأن تكون آخر كلماته أمام الخليفة quot; البطل صاحب امتياز الثروة والسلطة quot;: مولاي، ادّخرني لأعدائك. سيموت أبو مسلم وهو يقول للملك ndash; الأمير quot; يا مولايquot; وسيموت أخيليس وهو يحرق طرواده، بلد الملوك والأمراء، ويقتل الأمراء والملك نفسه، وسيقتله سهم أحمق يصيب رباط قدمه من الخلف: رباط أخيليس، كما يسمى في علم التشريح. وفي لحظة موته ستنام في حضنه ابنة أخ الملك برايام. هل أفسد الالتزام الشديد بالنص التاريخي انشغال الدراما بتتبع ما هو فنّي؟ لنعُد إلى البداية: يقال أن د. الصلابي تدخّل كثيراً!
وبعيداً عن هذه المقاربات، فثم شيء آخر شديد الأهمية في معرض الكتابة عن العمل الدرامي quot; أبو جعفر المنصورquot;.. إنه اللغة!
ففي الوقت الذي تفاخرت به الدراما التاريخية السورية بقدرتها على ضبط إيقاع اللغة، بحسبان المجتمع السوري صدى للخطاب العروبي الرسمي وأن اللغة إحدى تجليات هذا الصدى، إلا أن شيئاً ما أساء إلى هذا الإدعاء الحميد. لقد امتلأ المسلسل بـ quot;سلسلة، متتاليةquot; من الأخطاء اللغوية والنحوية على نحو صادم، وأحياناً خادش للعمل الفني في العمق. فأبيات شعرية كثيرة يتم الاستشهاد بها وهي مليئة بالكسور. لا أشك لحظةً واحدةً في أن الكسور يقف وراءها كاتب السيناريو، كما يتحمل جزء من وزرها المؤرخ الصلابي، لأني أخشى أن يكون هو من أوردها مكسورة في نصّه التاريخي، الوثيقة التي اعتمد عليها المسلسل في تحركاته اللفظية، كما يفعل كثيرٌ من المؤرخين في تعاملهم مع الشواهد الشعرية. حضرت اللغة بصورة هزيلة كثيرة القروح، فالقائد يصرخ quot; أين جند العباسيون!quot; والجندي ينادي quot;اخلعوا بيعة مروان ابنَ! محمدquot; والمرأة تناجي quot; زال ملكُ بنو! أميةquot;، وأبو مسلم يقول quot; سأقتل أبو جعفرquot;، والفقهاء يحدّثون الناس من على المنابر: نقض العباسيين عهودهم للمسلمون.. و أبو دلامة يحاكي مقتل أبي مسلم أمام الخليفة: إن أهلَ الغدرِ آباءك! الكردُ!.. وهكذا، متتالية من الأخطاء النحوية واللغوية تكاثرت إلى الحد الذي جعلني أراها أمامي على شاشة التلفزيون تعشو مثل سرب من الذباب!
وإذا ما حاولنا فهم الأسباب التي أدّت إلى إنتاج هذه المشكلة اللغوية، التي تورّط فيها المسلسل، فيبدو لي أن الثقة الزائدة التي انتابت المنتجين والاستسهال الذي جعلهم يستنكفون عن إعادة تصوير المشاهد التي يخطئ فيها الممثل quot; على صعيد اللغةquot; وشعور فريق الإنتاج والإخراج بعدم الحاجة لمراقب لغوي جاد كانت سبباً في خفض القيمة الفنّية لعمل تاريخي استحضر فترة زمنية فاصلة في التاريخ الاسلامي من خلال quot; لغة ذلك الزمنquot; دون أن يقوم بواجب الرعاية المستحقة لتلك النزيلة الحميمة، اللغة. مرّة أخرى، سأعزو هذه الفضيحة إلى غياب المنافس الدرامي، المصري تحديداً. وهو ما سيعني على المدى القريب سقوط هذا اللاعب، المنتج والمخرج والممثل وكاتب السيناريو ndash; طاقم المسلسل، في فخ الاستسهال والواحديّة كما سقط من قبله اللاعب المصري وخرج عن المنافسة. هل أصبح الوقتُ مواتياً لظهور لاعب آخر في حقل quot;الدراما التاريخيةquot; يستفيد من سقوط أباطرة المشهد الراهن بسبب لعنة اللغة والوقوع في فخ الاستسهال وغياب المنافس؟ أتساءل فقط.
