مارسيل دوشامب: (الزجاجة الكبيرة) أو (العروس منزوعة الثياب من قبل فتيانها)

الزجاجة الكبيرة أو العروس منزوعة الثياب من قبل فتيانها

عمار سلمان داود: إن هذا النص هو واحد من سلسلة نصوص سأتناول فيها الفنانين الأكثر تأثيرا في فن اليوم. وقد يتذكر القارئ المهتم أنني سبق وان تناولت في جريدة إيلاف أعمال الألماني جوزيف بويز Joseph Beuys في نص بجزأين، والفرنسي جان دوبوفييه Jean Dubuffet وفيما يلي سأتناول مارسيل دوشامب Marcel Duchamp محاولا أن استعرض بعضا من أعماله الأكثر تداولا وشهرة في مباحث الفن. وأختم نصي هذا، في مقال منفصليتضمن ترجمة لجزء من حوار حول عمله الأكثر أهمية وهو (الزجاجة الكبيرة) أو (العروس منزوعة الثياب من قبل فتيانها).
أراد دوشامب أن يلغي الحدود التي تضيّق من معنى وهدف الفن. وقد تمخض هذا القرار عن ابتداعه لما سماه بالفن الجاهز) (Ready-mades الذي يتم تحقيقه بثلاث مراحل: وضع الشيء (بعد عزله عن محيطه الطبيعي) على قاعدة، التوقيع عليه، وأخيرا تقديمه إلى لجنة العرض.

عجلة الدراجة النافورة


(نشافة الزجاج) و (عجلة الدراجة) والمبولة المعنونة ب(النافورة) هي من أوائل أعماله في مجال الفن الجاهز.
من المهم أن نذكر أيضا أن المحتوى الجمالي في الفن الجاهز هو (عامل غائب) أو ليس بذي أهمية مركزية على الأقل بالنسبة للفنان في حين سيقوم العنوان الخاص بالعمل الفني ودلالته الرمزية وما ينطوي عليه من تداعيات بشحن هذا العمل بمؤثرات بديلة تتعلق باللغة وما يمكنها أن تحيلنا إليه من محتوى بلاغي أو دلالي قد يمارس نوعا من المراوغة مع وعي المتلقي عن طريق الإحالة إلى دال مزدوج الدلالة مثلا، أو أن حضور العمل ذاته يوقفه في حضرة الوجود بكل قوته إلى حد الدهشة إزاء انكشافه (كما يقول الوجوديون) ناهيك عن طابع (الفتشية) التي تصاحب حياة هذه الأعمال وهي داخل المتحف بعد أن تم نزع الطابع العملي النفعي عنها.
ستضع إذن هذه الممارسة عنصر المفهوم أو المقصد في المقدمة في حين سينحسر الاهتمام بجمالية الموضوع الإبداعي كشيء أو ككيان مادي إلى أدنى أحواله ناهيك عن نزع صفة (الأصلية) أو (الندرة) منه وذلك بتعدد نسخه، (لقد عمد دوشامب إلى توقيع نسخ متشابهه لأعماله في الفن الجاهز وقام بتوزيعها على العديد من متاحف العالم).
في العام 1917 سيساهم بعمله الفني المعنون ب(النافورة) وهي مبولة حقيقية مستعملة جلبها إلى لجنة التحكيم لمعرض (اللامنتمين) في نيويورك بعد أن وضع عليها التوقيع (R.Mutt) والذي هو اسم الشركة المصنعة لهذه المبولة! ولكن محاولته الأولى هذه باءت بالفشل، فقد رفضت اللجنة عمله! وهو الذي سيتحول فيما بعد إلى المنجز الابداعي الأكثر تأثيرا وانقلابية في مفاهيم الفن المعاصر والى يومنا هذا.

L.H.O.O.Q Rose Selavy

وفي منجز آخر سيكون المحتوى الجنسي مختلطاً بالسخرية والمفارقة من نصيب صورة (الموناليزا) المستنسخة والتي سيلوّن عليها شارب ولحية اسبانية، مشيرا بذلك إلى الاعتقاد السائد بالميل إلى المثلية الجنسية لشخصية العبقري ليوناردو دافينشي (لعالم النفس فرويد بحث معروف في هذا الشأن) وهكذا سيضع دوشامب الحروف (L.H.O.O.Q) اسفل الصورة والتي أراد لها - إذا ما نطقت بالفرنسية - أن تحيلنا إلى جملة ذات مناخ جنسي فاضح:
bdquo;Elle a chaud au culrdquo; (هي لديها عجز دافئ!)
من المهم ونحن نتصدى هنا الى موضوع الجنسانية في عمل الموناليزا ذات الشوارب أن نتذكر الصورة الفوتوغرافية التي التقطها الفنان مان راي Man Ray لدوشامب وهي صورة تقدمه مرتديا لمعطف فرو نسائي ومتبرجا بكامل مستلزمات التبرج الخاصة بالنساء! ولسوف يقوم دوشامب وكعادته باللعب مع اللغة وذلك بوضع الجملة الفرنسية التالية (Rose Selavy) كعنوان للعمل والتي ستعني شيئا آخرا بصيغة القراءة المسموعة: (Eros crsquo;est la vie / ايروس هو الحياة!) وأخيرا سنجد تركيزا واضحا على المعنى الايروتيكي مجددا في العمل الشهير (العروس منزوعة الثياب من قبل فتيانها) كما هو واضح في العنوان ذاته. ومن المهم التنويه إلى أن هذا العمل في صيغته الأولى لم يكن يتوافر على أي شقوق في ألواح الزجاج التي تتضمن العمل الفني بين دفتيها، بل لقد حدثت الشقوق أثناء نقل العمل إلى قاعة العرض! وقد ارتضى دوشامب أن يكون العمل بهذا الشكل وبصورته النهائية!! واعتبر أن الشقوق ستمثل آثارا للمسات الأخيرة عليه.
لم يترك دوشامب أي تفسير محدد لعمله هذا، ولكن الشاعر والأب الروحي للسوريالية اندريه بريتون لم يرتض إلا أن يسجل انطباعه عنه: ((شخوص هذا العمل تستدعي عرضا دراماتيكيا حول الحب البشري مرئيا من قبل مخلوق قادم من كوكب آخر وقد عسر عليه فهمه!)).

