الحلقة الاولى

الفن الفطري العربي..من التجارب الأولى (2): المصري (محمد علي) وتدوين السيرة المجتمعية

علي النجار: إن كنا اخترنا مادة الحجر الصلد نافذة نطل من خلالها على أهم منجز للفن الفطري العراقي، لوضوح هذا المثال و اكتمال شروطه الأدائية وميزته التصنيفية. فان السائد في منجز الفن الفطري المصري (التشكيلي) هو الأداء ألمسندي الملون. رغم وجود بعض الأمثلة النحتية. ذلك لاتساع مساحته الأدائية والتي اشتملت على الإفصاح عن رموز الذاكرة الشعبية في بعدها الحكائي والواقعي الاجتماعي والسياسي. وكذاك على تأثيرات المنمنمات الإسلامية ومفردات الزخرفة الشعبية المحلية. إضافة للذاكرة الطفولية المدنية والريفية ثم الأثر التاريخي. ومن اجل الإحاطة بمجمل هذه التفاصيل أو بمعظمها، فقد اخترنا أعمال الفنان الفطري (محمد علي) كأوضح مثال لذلك. وكنموذج ريادي حديث في نفس الوقت. هذا لا يعني انه الرائد الأقدم لفترتنا التاريخية هذه بشكل مطلق. فالذاكرة الفنية الفطرية المصرية تعج بالعديد من الرواد و المشتغلين.

