عبدالله كرمون من باريس: تسمى الرواية التي صدرت مؤخرا للراحل محمد لفتاح عند دار لاديفيرونس، في التزامن مع مجموعة قصصية أخرى، ب: quot;هوىquot;. سعى فيها كدأبه إلى التغني بجماليةِ ورمزيةِ اسمِ هوى؛ الذي أطلقته وردة أمها- اسم آخر طالما راق له- على ابنتها توأمة محبوب؛ من سيعرف فيما بعد بزاباتا. بغض النظر عن النية المستترة خلف تلك التسمية، التي تستجدي نوعا من الفجور الذي ينبجس بغتة لدن التحريف بل الإمالة البسيطة لأول حروفها عندما يصير quot;حْوَاquot; إذ تتعرف عليه الأذن التي تألف تلك اللغة العامية، وهي تعني quot;الجنسquot; بلغة الشارع، فإن البنت وإن كُنيت، بهذا المعنى، باسم الحب نفسه، فقد ارتبطت بها، بنفس الطريقة، سمة التسري بأكثر معادلاتها فجاجة.
لا أحد يجهل أن أغلب الكتب التي تصدر بعد رحيل أصحابها تطرح إشكالات كثيرة، على مستويات متعددة. بدءا بالتساؤل الأقصى والممزوج بخبث، حول صحة نسبة النص المعني إلى من ينسب إليه. ثم تأتي بعده في مراتب دنيا، عمليات تهذيبه، زيادة ونقصانا. إلى ما إلى ذلك من ترتيب وعنونة وتبويب.
لا يخفى في الواقع على المهتمين والمتذوقين بل العارفين بأدب كاتب معين أن يتعرفوا على خصوصياته الكتابية، أسلوبا وتركيبا لغويا، ومضامين. وإن كان يصدر أكبر المنتحلين، عبر العصور، من هذه الفئة ذاتها، وتاريخ الآداب يزخر بالعديد من النماذج.
لا أدعي أن شيئا من هذا القبيل قد طال أو يطال كتابات محمد لفتاح التي صدر معظمها بعد رحيله. غير أن الناشر لا يحاول أبدا أن يحيط القارئ علما بالحالة التي كان يتواجد عليها النص المخطوط قبل أن تمتد إليه الأيدي، ولا يوفر معلومات من قبيل إن كان قد أنهاه المؤلف وكان بالفعل في صيغته النهائية. أمر آخر هو أنه لا يبوح لنا أبدا بكون المؤلف قد نوى فعلا نشر ما خططه، هل أوصى بذلك، هل ترك وصية كتابية تتعلق بمسوداته. لا نقرأ شيئا من هذا القبيل في مقدمة أو توطئة لم توجدا نهائيا كعتبات هامة لأعمال كاتب اختار الصمت مثل لفتاح، أو دفع إليه دفعا، وهما سيان.
ما جعلني أثير هذا الأمر إذن هو ذلك التداخل الذي يوجد بين رواية quot;هوىquot;، التي نحن بصدد تناولها، وبين روايته الأولى quot;أوانس نوميدياquot; حد التطابق أحيانا. لكننا عندما نحب كاتبا معينا، فلا يصدق عليه في خلدنا أبدا قول الشنفرى:
وإني كفاني فقد من ليس جازيا بحسنـى ولا في قربـه متعلل
فنغض الطرف عن هناته الطفيفة، إذ الصرح الأهم شامخ ومنيع. لكن انعدام التوضيحات اللازمة، جعلني أخمن في فرضيتين: أولاهما: إما أن رواية quot;هوىquot; هي نوع من الخطاطة الأولى لرواية quot;أوانس نوميدياquot;، إذ نجد علامات كثيرة تحيل على ذلك. غير أن تأريخها بزمن تال لكتابة الأوانس يفند من جانب هذا الطرح. وإن لا يلزم اعتبار اقتراح تاريخ معين كتابا مسطورا.
ثانيهما: أن quot;هوىquot; رواية أخرى مستقلة تماما عن رواية quot;الأوانسquot;. وإن كانت عناصر النفي أو الإثبات لا تقدم ولا تؤخر شيئا في شأن حسم الأمر، تأكيدا للفرضيتين أو دحضا لهما.
نجد في رواية quot;أوانس نوميدياquot; شخصين مركزيين هما سبارتاكوس وزاباتا يشتغلان مثل قوادين في ماخور بمدينة البيضاء. ثم هناك كل تلك الفتيات quot;القحابquot; اللائي اتخذن من أسماء الورود والزهور كنيات لهن، وكذا إنغفار المثلي النرويجي والسحاقية الموظفة بقطاع الجمارك. إذا ما تجاهلنا هارلد الذي لم ينجم من نزو زاباتا ذي الوشم الدال على صدره.
نلتقي بأهم هؤلاء الأشخاص في رواية quot;هوىquot; باستثناء موظفة الجمارك، بتغيير يسيرٍ أحيانا في مهنته أو مصيره. ظل زاباتا وسبارتاكوس على حال مهنتهما وتورطهما الدائم في عالم المخدرات والقوادة والجنس والعراك. غير أنهما عوض أن يكونا متحالفين مثلما كان عليه حالهما في quot;الأوانسquot;، فهما عدوان هنا، يقفان بالمرصاد أحدهما للآخر. كما أن وجود سبارتاكوس في quot;هوىquot; جد باهت بل أنه ذُكر فقط في البداية واختفى في الأخير نهائيا.
