حميد عقبي من باريس: في الكثير من أفلام المخرج السينمائي الرائع انجمار بيرجمان نجد شخصيات متعبة ومرهقة ومريضة وبعضها على وشك الموت او شخصيات مضطربة ومعاقة او مصابة بأمراض نفسية وقد حرص في العديد من أفلامه تصوير لحظات الموت عبر الصورة والحوار، لناخذ مثلا فيلمه quot;صرخات وهمساتquot; فالسيدة صاحبة القصر تصرخ من الألم بسبب السرطان الذي ينهش جسدها وقد أتاح لها بيرجمان أن تتحدث وتكتب بعض ذكرياتها لحظات من السعادة والألم، في هذا الفيلم كأغلب أفلام بيرجمان حديث متواصل عن الموت ولعل الديكور بمحتوياته وسيطرة اللون الأحمر جعلنا نعيش بل نلمس ونحس بوجه الموت وسطوته ولعلنا في هذا الفيلم سنجد ان الحوارات في بعض الاحيان قصيرة لكنها معبرة واغلبها يدور حول الشخصية المعذبة فهناك من يستعجل موتها ورغم حضور الموت بقوة الا ان الانسان المادي لا يستفيد من هذه المواقف في حال فراغ الروح.
بيرجمان يتيح لبعض شخصياته يتحدثون الى آخر رمق أيّ الى اللحظة التي يفارق فيها الروح الجسد فهي لحظة ساحرة ومهمة حيث تنكشف الحقيقة امام الكائن الحي وتفاهة الآخرين وأنانيتهم
وفي هذه اللحظات يعترف الانسان بضعفه وغبائه ويمكننا ان نشاهد فيلم quot;الوجهquot; فالممثل الذي يجده الساحر في الغابة يكون في وضع مؤسف ويحمله الى العربة وهناك يظل يهذي الى ان يفارق الحياة، لكن بيرجمان يعيد الروح في بعض الاحيان للشخصيات الميتة لتعود تتحدث الى الاحياء وتتحاور معهم محاولة ان تحمل لهم بعض العبر ثم تعود لتموت مرة اخرى كون الموت في الكثير من الاحيان يحمل خلاص للنفس المعذبة.
مشاكل الازواج تحتل مكان كبير في افلام بيرجمان ويحرص ان يكون هناك حوارات خاصة ومهمة بين الازواج يتحدثون فيها عن مشاكلهم والخيانات الزوجية ومعنى السعادة والاستقرار وفي الكثير من الاحيان تنتهي العلاقات بالانفصال والتعاسة ويذهب كل واحد لطريقه ويتبعثر الحلم، ولعل من يشاهد فيلم quot;مونيكاquot; يحس بفداحة الفراق فالشاب (هاري) التي قامت (مونيكا) باغرائه ثم سفرهم للجزيرة حيث الحلم واللذة والجنس ولكن سرعان ما انهارت هذه الجنة لتتحول الى جحيم مع ظهور معالم الحمل على مونيكا وبعد ان ينفذ الغذاء والشراب تتحول الساحرة الجميلة صاحبة الجسد الرائع المغري الى وحش جريح عندما تضطر لسرقة قطعة من اللحم وتركض هاربة من الشرطة بين الاحراش، وبعدها تعود للمدينة وتصبح زوجة وتلد طفلة ولكنها تترك زوجها وابنتها وتفر مع عشيقها او صديقها الاول وفي هذا الفيلم نسمع الجدل الصاخب بين الزوج والزوجة ويقوم هاري بضربها وتنتصر مونيكا للذة والعشيق تاركة الزوج والابنة.
بيرجمان في افلامه يتيح فرصة للشباب التحاور والجديث عن احلامهم بكل عفوية والجدل حول قضايا اكبر منهم والتعبير عن وجهة نظرهم تجاه الاباء او الاسرة في فيلمquot; الفراولة البرية quot; يعثر البرفيسور اسحاق على شابين وفتاة ويحملهم معه على السيارة نسمع الكثير من الجدل حول الحب والالة والمستقبل هم يتجادلون ويتعاركون كاطفال، في فيلم quot;كما في المرآةquot; الابن يسال والده عن معنى الحب ونرى كارين تعامل اخوها كانه صديقها وحين تصاب بازمة وفي بطن القارب تدفع اخوها لممارسة الجنس معها، كثيرا ما يختار بيرجمان اماكن غريبة ليكون بها احداث او حوارات مهمة مثلا القارب نجده في فيلم quot; كما في المراة quot; زوج كارين مع الاب يتحدثون عم مرض كارين في فيلمquot; الوجهquot; بداخل العربة التي تتوغل بداخل الغابة هذا المكان الذي يتحول لعالم غريب ومفزع يدور جدل هام داخل العربة نرى الاجساد تهتز وهي تتحدث بمعنى ان المكان داخلي او خارجي له تاثير كبير على الجسد ويحرص بيرجمان في احيان كثيرة ان يكون الجسد مضطرب او غير متوازن بسبب تاثير المكان ويكون الحوار متقطع في بعض الاحيان وقد تتدخل بعض المؤثرات الصوتية مثل صوت الرعد او الريح فنشعر نحن ايضا برعشة الجسد من خلال الحوار.
