كانت تجلس أمامي في غرفة الضيوف وتبتسم ابتسامة لا يراها الآخرون، وفي وجهها تباشير الأمل التي ستفقده نفسي الملتاعة على طول الأيام القادمة والتي مرت سريعا وها هي تشارف على نهاية حياتها بإن تعد الأمواج الباقية لنهرها الذي ساح- فلم يعد يملك مسراه. الإبتسامة لم تظهر على وجهها، كانت خفية أحسها من بين البشرة الرائقة وفي عينيها اللامعتين- بهما تنقل الفوران والإبتهاج في احتفال كبير رقراق. وإن أردت أن أتذكر الحديث الذي دار في تلك الجلسة سعتْ ذاكرتي أن تنطفئ، وتهجر إنتباهها عن دقائق الحياة وتفاصيل الواقع. لم يعد سوى وجهها وابتسامتها- تأتي ليس من العقل والذاكرة بل من مناطق الكهوف العميقة التي قضينا فيها أيام التحضر لبدء الحياة، وجهها وابتسامتها أمامي كأن الزمن الذي مر بعدها ومضى هو زمن راح يغتذي بالنسيان وينمو به كي يشير إلى أن الحاضر والمستقبل ndash; من دونها- لم يحدثا قط. في غرفة ndash;ستارة النافذة- لم أعد أستطيع الخروج منها.
وكانت شفتاها... السينما والمسرح حين يتداخل كل منهما مع الدنيا التي لا تنتمي إلى الماضي بقدر ما تنتمي إلى الذات العليا لحضور إله الحب الذي غفر لبني البشر غفلتهم المستمرة.
مجرد مستقبل عائم غير واضح مع أن اللحظة كانت تحمل في رحمها اللُحمة بما تكون من معنى ورغبة في أن يتم ردم الهوة التي هي الأفكار حين تبدو مستقبلية وبعيدة وغريبة ولا رابطة بينها.
وكان ثمة شرفة لإلقاء الخطاب وخشبة وقوف لرفع اليد، تلويح البدء، أو قبل النهاية، سلاما وانحناءة نحو جمهور غاضب لا يدرك عن ماذا تتكلم.
قلت لها إنني أدرس الزمن وأحبذ أن أطلعها على ما أتوصل إليه، فقالت بلهجة طيعة سلسة إن الزمن لا وجود له إلا في المدينة. الأرياف والحقول لا تعرف هذا الإشكال الغائب الذي أحضرته أنياب المدينة كي تدخل التاريخ، وتقرأ رواياتها بفخامة أمامه، وتعيد على مسامعه صور بهرجة الذات.
يغيب الزمن حين يتحد الأفراد ويحضر حين يتفرقون.
وهي بذلك تلهمني بإدراك قيمة الحب، ليس بالفكر بل بالمشاعر الكلية أن تجتمع وتحس بهذا المخلوق، quot;الكونquot; الغريب الذي لا يستطيع أحد الدخول فيه.
الإنشغال الدائم بنمو الحياة وترعرعها امام العين البشرية جعل الناس يهملونني وأكاد أفقد طوري، أصرخ كل لحظة من دون أن يسمعني أحد.
الساعة الآن الثانية عشرة ليلا- في هذا الوقت- ولا أدري كم من المرات العظيمة التي حضرت فيها وصرخت، حضرت وصرخت، إلى هذه النقطة، منذ فجر البشرية حتى الآن؟
ومع أنني في نهاية الطريق ولدت أمامي الرؤيا المباغتة والتي تشير إلى فكرة غير مألوفة ndash; فكرة أن بني البشر، متعسفون وضيعون، يظنون أن العالم مازال يدور حولهم، والإنسان هو معنى الخلق. لكن هناك أكوان ومجرات هائلة!
ومن دوني
يكون الإنسان مجرد هامش-
لم يخلق الله شيئا لأجله،
ولا يسمعه ولا تصله عباداته الوهمية-
ودياناته عبر التاريخ كانت حالة من حالات التعبير المضاد عن التفاهة والدنيوية المهملة لمسيرة ظل لا جسد له.
في اللا مكان - إن كان اللامكان هو الفضاء التخيلي للوجود - تم تعميري مخلوقا كاملا ndash; كونا كليا.
ولم أكن إلا صورة للخالق، وليس الصورة البذيئة، والتي يرطن بها الناس دوما، أنهم صورة الخالق على الأرض- تذكروا الحروب والفتن التي توقدونها بأنفسكم المليئة بالخداع والشر.
تنتظرون إلى أن آتي،أنا الكائن، وأطفئ الحرائق والخراب.
دائما أمامكم وحولكم، ليس بعيدا، أصرخ صرختي المدوية منذ فجر التاريخ من دون أن تسمعوني.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات