عبر مخاضٍ وحشي، تراءت فيه الأشجار وهي تنوء من ولادة عسيرة. ثمة حزن حاد بدأ يسري في عروق الجسد المنهك، ففي تلك اللحظة من ساعات الغروب، خيمّ بالقرية الجاثمة خلف النهر، حلمٌ وفرحٍ من نوع خاص.
فالمرأة المستلقية تحت ظل الشجر الوارف في وسط الغابة، منفوخة البطن، غريبة وحزينة. لا أحد يلملم أوجاعها أو يخفف من شدة تعاستها، مسكينة لاشيء يعرف عنها. حافية ومتورمة القدمين، رثة الثياب و تتنفس بأنين متقطع، على صدغيها بقع دماء حارة، ولطخة كبيرة تتربع على خاصرتها، فيما رُسمت مجارٍ لدموع جافة على الوجنتين.
رآها صبية كانوا يلعبون صدفة، ذعروا أول وهلة، خافوا من كبر بطنها وطول شعرها. بدت في حاله إغماء، كأنها قادمة من سفر طويل، تراجعوا، ثم ولوا الأدبار إلى بيوتهم، أخبروا أهاليهم.
قال شاب من أهل القرية: وهو يفتل شواربه الغضة، ماسحا عيناه على نصف النهد الأبيض ممن إلتم حولها، وكان في العقد الثاني من عمره:
ـ غانية ومطارده بسبب إثمها.
أضاف آخر، بدت هيئته تكشف وضعه المزري. وكان بلحية مجعدة، وقد وصل الموضع تواً، دون أن تزوغ عيناه عن فخذيها المفتوحين إلى حيث ملابسها الداخلية، وبصوت جهور:
-حملها مرعب ومخيف قد تكون مضطهده، أمهلوني يومين لأتقصى أخبارها.
فيما أردف رجل طاعن بالسن ذو شيب أبيض، يعتمر كوفية حمراء مخططة ويلتحف عباءة، يتكأ على عصا وله عينان تبلع بحارا من الصبر. جاء من خلف الجموع، يومئ لهم بعصاه أن يشقوا طريقاً له إليها:
- سنسمع قصتها بعد الولادة. أرجوكم التزموا الهدوء.
وصلها الشيخ، تتبعه زوجته. تأملاها، نزع الشيخ عباءته وغطاها، نظر نحو زوجته بعد أن تهامسا بإشارات بدت مفهومة من كثر الاستخدام ثم استدار نحو الجمع، وأمرهم بالتفرق. عدا أربع نسوة أمرهن بحملها إلى باحة بيته حيث الخيمة المعدة للضيوف.
سويعات قليلة، كانت المرأه فوق فراش من قش ترتجف بشفاه زرق، امتلأ رحمها بالأوجاع وعلا صراخها، فزغردت النسوة اللاتي جيئ بهن لمساعدتها على إخراج مولودها، طارت عصافير حول الأشجار وهبت رياح تحمل رسائل من قبور الناس الذين ماتوا بلا ألم.
تنفست المرأة الصعداء فالتفّ أهل القرية حولها، بينما شاع خبر بأن المرأة جنّ لأن ساعة ولادتها تأخرت أكثر من اللازم، لذا زينوا أزقة القرية بتماثيل طينية، وعملوا طقوسا غريبة وقالوا:
-إن الوليد مازال يحلم، إنها ساعة الولادة وعلى الكل المجيء.
من فوق الأرض المنحدرة صوب القرية الوديعة. جاءوا ثانيه كالأمواج، والتموا حفاة حولها، وراحوا يغنون كوحدة واحدة ويقيمون الصلاة بخشوع وكأنه صفير إنذار للكون. أن مولد هذه المرأة الغريبة سيكون بركة ويمن، هكذا قالوا، لذا ذبحوا القرابين ولفوا جسدها بقماش مزركش بالطير، وراحوا يبتهلون بدعاءات ممزوجة بتراتيل دينية. دبّ في القرية هسيس حكايات مضطربة تناقلتها ألسنة النسوة بشجاعة مصطنعة وخبث متعمد حول المرأة.
الزمن يتباعد بهدوء تام ولاشيء يعكر صفو الغروب سوى همسات الصبية الملتفّة حول جسد المرأة المسجى على القش.
في منتصف الليل ابتدأ القمر بالاغتسال. اصطف أهل القرية حولها صفين، الأول نساء وصبيان بينما تعالى غناء عال من الصف الثاني، حيث يلتحم الرجال إلى الخلف وينثرون ورودا من كل لون.
تصاعدت أغاني غير مفهومة عبر إيقاع طبل صاخب، واختلطت بصراخ المرأة حيث لايدركها الوليد الآتي، ويا له من طفل جميل، اقترب المخاض، وبانت الساعة، فزانت في فضاءات القرية مراسيم الولادة.
جاء الطفل. فتقاذفته النسوة بنشوة، وعلت أفواههّن زغاريد فرح إلى الأعلى، تصبّب العرق النازل من جبين المرأة. فامتزج بخصلات شعرها الملتصق على وجهها. أحست بطعم الملوحة وبكاء مولودها، انغمست روحها ثانية في احتضار قادم لم يحسه ممن هم حولها، كانت ترتجف بشدة، طلبت ماء، فجيئ بإبريق منه، فتبللت به وأنزلت عدة قطرات في جوفها اليابس.
انبزغ الغسق على أهل القرية، وأطل المجهول بعد ليل طويل، فاصطفوا من جديد، هدأت أهازيجهم و طأطأوا الرؤؤس، التزموا السكوت، وبدت صرخات الوليد تتصاعد نحو الفضاء ليأخذ معه الأم الحلم.
لاذ صمت عميق بعد صعود روح الأم. وأطبق الفجر على وجوه الصبية والنساء الحافيات القدمين، وشيئاً فشيئاً تحول صراخ الوليد إلى ضحك متواصل وأخذ يتعالى و يتعالى. ويا له من طفل جميل إنه قدر القرية الجديد

[email protected]