عادل صوما: تمر هذا الشهر ذكري مئوية ليو تولستوي (9 أيلول/سبتمبر 1828- 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1910) ويعتبر الكونت ليف نيكولايفيتش تولستوي من عمالقة الروائيين الروس وأحد أعظم الروائيين في العالم.
لم تزل أعمال ليو تولستوي من أوائل أفضل المبيعات في عالم الرواية والترجمة إلى لغات اخرى، لقدرته الفائقة على التصوير وجذب العواطف الانسانية وإثارة المشاعر النبيلة في نفوس القراء وتسليتهم، وهو عكس روائيي الحداثة الذين يكتبون لبعضهم بعضا وكأنهم اعضاء جمعية سرية، يبخّر كل عضو فيها للاخر في الاعلام، والنتيجة اسماء كبرى إعلاميا ومبيعات متدنية، لأن الناس إتجهت لسماع الاغاني للترفيه.
ارستقراطية وعصامية
ولد تولستوى في ضيعة ياسنايا بوليانا القريبة من موسكو، من أعمال روسيا القيصرية، وكانت تملكها عائلته الأرستقراطية، وتوفي والداه عندما كان صبياً صغيراً، وتولت خالاته تربيته، وتلقى تعليمه الأولي، على مدرسين خصوصيين أجانب، وفي عام 1844 التحق بجامعة كازان، إلا أنه ضَجِر من الطريقة التي يشرح بها أساتذته الموضوعات العلمية، فترك الدراسة قبل تخرجه، وعاد إلى مسقط رأسه عام 1847، ليبدأ تعليم نفسه بنفسه. فصار يقضي الساعات الطوال، ينهل من مصادر العلم والمعرفة. وعن فترة صباه تلك، كتب ثلاث روايات هي: الطفولة Childhood،والصبا Boyhood، والشباب Youth، لكنه سئم إسلوب حياته وبيئته، فالتحق بالجيش وشارك في بعض المعارك، وكتب عن تجاربه موضوعات نُشرت في الصحف، وألَّف عنها روايته quot;القوزاقquot; سنة 1863.
تقاعد تولستوي من الخدمة العسكرية وسافر إلى أوروبا الغربية وأعجب بطرق التدريس هناك، وحين عاد لمسقط رأسه بدأ في تطبيق النظريات التربوية التقدمية التي عرفها، ففتح مدرسة خاصة لأبناء المزارعين، وأنشأ مجلة تربوية تدعى quot;ياسنايا بولياناquot; شرح فيها أفكاره التربوية ونشرها بين الناس.
هكذا صار تولستوي مصلحا اجتماعيا إجتماعيا، إضافة إلى كونه روائيا من أشهر أعماله إطلاقا روايتّي quot;الحرب والسلامquot; و quot;آنّا كارنيناquot;، وهما من أرقى ما كُتب في الادب الأدب الواقعي، لأنه صوّر فيهما بعض تفاصيل الحياة الروسية في تلك الحقبة الزمنية، وجعل قراءه يسمعوا ويشاهدوا هذه الحياة ولا يقرأون عنها فقط. تتناول تولستوي في quot;الحرب والسلامquot;، هذه الرواية الخالدة، مراحل الحياة المختلفة، كما وصف الحوادث السياسية والعسكرية التي حدثت في أوروبا في الفترة مابين 1805 و1820، وغزو نابليون لروسيا عام 1812. أمّا رواية آنّا كارنينا فقد تناولت احداثا إجتماعية في روسيا القيصرية بصورة حكاية غرامية تلهب الاحاسيس
تولستوي ايضا داعية سلام وفيلسوف ومفكر أخلاقي، فقد اعتنق افكار المقاومة السلمية النابذة للعنف، وبلور رؤيته هذه في كتاب quot;مملكة الرب بداخلكquot;، وهو العمل الذي أثّر حتى على مشاهير القرن العشرين مثل المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ في جهادهما الذي اتسم بسياسة المقاومة السلمية النابذة للعنف. كما تأثر بعض المفكرين العرب بتولستوي ومنهم سلامة موسى والشيخ محمد عبده.
