محمد عريقات: بعد أن كانت العرب تقيم الاحتفال عند مولد شاعرٍ، صارت الآن تقيمُ لهُ المقصلة والمراسم بأناقةٍ فجّةٍ إلى القبر، بينما نلاحظ مدى الاهتمام الذي يحيط بالكتاب الشعري والشعراء في الغرب، واحتفاء دور النشر البارزة بالمواهب وتبنيها وصناعتها كل عام، فقد برزت في الفترة الأخيرة ظاهرة مهمة جدًا تهدد ثقافتنا، وبالأخص مواهبنا الشعرية الجديدة وهي إقلاع أغلب دور النشر وأبرزها عن نشر المجموعات الشعرية، بحجة عدم رواجها وبيعها في المعارض، وانخفاض نسبة الإقبال عليها من القرّاء والنقاد.
حدثني أحد الأصدقاء أنه عاد خائبًا بعد أن قام بعرض مخطوطه الشعري على عدّةِ دور نشر رفضت بالطريقة نفسها طلبه رغم أنه تكفل بدفع مجمل تكلفة الكتاب، وأضاف بأن أحد الناشرين المعروفين جدًا والأكثر انتشارًا لم يتمكن من إخفاء امتعاضهِ الشديد، وتصنع انشغالهِ حالما عرف أن المخطوط المطروح بين يديه، -والذي قام بتزكيته عدد من الشعراء الكبار اللذين ينشرون لديه- مجموعة شعرية، متعذرًا بأنه لا ينشر الشعر، فلو كان قصة/ خاطرة/ مقالات مثلا لوافق على نشره، إنما الشعر فصعب.. صعب جدًا.
تذكرنا هذه الحادثة ببدايات معظم الشعراء الكبار، ممن واجَهتهم مثل هذه العراقيل، كلنا يعلم أن الشاعر علي أحمد سعيد لجأ إلى لقبِ أدونيس ليجد لقصائده مكانًا للنشر بعد أن رُفضت مرارًا من مسؤولي النشر آنذاك، وكيف أصبحت في موقع اهتمامهم وأولوياتهم بعد أن انطلت عليهم حيلة الاسم، ونتذكر الماغوط الذي قدمّ قصائده لمجلة شعر دون أن يفصح عن اسمه حيث تركهم حائرين تارة ينسبونها لجاك بريفر وتارة إلى بول إلوار، وحادثته مع مجلة الآداب عندما أرسل قصائده موقعة كالتالي: quot;الدكتور محمد الماغوطquot; حيث لم يكن له سبيل غير ذلك لتنشر، وهنا أتساءلُ عن مصير أدونيس والماغوط ومكانتهما في الشعر العربي لو لم يلجآ وهما في مقتبل مشوارهما الشعري إلى هذه المنافذ؟ بالتأكيد سيكون الاحتمال الأكبر اندثارهما، ولكانت الحياة العاتية أخذت بهما إلى مسالكها الأخرى، وخسرنا ما خسرناه.
لم تعد الحرب باردة على الشعر، منذ انصراف النقاد عنه وتوجههم الكامل نحو الأجناس الأخرى حتى امتناع الناشرين عن ترويجه وطرحه، وبعد ذلك نلوم القارئ إذا أقصاه واتجه إلى الرواية التي أصبحت ديوان العرب بفضل هذه الحرب العلنية.
من المخجل أن نتخذ مثل هذا الموقف تجاه فنِّنا العظيم الذي أولته العرب والبشرية جمعاء جل اهتمامها وتعظيمها، والذي كان منذ كانت الإنسانية على الأرض ترجمانًا لها، وإناء لفلسفتها وتساؤلاتها، والحافز الأساسي لتقدمها والمقياس الأبرز لتمييز كل أمة عن غيرها، والذي سيظل مصدرًا صادقًا لرواية التاريخ، ألم ينشرهُ العرب على أهم وأقدس موضع في الأرض؟ ألم يعلق على quot;الكعبةquot;؟ ألم يجعلوه قبلتهم الحياتية وأرشيفهم اليومي؟ ألم يقل النبي محمد (ص): quot;لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنينquot;؟ إضافة إلى ذلك مقولة الخليفة عمر بن الخطاب المعروفة: quot;خير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجتهquot;؟.
إضافة إلى ما ذكر آنفاُ هو مجانية النشر، وعدم مراعاة الشرط الإبداعي، خاصة تلك الكتب التي فقدت ثقة القارئ منذ زمن مضى والتي غالبًا ما تكون مشفوعة بالواسطة والحِكر على أسماء بعينها كالتي تصدر عن المؤسسات الثقافية الرسمية.
كل ذلك يزيد من زخم الإصدارات التي ترهق المكتبة، وإن كان هذا الزخم ينتج عنه خلاصة مبدعة، إلا أن وجود رقابة تعنى بالشرط الإبداعي والجنس الأدبي لا السياسي أو الديني أو الأخلاقي فقط، من أكثر الأشياء ضرورة خاصة في هذه المرحلة المشرعة على الخواء، في هذه الفترة التي انحسرت فيها أهمية الشعر وفاعليته، وتخلي معظم دور النشر عن مهنيتها وذائقتها، ووقوفها علانيةً إلى جانب حشودِ الأدعياءِ ضدّ الشِّعر.
لا أدري ما هو حل هذه المشكلة لأطرحه، فقد وصل السيلُ الزبى كما يقال، وبلغ التردي أشدّهِ في ثقافتنا التي هي بالأساس هويةُ الجماعة المتلخصة في كلِّ فردٍ منّا، الشعراء ساروا صفّينِ يحتربون على القديمِ والحديث والشعرُ هو الضحيةُ الوحيدةُ بينهما، بينما رست هذه المفاهيم واستقرت بوضوح ورضا في سائرِ الثقافاتِ حولنا قبلَ عقود دونَ أن تقفَ ذائقةٌ ضدّ أخرى، مشغولةٌ بالشعرِ عن غيره، معنية بالإبداع لا في الأشكال والقوالب والقوانين الجامدة.
قد يطول الوقت حتى نصحو من هذه العتمة المقيتة، وحتى نشفى من حمى النميمة الهدامة، ونعيد النظر -كلٌّ على حِدةٍ- في ثقافتنا ومفاهيمنا، وتعاطينا مع الآخرِ، عسى أن نتمكن من الخروج قبل فوات السنين من قرارةِ البئرِ السحيقةِ تلك. ورغم كل ما ذكرت سيظلّ الشعر سيد الفنون جميعها بكل أشكاله، والأيام هي الحكم الوحيد الذي يظهرُ الحقيقة مهما حاولنا إبعادها ونفيها.
شاعر أردني
[email protected]