نعثر أيضا في آخر quot;هوىquot; على بعض مقاطع الأوانس في حرفيتها تقريبا، ما يمنح للشك هنا بعضاً من اليقين. ففي رواية quot;أوانس نوميدياquot; لم نتعرف على أصل وفصل زاباتا. لكن quot;هوىquot; تتأسس على جنيالوجيا الأصل والنسل. لذلك، تبادر إلي أن لفتاح قد أراد في البدء، قبل أن يتخلى عن ذلك، أن يجعل ما كتبه في بداية quot;هوىquot; فصلا أولا للأوانس. أو أن الناشر، في غمرة نصره التجاري، سعى دون أي اعتبار آخر، إلى التلفيق ورتق ما لا يرتق.
تبدو، مع ذلك، رواية quot;هوىquot; مستقلة، ومؤسسة لموضوعة انثربولوجية هامة، طالما لَمّح إليها لفتاح ضمن أعماله السابقة، ألا وهي نكاح المحارم. هذا المنع والمحرم الذي عرفته الإنسانية منذ أشد عهودها توغلا في الطبيعة، بالموازة مع شعوب أخرى لم يحط لديها نهائيا بأدنى منع مقدس أو مغلف بغلالة قداسة.
كان اسم زاباتا كما أسلفت هو محبوب توأم هوى_والذي استوحي مثله مثل سبارتاكوس من فلمين معروفين هما quot;عاش زاباتاquot; بالنسبة للأول وquot;ثورة سبارتاكوسquot; بالنسبة للثاني الذي يشبه بطل الفيلم كيرك دوغلاس، خاصة بالفلقة الظاهرة على ذقنه_؛ ولدتهما وردة التي كانت قحبة بحي بوسبير بمدينة البيضاء القديمة، وقد حُرف هذا الاسم أيضا عن اسم الفرنسي Prosper الذي يرجع إليه الفضل في تدشين ذلك الماخور المعروف في أول عهده، والذي كان يرتاده جنود مستعمري المغرب، مثلما يتسلل إليه أهل البلد أيضا.
بُذرت ثمة النطفة التي سوف تتفتق عن توأمين، بعد نزال جنسي بين وردة وجندي، عقب الإنزال الأمريكي في ميناء الدار البيضاء بعيد الحرب العالمية الثانية. كانت وردة تضاجعهم في جميع الوضعيات، وقوفا، على الجنب، فوق، استلقاء وغير ذلك. لكنها ذكرت أن الجندي السكران الذي زرع فيها، ما حصدت ثمرته مضاعفة كان قد أخرج من جيب معطفه كتابا وقال لها بأن ذلك شعر، وبأن الذي نظمه يسمى والت وايتمان وهو شاعر كبير.
حملت بهما عقب حميا النشوة والمحبة، ولم تجهض حملها. فولدت طفلا وبنتا جميلين مثل أنوار الشمس. كانت تدرك بأنهما سوف يُسميا أولاد الحرام أو بالأحرى أولاد الأمريكان، لكنها رعتهما حتى شبا، ثم نما بينهما حبٌّquot;حرامquot;_في خلد من يراه كذلك_ وفي نفي حب الأخ البريء لأخته. ألم يذكر الكاتب نقلا عن كتاب ستندال في الحب أن جمال امرأة، وإن كانت غير مرهونة لنا، هو وعد سعادة؟
أراد بهذا، ماعدا توغله المعتاد في عوالم الليل وتبعاتها، بكل تفاصيل ذلك، أن يشجب ما أملاه تزمت البشر وصفاقة الآلهة. تنامى الحب بين هوى ومحبوب، واتصالا اتصالا جنسيا، وباركت فيه أمهما حب ثمرة حبها السالف، ليلة جماعهما الأول، الذي هيأته وردة بنفسها كما يليق، اشترت كل ما يلزم لذلك الشأن الجلل. وحضّرت معظم ما يفي ببذخ تفتح جنس استثنائي؛ الورود والزهور بكل أشكالها. ثم البخور. ألم يقل مسيلمة لأعوانه أن يعدوا البخور، عندما أحاط به رجال النبية سجاح، وقبل أن تصل إلى قلعته، إذ كان يتنازع معها النبوة، قائلا لهم بأن المرأة متى شمت البخور ذكرت الباه، وكان له ما أراد حسب الأصفهاني.
في quot;هوىquot; حقق لفتاح أمرين قريبين إلى نفسه، وملتصقين التصاقا بروحه. أولا: ميله، الذي كبحه كثيرا، كي ينسج نصا عن نكاح المحارم. ثانيا: تعاطيه للشعر في روايته على لسان أبطاله، ما كان هما ذاتيا دائما من همومه الثقافية والروحية.
لن نتعرض في هذه العجالة إلى كل مناطق quot;هوىquot; لفتاح. غير أنني سوف أشير إلى أن الكاتب قد وفق في التغني بعلاقة محبوب بهوى، بل لمح في طيات الرواية إلى نية محبوب المبتسرة في نكاح وردة أيضا. ما سوف يجعل شعرية لفتاح تكتمل تماما. غير ذلك فقد جرب فيها قدرات جِنه الشعري تجريبا.
جمع الأمرين، الشعر ونكاح المحارم، عندما ذكر ما روته وردة من شعر والت وايتمان حيال التصاق هوى بزاباتا في مضاجعة quot;حرامquot; في وضعية ورقتين ملتحمتين. قالت لهما: quot;لقد صرتما ورقتين، ورقتين من عشب (Leaves of grass)!
[email protected]