كتاب الاعتراف
كتب ليو تولستوي quot;الاعترافquot; وفيه خلاصة افكاره التي حوّلت مسار حياته الشخصية تماما، لكنه لم يأخذ ضمن كتابات تولستوي، ما يستحقه من شهرة وتقدير لإجتماع المؤسسات الدينية المسيحية ووطأة الحياة المادية على عدم تقديره، ذلك التقدير الذي يمنحه للكتاب الذين يقدرون التجربة الروحية، وهم قليلون في العالم.rlm;
الكتاب يصوّر تجربة تولستوي نفسه في الاختلاط مع طبقة الكتاب والشعراء والمثقفين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم رواد التعليم في ذلك الزمن، حيث أصبح التطور أو التقدم دين المجتمع الجديد، وقد رأي بعينيه في إحدى رحلاته لباريس شبابا تُقطع رؤوسهم من قبل السلطة بحجة أنهم من أعداء quot;التقدمquot;! أمن تولستوي بهذا الدين الجديد فعمل وقرأ بنهم وكوّن اسرة واصبح مشهورا، وإذا به يسمع صوتا داخليا يقول: وماذا بعد؟ ما جعله يبدأ مرحلة في حياته، لم يعد له فيها قدرة على العيش، بسبب الإحساس بأن أي سعادة أو تعاسة في هذه الحياة ما هي إلا خدعة، فالعلوم لا تعطي إجابة عن تساؤلاته: ما معنى الحياة؟ وعمله وثروته لم يوصلاه إلى يقين، فهداه تفكيره إلى الاتجاه للعامة، فشعر بأنهم يعيشون معنى الحياة حتى لو كانوا غير قادرين على التعبير عنه، لأنهم سعداء راضين بالحياة رغم أنهم ينقصهم الكثير من رفاهية الماديات التي تتمتع بها طبقة المثقفين والأثرياء، وهم لا يرفضون الحياة ولا يرونها عبثا مثل الطبقات التي يعيش بينها.
شعر تولستوي براحة العيش وسط هؤلاء البسطاء. لكنه كان يشعر بأن هناك نوعا من المعرفة يحتاج إليه ولم يجده بعد.rlm; من هنا بدأت مرحلة جديدة في حياته وجد فيها شيئا كان بمثابة اكتشاف عظيم، عندما أيقن أن الإجابة عن تساؤله الأساسي: ما هو المعنى الذي لا يحطمه الموت؟ وكان الجواب هو توحد الإنسان مع ما لا يموت، وهو الله، ما جعله يدرك أن هناك نوعا من المعرفة تختلف عن معرفة العقل، لأن معرفة العقل تتعامل مع كل ما هو موقت، وهي مصدر حقيقة كل ما هو موقت، لكنها لا يمكن أن تكون مصدرا للمعرفة ما هو خالد.
كتب تولستوي: quot;وبأقوى من أي لحظة أخرى في حياتي أشرق كل شئ داخلي ومن حولي بالنور، ولم يفارقني هذا النور أبدا.rlm; ادركت أن الحياة الروحية تُعاش لا تُلقن، rlm;وكسب الحياة يكون بخدمة الناس لا باعتزالهم، rlm;وفهم الكتاب المقدس هو بحرية العقل ونقاء القلب لا بالترديد.
الحرمان الكنسي
فهم تولستوي المسيحية كما هي بعيدة عن تأثير المؤسسات، فدعا للسلام وعدم الاستغلال، وعارض القوة والعنف في شتى صورهما، لكن الكنيسة الارثوذكسية في روسيا لم تعجبها آراء تولستوي التي انتشرت بسرعة، فأعلنت حرمانه وأبعدته عنها، فقاوم جبروتها وأُعجب بآرائه وموقفه عدد كبير من الناس، الذين زاوروه في مقره بعد أن عاش حياة المزارعين البسطاء تاركا حتى عائلته الثرية المترفة، بعدما وهب الكثير مما يملك للفقراء، وعاش زاهدا يعلّم الناس ويكتب الروايات.
إتجه تولستوي في اواخر حياته المديدة لكتابة القصص الخيالية فكتب موت quot;إيفان إيلييتشquot; سنة 1886، كما كتب بعض الأعمال المسرحية مثل quot;قوة الظلامquot; عام 1888. أمّا أشهر أعماله التي كتبها في شيخوخته فهي quot;البعثquot; وهي قصة كتبها عام 1899، وتليها شهرة قصة quot;الشيطانquot; 1889، ورواية quot;كريوتزسوناتاquot; التي نُشرت بعد وفاته وتوضح عمق معرفته بعلم النفس، ومهارته المتميزة في صياغة الرواية، وقد اتصفت كل أعماله بالجدية وعمق الخبرة في الحياة والطرافة والجمال. من اعمال تولستوي في شيخوته ايضا كتاب quot;ما الفنquot; الذي يوضح فيه أن الفن ينبغي أن يُوجِّه الناس أخلاقيا، وأن يعمل على تحسين أوضاعهم، ولابد أن يكون الفن بسيطًا يخاطب عامة الناس.
اراد تولستوي ان يعتزل الدنيا في دير بعدما اصيب بإلتهاب رئوي حاد، وأرهقته صحته وظروفه وعبقريته وزوجته التي سفهّت كل ما فعل خصوصا تبرعه بأملاكه للفقراء، فذهبت إبنته معه فجرا إلى محطة السكك الحديدية لتصطحبه إلى المكان الذي إختاره، لكنه شعر بدنو اجله فقرر ان يظل في المحطة ولا يستقل القطار، وطلبت إبنته أن يحضروا رجل دين، فجاء احدهم وطلب منه أن يردد وراءه بعض الصلوات، لكن تولستوي قال وهو بين سكرات الموت: لا اريد ان يكون آخر ما أنطق به كذبا في كذب! ودُفن في اليوم التالي على اطراف مزرعته بناء على وصيته.