د.ثائر العذاري: صدر عن دار ينابيع بدمشق مؤخرا كتاب (صناعة الشاهد الشعري عند ابن مالك الأندلسي) للدكتور نعيم سلمان البدري، ليفجر بجرأة قضية غاية في الخطورة والحساسية، هي قضية الموقف من التراث ومنهج التعاطي معه، فما زالت الأوساط الأكاديمية العربية تنظر إلى الموروث العربي نظرة تقديس لا تسمح باتخاذ موقف نقدي منه، وكلما اقتربت النظرة النقدية من علوم اللغة زادت خطورتها بسبب الترابط غير المسوغ في الوعي الجمعي العربي بين هذه العلوم وقدسية القرآن الكريم.
يمثل ابن مالك الأندلسي المتوفى عام 672 للهجرة واحدا من أهم أعمدة النحو العربي، وما زال طلبة الدراسات العربية في الجامعات يتلقون النحو من من الكتب التي تشرح ألفيته الشهيرة، وهذا يزيد من أهمية الكتاب وخطورته.
تقوم كتب النحو العربي على بناء القواعد النحوية اعتمادا على كلام العرب القدماء الذي نقله الرواة وحددت تلك الكتب عصرا يمتد من الجاهلية حتى نهاية القرن الأول الهجري أطلقت عليه تسمية عصر الاحتجاج، فلا يحتج النحوي لإقامة القاعدة الا بالكلام الذي ينتمي إلى هذا العصر. أما ما قيل بعد هذا العصر مهما بلغ من الفصاحة فلا يعتد ب هالا على سبيل التمثيل لا الاستدلال.
ولهذا عني النحويون أيما عناية بالشاهد النحوي وروايته وجمعه وتحقيقه، ويستشهد ابن مالك بما يزيد على ألفين وخمسمائة بيت، يعدّ بعضها شاهدا وحيدا للاستدلال على القاعدة النحوية الظاهرة فيه.
وكثير من شواهد ابن مالك مجهولة القائل، وهذا ما أشار اليه بعض العلماء القريبين من عصره، وقد عمل مؤلف الكتاب د.نعيم سلمان البدري على وفق منهج شاق يستلزم مبلغا كبيرا من الجهد والوقت مقابل التوصل إلى نتائج دقيقة فيما يتعلق بالتحقق من شواهد الرجل. فقد بحث في كتب النحو والمعاجم والموسوعات والدواوين الشعرية عن الشواهد وعن تعابير جزئية منها وأحيانا عن كلمات الشاهد مفردة وتحقق من أسماء القائلين وأنسابهم. وأوصله هذا المنهج إلى نتيجة خطيرة تفيد أن ما يزيد على سبعمائة بيت شعري اعتمد عليها ابن مالك في الاستدلال على القواعد النحوية كانت من اختراعه هو، صنعها ونسبها إلى عرب كانوا يعيشون في عصر الاحتجاج.
وربما يكون أخطر أنواع انتحال الشاهد الشعري ذلك النوع الذي يقود إلى استنتاج قاعدة نحوية لا وجود لها في لغة العرب كما أشار الكتاب مثلا إلى الشاهد:
من القوم الرسول الله منهم لهم دانت رقاب بني معدّ
وهو مجهول القائل ولم يستشهد به أي نحوي قبله ليجيز قاعدة غريبة تفيد بإمكانية دخول (الـ) الموصولة على الجملة الاسمية.
ومثله البيت:
صاح شمر ولا تزل ذاكرَ الموتِ فنسيانه ظلال مبين
إذ يستشهد ببيت من صنعه ليثبت قاعدة لا وجود لها في كلام العرب هي عمل (زال) المسبوقة بالنفي.
وقد يخترع ابن مالك الشاهد وقائله،فهو يقول مثلا:
وقد يفصل بأمر المنادى بينه وبين حرف النداء، كقول جدابة بنت خويلد النخعية تخاطب أمتها لطيفة:
ألا يا فابكِ شوالا لطيفا وأذري الدمع تسكابا وكيفا
وهذا هو الأمر المضحك المبكي كما يقال فجدابة ولطيفة شخصيات وهمية لا وجود لها الا في مخيلة ابن مالك الذي اخترعهما وأقام على اختراعه قاعدة نحوية غريبة شاذة.
وفي هذا الشاهد الشعري:
إذا جئت دعداً لا أبين كأنني إلى آل دعدٍ من سلامان أو نهدُ
يحاول إثبات إمكانية دلالة حرف الجر (إلى) على معنى (في)، غير أن المشكلةlsquo; فضلا عن أن البيت لم يرد عند غيره، في أن دعد وبطونها سلامان ونهد قبيلة من اختراع ابن مالك ولا وجود لها لا في الشعر ولا في كتب الأنساب.
ويبدو أن الرجل كان يستعذب اختراع الشواهد فهو أحينا ينظم شاهدا وينحله لقضية معروفة وعليها من شواهد عصر الاحتجاج ما يكفي ويزيد، ومن ذلك مناقشته ظاهرة تعرف في كتب النحو (لغة أكلوني البراغيث) التي يجتمع في فاعلها الاسم الظاهر والضمير الدال عليه بل إننا لا نعدم شاهدا من القرآن الكريم في قوله تعالى ({ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الذِينَ ظَلَمُوا }، فيهمل الشواهد المعتبرة ويأتي بشاهد مصنوع ينسبه إلى شاعر يرثي مصعبا بن الزبير:
لقد أورث المصرين خزيا وذلة قتيل بدير الجاثليق مقيم
تولى قتال المارقــــــــين بنفسه وقد أسلماه معبد وحميم

والشاعر هو ابن قيس الرقيات غير أن مؤلف الكتاب وجد أن هذه قصيدة معروفة له لكن بيت الشاهد وهو البيت الثاني لم يورده أحد ممن روى القصيدة غير ابن مالك.
وبعد فهذا كتاب سيكون له أثر مهم في مراجعة كتب النحو العربي، وهو دعوة لتنقية القواعد النحوية المدرسية التي تدرس في الجامعات من كثير من القواعد المختلقة والشاذة التي وضعها نحاة مثل ابن مالك ليظهروا بأنهم أعلم الناس بالنحو وكلام العرب.