جوانب أخرى من هذا العمل الدرامي لم أستطع استيعابها تماماً. فهناك شخصيات درامية جرى الزج بها في أتون الحدث الفنّي دون أبسط تبرير درامي. كل ما في الأمر أن المؤرخ، فيما يبدو لي، أصرّ على أن يجري استحضار شاعر لا يعرفه أحد ndash; ولا حتى المؤرخ نفسه ndash; قال في بني أمية قولاً حكيماً عن quot; كيف تسقط الدول حين تظلمquot; و quot; كيف أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجابquot; وألح على ترك هذه quot; اللطيفةquot; في ذهن المشاهد كصورة من صور توزيع مهام العمل الفنّي، هذه المرّة باتجاه إنتاج العبرة والعظة. وفي عملية الاستحضار هذه ستقف امرأة لا تظهر غير مرة واحدة في جزء من الدقيقة في كل المسلسل لتسأل رجلاً يشاركها نفس فترة الحضور فيرد عليها بثلاثة أبيات من الشعر، ثم يختفيان إلى الأبد، وكأنهما صاحبا دواود عليه السلام quot; إذ تسوّرا المحرابquot;! هذه الكبوة تكرّرت على أكثر من شكل، وفي أكثر من مناسبة. وهو أمر بمقدوري أن أعزوه إلى وجود روايات تاريخية جانبية خارجة عن نص د. الصلابي، استساغها كاتب السيناريو وطاقم الإنتاج ولم يرفض الصلابي وجودها، أو ربما أوردها هو في نصه التاريخي كهوامش أو حكايات على هامش خيط الحكاية الأساسي. وهو ما يعني إقحامها قسراً في دوّامة الخيط الحكائي حيث ستبرز على شكل نتوءات ميّتة أخشى ndash; إن كنتُ فعلاً أخشى ndash; أن يكون قد تم استيرادها لكي تطيل عمر العمل الفنّي.
بدأت الدعوة العباسية في خراسان، هكذا قال العمل الفنّي. لكنه في الوقت الذي كان يقول لنا فيه عبر العباسيين أنفسهم بأنهم يخشون عسكر الأمويين، ويختبئون في الجحور والمغارات، إلا أننا اكتشفنا أنهم ينتصرون على العباسيين في خراسان، مرو، ويطردون الأمير الشاعرquot; نصر بن سيّارquot; إلى حدود خراسان حيثُ سيموت هناك على نحو غريب. وها إنهم يتأهبون لدخول الكوفة! ياللسرعة! وعلى طول حلقاته الأولى لم يساعدنا العمل الدرامي في تخيّل نمو القدرة العباسية السريّة، حجم الاتباع، انتشارهم الجغرافي وحجم هذا الانتشار، دور العلويين الحقيقي فيه. فإذا كانت الدعوة تنمو في السرّ دون علم بني أمية، ولا جندهم، فليست من المهارة الفنّية أن تنمو هذه القدرة وهذه الدعوة بعيداً عن أبصارنا نحن أيضاً.. نحن المشاهدين الذين نقسمُ أننا لم نكن ننوي إخبار بني أميّة بذلك. لقد استنفد العمل الدرامي جزءً كبيراً من وقته في المقولات، وهو ما يعني أن أولى حلقاته قد تمّت بميزانية quot; خيط جزمة Shoe string budgetquot; كما يقول الأمريكان.
وبمناسبة كلمة quot; استنفد quot; التي وردت أعلاه، فقد كان لافتاً قول أبي جعفر المنصور، على لسان عباس النوري، وهو يتحدث عن شركائه العلويين: لقد بدأ صبري quot;ينفذquot;، وهو يقصد quot; ينفدquot;. ألم أقل أنني سأتراجع عن مديحي لدور quot; النوريquot; بعد وقت قصير! لو أني أحصيت الأخطاء اللغوية والنحوية والشعرية في هذا المسلسل لتجمّعت على هذه الصفحة مثل النمل. بيد أن حالي وحالها كان كحال الصيّاد المسكين quot; خراشquot; الذي تكاثرت الضباء عليه، فلم يدرِ ما يصيد، ولعلّه عاد بلا صيد.
في العرض أعلاه، أردت أن أقول كلمتي حق في المسلسل.. الأولى له، والثانية عليه. لو أنّ هناك ثالثة فستكون بكل تأكيد عليه أيضاً، وهو ما أقوله الآن بلا رغبة حقيقية في تدوينه.
التعليقات