(محمد علي) وشمولية التعبير:
مثل بقية الفنانين الفطريين في العالم لم يكن يخطط محمد علي لان يمارس فن الرسم. لقد فاجأته مقدرته التعبيرية بعمر متقدم. وان كانت بالنسبة له مفاجأة دراماتيكية بشكل ما. إلا ان هذه المفاجئة استطاعت ان تفجر كوامن دواخله تعبيرا عن واقع معاش ثم متخيل. أو كلاهما معا. وحول هذه البداية يقول الفنان: (عندما طلع الوجه) يقصد به وجه (الشيخ إمام) الذي حاول ان يرسمه لأول مرة في حياته (بدأت البسه بدله وأقعده على كرسي. وأحط له رجل على رجل وامسكه عود (3)). ثم يتابع في موضع آخر (بدأت ارسم أقنعة، بتأثير من حرفتي التي آكل منها عيش وهي صياغة الحلي التي تركتها بسبب إيماني بما كنا نعمله مع الشيخ إمام رغم السجن والمعتقلات والحرمان). كان ذلك في عام (1967)، علما بأنه من مواليد (1930). فالرجل تفتحت قريحته الفنية الفطرية في خضم الأحداث السياسية الدراماتيكية التي كانت تشهدها المنطقة العربية وقتها، وفي المركز منها بلده مصر. ونستشف من حديثه هذا على ان هناك رغبتان تتنازعه. الرغبة الأولى لتحقيق ذاته الإبداعية ومنها مهنته التي لا تبتعد في صميمها عن الولع الفني، وكذلك محاولة تحقيق ذاته السياسية الاجتماعية من خلال تطويع مقدرته الإبداعية وموهبته التزيينية (الصياغة) لصالح فطرته التشخيصية الواقعية الكامنة والمنفلتة بسبب الحراك الاجتماعي الاحتجاجي. ومن ثمة جاء الإفصاح الكامل لأدواته أو مقدرته التعبيرية بعيدا عن الأطر الأكاديمية المدرسية المحلية والعالمية، و لكونه أمي لم يتعلم القراءة والكتابة. لم يملك في واقع أمره إلا الفطرة التي طوعها لتساعده على الإفصاح بحدود قدراتها التعبيرية البرية.
لقد مهد الفنان (محمد علي) للاعتراف بالفن الفطري في بلده مصر من قبل عامة الشعب من خلال نشاطه المصاحب لرموز أنشطة الحركة الشعبية السياسية الفنية الأخرى في الشارع المصري في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وكانت رسومه المرافقة لنشاط الشيخ إمام الأدائي والمفسرة لأشعار (احمد فؤاد نجم) السياسية، الدور الكبير لتعريف الوسط الشعبي والجامعي في نفس الوقت بهذا الفن. لقد انتشرت رسوماته لما تحمله من بساطة تعبير ووضوح ولتتجاوب ونبض الشارع للحد الذي استفزت فيه السلطة، ولم يسلم محمد علي على أثرها من الاعتقال. وان كانت رسومه لهذه المرحلة، حالها حال الرسوم الكاريكاتورية تحمل روح النقد والتحريض وتندرج ضمن نفس الوظيفة السياسية أو الاجتماعية. فكلا الأدائيين (رسوم محمد علي والرسوم الكاريكاتورية) تقاربا في مواصفاتهما ولو بنسب معينة مثل اختلال نسب الأشخاص المرسومة وحسب تفاضلية الرسام. وانعدام المنظور الخطي، وحدة وخشونة وتسطيح الملونة، وكذلك والاهم هنا تقارب دلالاتهما النقدية. ورغم ذلك فان رسوم محمد علي ومن خلال ملونتها الفطرية الصريحة وتفاصيل واقع المحيط الأخرى وشروط عملها ألمسندي، استطاعت ان تحافظ على قيمتها المعنوية كرسوم تحقق اشتراطاتها الفنية الفطرية.
محمد علي ابن مدينة القاهرة ومحلته الشعبية المكتظة (بولاق) تتشعب دروبها وأزقتها، وأنواع أزياء ونماذج أناسها ومهنهم وعماراتها. بعد ان فرغت آو استراحت نفسه من هموم السياسة، آو بعد ان أفرغته الظروف المستجدة من اهتماماته بها وجد ضالته التعبيرية في مشهدية مسالك وشعاب هذه الدروب والأزقة. والفطرة مجبولة على الوازع الاجتماعي، مثلما الألفة مرهونة بالتفاصيل الاجتماعية الشعبية. وحينما عاد الفنان لهذا الصخب مرة أخرى، ارشف للفن المصري تفاصيل صخب هذه البيئة المدوم.
يذكر (سيد هويدي5) عن الفنان: (انه في مرحلة سابقة تخلى عن الارتباط بالقصائد واتجه إلى رسم الحارة وما يدور فيها بمسحة من البهجة والتفاؤل. حيث تناول المواليد الدينية، وحفلات الزواج والسبوع وزحام الأسواق، والعاب الأرجواز، والسيرك الشعبي وصخب الباعة الجائلين والمداحين والمشعوذين وصور المشربيات والبيوت القديمة والنسوة بالملاءات اللف وأزيائهم المزركشة وألوانها الصارخة). لقد اكتشف الفنان ذاته التعويضية. فبذرة الفن التي نمت وسط الهم الجماعي تحولت لصالح المشهد الاجتماعي الواسع. وتحولت تفاصيله الصياغية الحرفية الزخرفية التي نفض يده عنها إلى صياغات لتفاصيل تنبض حياة. وان يكن من ميزة بارزة أو متفردة في وقتنا الحاضر للرسوم الفطرية، فهي امتلاكها لهذه السعة أو الكثرة من تفاصيل محيط البيئة والتي نوى الفنان رسمها أو سبر غورها كما يحلو له. ليس كما حذلقة صناعة الرسوم الأكاديمية وبقية مدارس وسبل الفن الأخرى. بل بصدق ما تستشفه هذه الفطرة مما يمثل أمامها، أو مما تحاوله من تحقيق لأحلامها وبتفاصيل مستقاة من خضم الواقع المعاش. فليس هناك من مجال للحذلقة بقدر مما تدركه حواس الفنان ويحققه بصره.
في المثالين السابقين استشهدنا بفنانين مدنيين وبخلفيات ثقافية مختلفة. ونرى استكمالا للموضوع الاطلاع على نموذج آخر من المساحة الافتراضية للفن الفطري المصري، ذلك لسعة مساحته. وهذا المثال متوفر في أعمال الفنان الفطري (صلاح احمد حسونة).

صلاح احمد حسونة فطرة الريف واختراقات السياسة:

ابن قرية (شيرامنت). بدأ الرسم عن عمر يناهز الخامسة والأربعين. أي في العام الثمانون من القرن المنصرم. رسم حكايات من قريته ومحيط أسرته، كذلك مواضيع سياسية عامة عن بلده مصر وبعض بلدان العالم. ولم تكن السياسة بالنسبة إليه هما يوميا كما هي عند (محمد علي) في حقبة زمنية من عمره. بل كانت تعبيرا تضامنيا مع نكبة أو حدث مأساوي تعرض له بلده أو احد البلدان الأخرى وبحدود اطلاعه. وبنوازع فطرته الإنسانية. وهي رسومات لأحداث تزامنت وزمن واقعتها. حاله حال العديد من التشكيليين العرب عموما. لقد تناولت معظم رسومه جغرافيا و ميثولوجيا القرية. وكانت معبرا للعالمية، حالها حال أعمال نظرائه الرسامين الفطريين المبرزين. وان كانت السياسة قاسما مشتركا في أعمال أكثر من فنان فطري مصري، فهي دلالة على ما لتأثير الخطاب السياسي على المواطن العربي عموما والمصري بشكل خاص، ذلك للتأثير المباشر للتقلبات السياسية المتكررة التي مرت على هذا البلد العربي والتي مست تداعياتها الحياة اليومية لهذا المواطن والفنان حاله حال بقية المواطنين.
ان تكن جغرافيا القرية فضاء أكثر انبساطا ووهجا من المدينة كما في رسوم (صلاح). وان تمثلت رسوم محمد علي من خلال تجاور أو تقاطع تفاصيلها باستهلاكها لمعظم فضاء مساحة رسومه التي شكلتها حدة حواف مساحات عمارات مدينته. مثلما هو تأكيده على الملامح التعبيرية لشخوصه تكريسا لخصوصيتها وتفردها. فإنها تقع على الضد من ميزات رسوم صلاح التي تشكل البيئة الريفية الخلوية (بأشجارها وبيوتها و نباتاتها) كتل مستقلة أو متنافذة لكنها مبثوثة ضمن فضاءات رسوماته وبعمومية ملامح هي اقرب إلى الملمح الطبيعي العام. بالرغم من وهج الملونة. وأخيرا تبقى رسومات الفنانين الفطريين أرشيفا مكتظا بتفاصيل البيئة والفولكلور وبأحلام هي على بساطتها أو كما تدون أحيانا: (على سذاجتها) نبضا حيا لدوافع الذات الإنسانية الأولى والتي فاجأتها العاب الحياة والطبيعة وخفايا النفس. بعيدا عن حذلقة أساليب الصنعة الإدراكية المعقلنة.


الشعيبية طلال وإشكالية الفن الفطري المغربي:

لا يزال الجدل مستمرا في بلاد المغرب حول ما يدعى بالفن الفطري (6) أو (الساذج أو الخام أو البري) وان يكن للجدل ما يبرره، فذلك ناتج عن اختلاف ظروف نشـأة هذه الظاهرة الفنية في هذا البلد العربي. كذلك لدوره الأكثر فاعلية في تأسيس الفن التشكيلي المغربي. فان برزت النتاجات التشكيلية المغربية الحديثة متزامنة او متأخرة زمنيا بعض الشيء عن زمن انبعاث النتاج التشكيلي العربي في مراكزه الأبرز من القرن الماضي. فان ظاهرة الفن الفطري كانت الرائدة على صعيد الفن التشكيلي المغربي. من هنا يأتي الجدل حول اشكاليته بالنسبة للأجيال التشكيلية اللاحقة. أولا لكون ريادته ارتبطت بالفترة الاستعمارية. وما كان من دور للنخبة المستعمرة من التزام وتشجيع وتسويق لأعمال هؤلاء الفنانين الفطريين. بل الأكثر من ذلك العمل على تكريس هذا النمط الفني والإعلاء من شأنه وحتى لاحقا. على الضد مما حدث للعراقي (منعم فرات) الذي كان ملاحقا من قبل سلطة المتحف ( في حقبة النفوذ الاستعماري في العراق) ومن الوسط الرسمي وقتها أيضا. بالوقت الذي تجاهلت هذه الأوساط الغربية قيمة المنجز التشكيلي المغربي الحديث ومنذ بداية نهضته في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. اظافة للإشكالية المعرفية لمضمون السذاجة أو الفطرة. وهل ان تسمية السذاجة أو الفطرة لنتاج هذا الفن تصلح لها أم تبقى قاصرة عن الإحاطة بميزات هذا النتاج الفني الذي يتعدى في بعض من تفاصيله مفهوم الفطرة أو السذاجة (رغم ما تحمل تسميته بالسذاجة من إشكالية غالبا لا تتوافق و طبيعة ومميزات ومصادر هذا النمط الفني). وان كانت السذاجة مرادفة للفطرة في بعض التفسيرات. فاني أجد ان هناك اختلافا واضحا في نوايا كلاهما. فالفطرة بشكل عام تشكل المكنون الأكثر نقاء وصفاء من مكنونات أو محركات الذهن البشري. أما السذاجة، فمع كونها تشترك مع الفطرة أحيانا ببعض صفاتها، إلا أنها غالبا ما توحي بالغفلة وعدم الإدراك أحيانا أخرى. وهذا الأمر أجده لا ينسجم مع حجم وفاعلية المقدرة الفنية التعبيرية لنتاج هؤلاء الفنانين. على كل حال وبما إنني سوف اتعدى الخوض في مبحث أصل التسمية وإشكالاتها، فاني ارجع إلى أصل مبحثي المقارن.
رسومات الشعيبية طلال (مواليد 1929) مع مجايليها من الفنانين الفطريين المغاربة، مثل احمد الإدريسي الذي ولد في عام 1924 وتوفي في 1073 ومحمد بن علال ولادة 1924 وغيرهم. شكلت الظاهرة الأبرز وضوحا للفن الفطري المغربي في القرن العشرين، رغم تقصينا لأقدم مثل تمثل في رسم لمحمد ألرباطي في عام (1910). إلا ان الفنانة الشعيبية تبقى هي الأشهر من بينهم وكان لمنشئها البدوي دور مهم في إخراج رسوماتها على شاكلتها المعروفة بغلبة مساحة أحجام وجوه رسوم شخوصها الإنسانية التي افترشت معظم فضاء مساحات أعمالها. وجوه تماهت وصبغتها اللونية المشتقة من ملونة أنسجة الزرابي البدوية بألوانها الأصلية الصريحة الواضحة. رسومات تشكلت وسط حاضن مجتمعي أنثوي متدثر بطقوسه السرية والتي فاجأتها ريشة الفنانة في لحظات مكرها وصفائها وسذاجتها في ان واحد. وان كانت الشعيبية تنصف المرأة البدوية ولمغربية بشكل عام في مجمل نتاجها من خلال بهرجة محيط واقعها المتدثر بتلاوين قسمات تركت للزمن مجالا واسعا في حفر ملامحها. فهي أعمال تشكل واقعا ما، واقع يسميه مجايليها من التشكيلين المغاربة (الواقعية السحرية) كما هو حال نعتهم لمجمل تفاصيل أعمال الفنانين الفطريين المغاربة الآخرين. ويرجعونا مرة أخرى لهذه الإشكالية المصطلحية. وان كان الخيال يحكم بعض أعمالها. فهو يبقى خيال عصامي النزعة تختلط في ثناياه التفاصيل المرئية والذاتية المخبوءة في ذهن ملتبس الوعي ومجال الرؤية التعويضية (انغلاق المجتمع النسوي) التي أكسبت أعمالها بهرجها العاطفي الخاطف. هذه الوجوه تذكرنا بعض الشيء برسوم وجوه الفنان التعبيري الألماني (نولده) التي استمدت، كما هي أعمال الشعيبية، سطوتها التعبيرية من عمق وهج ودفء ملونتها ومن اكتضاضها على امتداد مساحة العمل، ومن التشويهات التعبيرية التي تفاجأ الناظر لها وتستحوذ على أحاسيسه قبل الإحاطة بمجمل التفاصيل الثانوية الأخرى والتي لا تقل إثارة عنها. لكن المقارنة لا تصح بشكل مطلق وأعمال (نولده) بدون الرجوع إلى مكونات (إنشاء) رسوم الفنان الفرنسي ألوحوشي (ماتيس) التي استوحاها من جغرافيا ومحيط المغرب وتسطيح زخرفة ملونته الشرقية. ومن محاولته استكناه الطبيعة الخلقية الفطرية، كما ثبتها في تشويهات مصوراته. وكما هي في رسومات الشعيبية مع اختلافات الأداء. كل هذه المقاربات اعتقدها شكلت عاملا حاسما لكل الاهتمامات المتحفية والشخصية الغربية لهذا النتاج التشكيلي المغربي المتفرد. وليس للشعيبية وحدها. ولا اعتقد ان في الأمر لغزا كما يراها الكثير من التشكيلين ونقاد الفن المغاربة وهو الآن يحاول الابتعاد عن منطقته التعبيرية والأدائية والفلسفية الجمالية والبحث عن مصادر إبداعية أخرى، ومن ضمن هذه المصادر أعمال الفطرة والخيال العلمي.