Three Standard Stoppages

من المهم هنا أن نذكر الأهمية الكبرى التي كان دوشامب يعزيها إلى عنصر الصدفة في الإبداع ولعل عمله المعروف بعنوان (Three Standard Stoppages) وهو عملية تجميد للصدفة ويمثل تتويجا وإعلاء من شأن هذا المعنى (ألقى بخيط طوله متر لثلاث مرات على الأرض ولسوف يسجل الهيئات الثلاث المختلفة للخيط عن طريق استنساخها ومن ثمة تخريم أشكالها على قطع من رقائق الخشب! ووضعها في صندوق أنيق!) ولم تسلم الزجاجة الكبيرة أو العروس المنزوعة الثياب من قبل فتيانها من هذا العنصر فلسوف يتعمد إلى أن يجعل هذا العمل يتعرض إلى غبار مدينة نيويورك بعرضه قرب نافذة مفتوحة لمدة طويلة وليقوم صديقه الفنان مان راي بتصوير هذا العمل وقد غطاه الغبار.

مقطع من الزجاجة الكبيرة وقد غطاه التراب

لقد كان دوشامب رجلا متعدد المواهب فقد مارس رسم الكاريكاتير وعمل مدرساً للغة الفرنسية في أمريكا التي هاجر إليها عام 1915 من بلده الأول فرنسا وعاش فيها حياته الباقية. ولد عام 1887 من عائلة تهتم بالفن والثقافة وتوفي عام 1968، لعب الشطرنج دوراً كبيرا في جزء من حياته، وهو يتميز بحبه الكبير للدعابة وكرهه للتميّز كفنان وميله للكشف عن مواطن العبث واللامعقول في الكيان الإنساني والوجود، لقد نزع دوشامب عن الفن الكثير من مقوماته التي تستمد حياتها من مفاهيمية الحقب الماضية. لم يعد الفن بالنسبة له فضاء تسبح فيه الأشكال مستعرضة طابعها الجمالي حسب، بل إن الجمال مرتبط بالقابلية الذكية لمراوغة المعنى وبمقدار الالتباس الذي ينشره في فضاء الموضوع الإبداعي حتى يجعل المتلقي أسيرا لتعدد أوجه معانيه. لقد نجح دوشامب في تحريضنا على تجريب طرق جديدة في التفكير داخل ومن خلال العمل الفني ناهيك عن اكتشاف نسق تقييمي جديد له لا يعتمد على النموذج الثنائي القديم: الشكل والمضمون.
عُرف بأنه احد آباء (الدادائية) الكبار، وقد ساهم في التكعيبية والحركة المستقبلية ولوحة (العارية تنزل من السلم) هي واحدة من الشواهد المهمة على الفن المستقبلي، إضافة الى تحوله في الثلاثينات إلى السوريالية، إلا أننا سنجهل الكثير من أعماله في الأربعينات وستلفها السرية التامة إلى ما بعد وفاته فحينها سنكتشف انه صنع عددا من الأنصاب الميكانيكية المدهشة!.
عرف دوشامب في أواخر عقود حياته بقطيعته الطويلة للفن وصمته عن التصريح في شئون الإبداع! وإن ما تركه من أعمال تشكل غالبيته مناهل لا تنضب من المادة الإلهامية للأجيال الحاضرة والقادمة. لم يزر أي متحف أو معرض فني في العقود الأخيرة من حياته! وكان ينعت أعماله الفنية بكلمة أشياء أو أغراض بدلا عن أعمال فنية وكان يقول اصنع أعمالي بدلا من أن يقول: أبدع أعمالي.
عمد دوشامب إلى عمل نسخ عديدة من أعماله القليلة ولهذا ليس غريبا أن نجد لها نسخا متشابهة في مختلف متاحف العالم. مات دوشامب فجأة في مرسمه عن عمر 81 عاما.

يتبع الحلقة الثانية: جزء من حوار مع مارسيل دوشامب

عمار سلمان داود، كاتب وصانع صور يقيم في السويد