انجمار بيرجمان يعطي مساحة للنساء داخل الفيلم اكثر منها للرجال بل ان احد افلامه لا يوجد بها اي شخصية رجل وهو فيلم quot;الشخصيةquot; فنحن في هذا الفيلم امام شخصيتان نسائية الاولى ممثلة مسرحية فقدت صوتها بسبب ازمة او انهيار عصبي والاخرى ممرضة وتعيش الشخصيتان في مستنجع باحدى الجزر حيث لا يوجد الا صوت الطبيعة، الممرضة تظل تتحدث والاخرى صامته كاننا امام البحر بصخبه والارض بصمتها تتحول العلاقة الى علاقة جنسية وغياب الكلام في بعض الاحيان لا يعني غياب الحوار فالاجساد تتحاور ويمكننا ان نحس بما يدور بدواخل الشخصيات فهي تقترب من بعضها وتتخاصم ويظل للطبيعة حضور بارز من خلال صوت المطر وكانه الراوي.
بيرجمان يقدس المراة ويعطيها مساحة للتعبير عن نفسها وهو يقدم نساء من مختلف الاعمار ولكن مهما كان عمرها فهي تظل جذابة وقوية ولديها ما تقوله وتحكي عنه وهي لا تستسلم بسهوله وقادرة على تغيير اقدار الرجل والاستغناء عنه في اي لحظة ولناخذ مثلا فيلم quot; العلاقةquot; تلك المراة التي تخون زوجها وتختار عشيق وهي مستعدة للاستغناء عن زوجها واولادها والسفر معه بل تسافر ورائه ولكن عندما تحس انه لا يحبها او غير قادر على اسعادها وتكتشف انانيته فهي تستغني عنه وعن زوجها كي تعيش لنفسها، وكارين في فيلم quot;كما في المراةquot; تستغني عن زوجها لتخلق لنفسها عشيق هو الاله وهي قادرة على وصفه والاحساس به وتصويره لنا من خلال حديثها وفي فيلم quot;صرخات وهمساتquot; انيس المريضة على حافة الموت لا يمنعها هذا من الارتماء في احضان خادمتها حتى لوفهمنا ان هذه العلاقة جنسية.
الحوار في كثير من افلام بيرجمان قادر ان يغوص ويصور لنا العالم الميتافيزيقي اللامرئي رغم غرابته. ولعل اهتمام بيرجمان بهذا العنصر كرد فعل ضد الاتجاه المادي والمتغييرات الاجتماعية التي حصرت الانسان في زاوية ضيقة لتسلبه روحه فصورة الموت والاله والملائكة والشيطان حاضرة بقوة في اغلب افلامه رغم انه كما سبق واشرنا في الحلقة السابقة انه لا يؤمن ببعضها ولكنه يترك للمؤمن ان يعبر عن وجهة نظره ويتحسس هذه العناصر والعوالم الغامضة ويحلق معها، وعندما نستمع الى الحوار بافلام بيرجمان نحس باننا امام شاعر ورجل عاشق للمسرح الى حد الثمالة وهو يتعمد في بعض الاحيان اختيار الاسلوب المسرحي في الالقاء بل بعض المشاهد هي اشبه بمشاهد مسرحية اوتدور على خشبة المسرح ويمكنكم مشاهدة فيلمه quot;بعد العرضquot; كمثال لذلك وسنجد ان بيرجمان يختار شخصياته من الوسط الفني اي الشخصية تكون لها علاقة بالفن وخصوصا المسرح والموسيقى ويقوم بتسريب بعض آرائه حول هذه الفنون ويصور رؤيتها تجاه العالم والكون والحياة والموت والسعادة والتعاسة وكل فيلم هورؤية جديدة مفعمة بفكر فيلسوف شاعر ولنقل باختصار انسان فنان.

للاطلاع على الجزء الاول
http://www.elaph.com/Web/Culture/2010/8/587139.html