ان اخترنا رسوم الشعيبية مثالا للفن الفطري المغربي. فهذا لا يعني ان كل ميزات هذا الفن متوفرة في أعمالها. بل لتفرد خصوصية مصادرها الإيحائية الجغرافية (البيئة البدوية منها). وان استوفت مقاصدها هذه، فان مساحة الفن الفطري المغربي أوسع من ذلك بكثير. لكنها تبقى مقاصد محدودة بحدود حاضنها البيئي حالها حال كل النتاج الفطري الغربي، بل حتى العالمي. ولنا مثلا في أعمال الفنان الفطري المغربي الآخر ( احمد الورديغي) الذي اشتغل بستانيا وأنتج رسوما بتفاصيل من زهور ونباتات وكائنات بستانه الواقعي والمتخيل. كذلك الفنان المدني (احمد الإدريسي) الذي أدرج تفاصيل حياة مجتمعه المدني. وهكذا هو الأمر بالنسبة لبقية الفنانين الفطريين الآخرين.
نتاجات الفنون الفطرية بشكل عام، سواء رسوما أو منحوتات او منسوجات أو أي تشكيل آخر ولجت مجال العروض المتحفية العالمية الدورية منذ بداية القرن العشرين ثم اتسعت لتشكل ظاهرة فنية مميزة. ومع انتشارها اتسعت أهداف عروضها لتشمل عروضا تعريفية بثقافات الشعوب. وعروضا فنية مقارنة لأساليب تشكيلية حداثية كالسريالية والتعبيرية والوحوشية. او عروض دورية خاصة بالفن الفطري العالمي والتي شاهدت مساهمات عديدة لفنانين عرب ومن دول مختلفة. ومنها نتاجات الفنانين الذين تناولنا تجربتهم بهذا البحث المختصر. كما تم اقتناء العديد من أعمالهم. واعتبرت بعضها بمصاف الأعمال الفنية العالمية والمكرسة لصالات العرض المشهورة ولمضارباتها. اظافة لمتحفيتها. وان مثل العرض المتحفي احتفاءا ثقافيا حضاريا بهذه الأعمال، فعلينا الانتباه لهذا النتاج الفني والنظر إليه ليس بالمقياس المألوف من بضاعة الفنون التشكيلية المصنعة كالنتاج التشكيلي ألطباعي ألاستنساخي أو الصناعي الديكوري الذي يقتحم أذواقنا مجانا. بل في البحث والتمعن والتمتع بمكوناتها التشكيلية الخطية واللونية وباشتقاقات مرجعيتها البيئية الشعبية العلنية والسرية. وبهواجسها الذهنية. وباكتشاف منطقة الإثارة السحرية الأولى الغير مدجنة. ولنا في اشتقاقات مصادر الكثير من الأعمال التشكيلية العربية الحديثة من مساحة منجز هؤلاء الفنانين الفطريين أوضح مثالا على أهمية وفاعلية هذا النمط الفني. ومثلما تشير إلى ذلك الكثير من مصادر التشكيل المغربي الحديث.
شكلت نتاجات الفن الفطري ظاهرة واسعة في البلدان الأوربية كما وهي على أوسعها في الدول الأسكندنافية التي يطلق عليها بلدان الرفاهية. مثلما شكلت الظروف الصعبة والمحيرة عاملا مهما لظاهرة بروز مواهب فطرية عربية. فعالم الرفاهية (وهي نسبية) مثلما هو عامل الكفاية المادية فانه يتيح المجال للتفرغ ولو على شكل فترات متتابعة ان لم يكن تفرغا كاملا. كما يساعد على عدم طمر المواهب التي غالبا تطمر تحت وقع ظروفها المتشعبة الصعبة. لكن ما يبقى هو الاختلاف الواضح في معالجة كل من الفئتين لمواضيعه. فان شكلت بهرجة المدن وخطوط هندسة عماراتها واضحا ضمن اغلب رسومات الفنانين الفطريين الأوربيين، كذلك تأكيدهم على جمالية بيئتهم الريفية وإيحاءاتها. مع ذلك فإنها لا تقارن وسعة وتنوع مواضيع ومعالجات الواقع المتنوع للفنانين العرب. وهو اختلاف ثقافي بخصائص المدارية وبسطوة التاريخ ومضامينه الواقعية والبيئية الأكثر تنوعا ومفارقة، وبتنوع ازمنته السياسية الضاغطة في زمننا الذي يشيع الذائقة المغايرة، تتوفر لهؤلاء الفنانين الفطريين أفضل الظروف لتحقيق معجزتهم إذا ما وفرنا لأعمالهم مجال عرضها الذي يستحقه.

المقال هذا هو الجزء الثاني من مقال نشر في كتاب الفنون الفطرية في التشكيل العربي، نشر دائرة الثقافة والإعلام، دائرة الفنون، حكومة الشارقة. 2007
(3)ـ سيد هويدي: محمد علي الفن الخارق في فطرته. موقع بيان الثقافةـ تشكيل الكتروني.
(4)ـ المصدر السابق. (5)ـ نفس المصدر.

ـ مالمو